بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

الرؤيا الرابعة عشرة

          الرؤيا الرابعة عشرة
          جاء سيّدنا صلعم في جَمْعٍ كبير إلى منزل عبد الله، فلما دخل سأله عبد الله عن ذلك الجمع، فقال ◙ : هم جميع الأنبياء والرسل، وفيهم بعض الصحابة. فقعد ◙ ، وقعدوا جميعاً، صلوات الله عليهم أجمعين. ثم أخرج ◙ ، قمحاً وحمّصاً مقليًّا، ثم قال لعبد الله: ناد أصحابك. فصعد عبد الله على سطحه، فناداهم بأعلى صوته، فإذا هم قد اجتمعوا. ثم قال ◙ لعبد الله: ناد أصحابك الذين بالشام، فناداهم فإذا هم قد دخلوا، فعجز واحد من الأصحاب، الذي كان منزله بالقرب من منزل عبد الله. فقال ◙ : / عمله حجبه. يا للعجب، الذين بالشام يأتون والقريب لا يسمع. ليس الصحبة بالظاهر والقرب، إنما الصحبة بالصدق والإخلاص. فأكل صلعم وجميع الأنبياء والرسل، صلوات الله عليهم، وأكل عبد الله وجميع أصحابه. وأما من كان هناك من الصحابة فلم يأكلوا شيئاً.
          ثم قام ◙ ، فصلى بجميع من كان في المجلس ركعتين جهريتين، ثم دعا بعد ذلك دعاء حسناً، وإذا بشخص قد نزل عليه، ومعه قمقم من فضة مملوء ماء، وتكلم معه، وما عرف أحد ما قال له، ثم انصرف. فقال ◙ ، هذا جبريل.
          ثم كأن الكعبة في قبلة بيت عبد الله، وفي وسطها خُصة من ماء، ثم جرى ذلك الماء حتى ملأ البيت، وله رائحة حسنة، ولون حسن. ثم إن ذلك الماء فرغ من تلك الخصة، ثم يأتي ماء ثانٍ له رائحة ولون أحسن من الأول، وله نور، غير أنه لم يجرِ مثل الأول. ثم إن رسول الله صلعم يأخذ طبقاً من فضة، ويفرغ فيه الماء الذي كان في القمقم، وله نور يصعد إلى السماء، ثم يطلب نسخ ذلك الشرح. فتحضر له كلها إلا واحدة، فيأخذها جميعها، ويطهرها في ذلك الماء مرتين. ثم يقول لمحمد الفاسي: أَبَقِيَ عندك بعد هذا شك أن ليس في الشرح خلل؟ فيقول: لا، يا رسول الله. ثم يقول ◙ : من يرد أن يعمل بهذا الشرح يشرب من هذا الماء، وعلى قدر شربه يكون عمله به. ثم يملأ منه زبدية فضية، فيعطيها / لعبد الله، فيشربها كلها. ثم يعطي الأصحاب، كلاًّ على قدر حاله. ثم ينبع من الجانب الأيسر نهر، فيقول ◙ : هذا الكوثر، وكأن بئر زمزم في البيت بإزاء الكعبة. ثم يأخذ صلعم من ماء الكوثر فيسقي عبد الله، ويسقي الأصحاب. ثم يأخذ منه جرة ماء، فيصبها على عبد الله، ويصبها على الأصحاب، فكان ما يصبّ على الأصحاب ما يظهر على ثيابهم منه شيء، والذي يصبه على عبد الله يظهر على ثيابه، ومع ذلك يفيض من عبد الله ماء كثير، حتى يسيل ويملأ البيت.
          ثم يقوم ◙ ، فيصلي ركعتين، ويصلي معه كل من كان في البيت، ثم يدعو بعدهما، ثم يأخذ ◙ ، ثياباً في غاية الحسن، فيطهرها في ماء الكوثر، ويكسو ◙ كسوة حسنة، ويكسو الأصحاب، كل واحد على قدر حاله.
          ثم يؤتى بخيل كثيرة، فيركب صلعم أعلاها، ويركب الأنبياء، صلوات الله عليهم، والرسل، ويركب عبد الله وأهله وأصحابه، ويترك الصحابة، رضوان الله عليهم، في البيت، فيمشي صلعم ويمشون معه جميعاً في أرض سوداء، وفيها شجرة سوداء عظيمة، ثم يمشون في أرض بيضاء حسنة متسعة، ثم يمشون في أرض حمراء، وفيها شجرة عظيمة حمراء، ثم يمشون في الهواء، ثم كأن خشبة منصوبة بين السماء والأرض، فيمشون عليها، وهي بلا شيء يحبسها. ثم ينزلون إلى أرض خضراء، وفيها شجرة عظيمة، وبقرب الشجرة كتب مبددة، / وبالبعد منها كذلك. فينزل عبد الله فيجمع تلك الكتب كلها، ثم يعود إلى مركبه، ثم يَصِلون إلى باب عظيم، فيدخلونه، فيجدون ثلاثة بساتين، فيها أنهار جارية، وثمار يانعة، وحسن وجمال. وفي بعض تلك الأنهار حيتان عظام. ثم ينزل سيّدنا صلعم وينزلون.
          ثم يقول صلعم : هذه البساتين لك. الواحد منها ثواب خطبة الإفك، والآخر ثواب إدخالك السرور على الحموي بتلك المرائي، لأنه زاد بها إيمانه، والآخر ثواب كونك حرضته على نسخ باقي الشرح، وبينت له كيف يفعل، لأن الدالّ على الخير كفاعله.
          ثم إنه صلعم يعبّر ما تقدم من فعله في الرؤيا، فيقول عن الماء الذي غسل به الشرح مرتين: إن ذينك عالِمان، فيسميهما وهما يبينان لمحمد الفاسي أنه ليس في الشرح خلل، وأنه تطهير له من جميع الانتقادات والاعتراضات. وأن الطريق السوداء من السؤدد والرفعة، وحسن تسديد الأعمال بهذا الشرح، وأن الأرض البيضاء هي طريق ذلك الشرح. وأن الطريق الحمراء هي الشهرة التي فيه، وأن تلك الخشبة التي كانت في الهواء هي طريق الرجاء. فإن المشي في الهواء هو المعافاة من هذه الفتن، وإن اجتماع الأنبياء والرسل أمان لك ولأهلك ولأصحابك، وإن الأرض الخضراء هي الأعمال الصالحة وحسن في الإيمان. وإن جمعك الكتب هو مسائل من السنّة قد ضاعت فجمعتها أنت. وأما كون الماء قد فاض منك حتى جرى، فعلمك يشيع في الناس وينتفعون به، وإما لم / يظهر الماء على أصحابك فعلم كل واحد منهم على قدر حاله وما يكفيه، ولو لم يفعل ذلك معكم لكنتم تقولون: إذا جاء الأمر نحن معهم.
          وستأتيك رؤيا أخرى تبين لك هذا.
          ثم إن أبا عثمان يشكو إليه الوسواس في الصلاة، فيقول له: من حفظ ما قيل في حديث الإسراء لا يبقى له وسواس في الصلاة، ومن حفظ حديث الإفك يكثر حبه في عائشة وفي الصحابة، ومن حفظ ما قيل في حديث ابن الصامت يقوى إيمانه، ويذهب وسواس الشيطان، ويزداد يقينه، ومن حفظ ما قيل في حديث بدء الوحي يكثر ثقته بالله، ورجاؤه فيه، وخوفه منه.
          ثم يدخل المجد، ويقول لعبد الله: جزاك الله كل خير، فإنك كنت السبب في نسخ الفاسي الشرح، وعلى الله جزاؤك في أنك كنت السبب في إعطاء والدي ذلك الشرح. ويقول لمحمد الفاسي: جزاك الله خيراً أن أدخلت عليّ السرور بذلك الشرح. ويقول للحموي: جزاك الله خيراً، ما زال إحسانك يصلني. ويقول لمحمد الفاسي: اِعلم أن الله قد استجاب دعواتك. فيقول له محمد: سمّها لي. فيقول: هل أنت إلا فقير؟ لا أسميها لك.
          ثم إن رسول الله صلعم يجعل في رأس عبد الله عمامة بيضاء كبيرة، ويعطيه أربعة خواتم: واحداً من فضة، وآخر من ياقوتة حمراء، وآخر من زمرد، وآخر من جوهر. ويعطيه كتاباً، ويقول: هذا كتاب أنوار الإيمان وهو حديث ابن الصامت، ويعطيه كتاباً ثانياً، ويقول: هذا كتاب أنوار الصلاة وأعمالها، والنيات فيها، وهو حديث الإسراء.
          وكأن البيت يمتلىء نوراً حتى إنه لا / يظهر له سقف.
          ثم إن الحق سبحانه يخاطب عبد الله بن أبي جمرة، وكان من جملة خطابه، جلّ جلاله، أن يأمره بأن يزيد في ثلاثة أحاديث من الشرح جملة معانٍ حسان رائقة. فكان عبد الله يقول: يا مولاي، أليس قد قلت: إنه ليس فيه خلل؟ فيقول له: هذا زيادة حسن في الكتاب.
          ثم إن عبد الله يطلب من الله النصر، ويقول: يا مولاي، ليس لي من طلب حاجة ولا شكوى إلا غليك. فيقول سبحانه: أنا أعلم بك، وبما بك، وأنا أفرّج عنك إذا شئت، وأنا أقرّ عينيك بالنصر في الدنيا والآخرة. ثم إن عبد الله يسكت حياء من الله، فيقول له سيّدنا محمد صلعم : هذا موضع الحياء. هذا موضع الإدلال والطلب، اطلب ما شئت يقضى. من يبلغ هذه الدرجة يتمنى ما شاء يعطاه.
          ثم إن عبد الله يطلب من الله حوائج كثيرة، فمنها الموت على الإسلام له ولأهله ولأصحابه، وأن يمن عليه وعليهم بالسنّة، والموت عليها، ومنها أن يكتب في قلبه وقلوبهم الإيمان، وأن يؤيدهم بروح منه، ومنها الستر له ولهم في الدنيا والآخرة، ومنها العصمة له ولهم من الفتن. فكل ذلك أنعم به عليه.