بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أن النبي رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير في..

          141- قوله: (أَنَّ النَّبِيَّ(1) صلعم رَخَّصَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَالزُّبَيْرِ فِي قَمِيصٍ مِنْ حَرِيرٍ(2)...) الحديث. [خ¦2919]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى جواز لبس الحرير للعِلَّةِ المذكورة فيه، والكلام عليه من وجوه:
          الأَوَّل: هل يُستباح لبس الحرير(3) للضَّرورة إذا كانت على الإطلاق أو الضَّرورة(4) مقصورة على ما وردت فيه لا غير؟
          ظاهر اللفظ يفيد الاقتصار على تلك الضَّرورة بعينها، وقد اختلف العلماء في ذلك: فمِن ذاهبٍ ذهب إلى اطِّراد الضَّرورة حيث وجدها، ومِن ذاهبٍ ذهب إلى الاقتصار على ما ورد النَّص فيه ولم يُعَدِّه، وفائدة اختلافهم تظهر فيمن لم يجد ثوبًا للصَّلاة إلَّا ثوب حرير وثوبًا نجسًا(5) فمَن اقتصر على العلَّة المنصوص عليها ذهب إلى الصَّلاة بالثَّوب النَّجس، ومن اطَّرد وقاس، قال بالصَّلاة في ثوب(6) الحرير.
          الوجه(7) الثَّاني: أنَّ النَّبيَّ صلعم كان عارفًا بطِبِّ الأبدان، كما كان عارفًا / بطبِّ الأديان؛ لأنَّه ╕ لم يُرخِّص لهذين في لبس الحرير إلَّا للمنفعة التي فيه(8) للعلَّة التي كانت بهما، فدلَّ هذا على أنَّه ╕ كان عارفًا بذلك الشَّأن، ومما يبيِّن هذا ويوضِّحه، ما رُوي عن أحد(9) الصَّحابة أنَّه لقيه أحدُ مشركي أهل الكتاب، ممن كان عارفًا بالطبِّ ماهرًا فيه(10)، فقال له: إنَّ عيسى ╕ كان نبيًّا حكيمًا، ولم يكن نبيكم يعرفُ الطِّبَّ، فقال الصَّحابيُّ: أربعُ كلماتٍ قالها(11) النَّبيُّ صلعم اختصر(12) فيها الطِّبَّ، فقال الكتابيُّ: وما هي؟ فقال: قال ╕: «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، والحِميةُ رأسُ(13) الدَّواءِ، وأصلُ كلِّ داءٍ البَردةُ، ودواءُ كلِّ بَدَنٍ بحسبِ مَا اعْتَادَ»، فقال الكتابيُّ: لم يُبقِ نبيكم من الطِّبِّ شيئًا.
          الوجه(14) الثَّالث: هل لبس الحرير هنا مِن أجل التَّداوي، أو مِن أجل(15) لِينه عمَّا عداه مِن الثِّياب؛ لأنَّ غيره مِن الثِّياب(16) قد يتأذَّى صاحب(17) الحِكَّة بلبسها، ولم(18) يتأذَّى بلبس الحرير لِمَا فيه مِن اللين، فإذا قلنا: إنَّ لبسه مِن أجل اللِّين، فيجوز لبسه لصاحب الحِكَّة مطلقًا مِن غير خلاف(19)، إذ ليس له بدل منه، وإن قلنا: إنَّه للتَّداوي، فهل يجوز مع وجود غيره مِن الأدوية، أو لا يجوز إلَّا عند عدمها؟ أمَّا عند العدم فجائز بغير خلاف(20)، وأمَّا مع وجود غيره مِن الأدوية، فموضع يقتضي الخلاف.
          الرَّابع: أنَّ النَّبيِّ صلعم له أن(21) يُحَلِّلَ ويُحَرِّمَ ابتداءً مِن عنده مِن غير أن ينزل عليه / في ذلك قرآنٌ(22)؛ لأنَّه ╕ حَرَّم الحرير مِن غير أن ينزل عليه فيه(23) نصٌّ، ثمَّ رخَّصَ فيه في هذا الموضع، ولم ينزل عليه فيه شيءٌ، وهذا هو المراد(24) بِقَوْلِهِ تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ} [النساء:105]، لكن قد ذهب بعض العلماء(25) إلى أنَّ المراد بذلك الحكم بينهم فيما أراد(26) الله ╡ مِن التَّأويل فيما أنزل عليه وليس بالقويِّ، والصَّحيح ما ذهب إليه الجمهور، وهو(27) أنَّه عامٌّ في المنزَّل وغير المنزَّل حكمه ╕ نافذٌ في الكلِّ يجب على المكلَّف امتثاله، فإن ترك شيئًا منه كان عاصيًا بتركه، بحسب ما كان الشَّيء المتروك هل مِن المفروض أو مِن المندوب، لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
          فكلُّ ما يذكر ╕، لا يخلو إمَّا أن يكون وحيًا بواسطة(28) وهو التَّنزيل، أو بما يظهر له وهو وحي إلْهام(29) مع أنَّه ╕ قد نصَّ على هذا(30) المعنى في مسألة خيبر، حيث أتاه رجل(31) مِن اليهود، فشكا له أنَّ بعض الصَّحابة ضرب(32) إماءَهم ودخل بعض مواضعهم، فأمر ╕ بالصَّلاة جامعةً، ثمَّ قام فحمد الله وأثنى عليه، ثمَّ قال: «لا يجلسُ أحدُكُمْ في بَيْتِهِ مُتَّكِئًا(33) يَبْلُغُهُ الحديثُ عَنِّي فَيَقُولُ(34): لم أَرَ هذا(35) في كتابِ الله، ألا وإِنِّي قَدْ أَخْبَرْتُكُمْ(36) وأمرتُكُمْ ونَهَيْتُكُمْ بأمورٍ هي مثلُ الكتابِ أو أشدُّ(37)، لا يَحِلُّ لكم أنْ تَضْرِبُوا إِمَاءَ هؤلاءِ(38)، ولا تَدْخُلُوا مَنَازِلَهُمْ إِذَا أَدُّوا لَكُمْ ما صَالَحُوكُمْ عَلَيْهِ»، أو كما قال ╕(39)، فلم يبقَ للمخالف / مع نصِّ هذا الحديث الجليِّ مقالٌ(40)، والحديثُ أخرجه أبو داود، والله الموفِّق.


[1] في (م): ((والله المستعان عن أنس أن النبي)).
[2] في (م): ((في قميص حرير لحكة كانت بهما))، وفي (ل): ((من الحرير)).
[3] زاد في (م): ((للعلة)).
[4] في (م): ((والضرورة)).
[5] في (ط) و (م) و (ل): ((وثوب نجس)) والمثبت من (ج).
[6] في (م): ((الثوب)).
[7] قوله: ((الوجه)) ليس في (م).
[8] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[9] في (م): ((بعض)).
[10] في (م): ((بالطب مما هو فيه)).
[11] في (ج) و (م) و (ل): ((قال)).
[12] في (ج) و (م): ((حصر)).
[13] في (م): ((بيت)).
[14] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و (ل).
[15] في (م): ((أو لأجل)).
[16] قوله: ((لأن غيره من الثياب)) ليس في (ل).
[17] في (م): ((صاحبه)).
[18] في (ج): ((فلم))، وفي (م) و (ل): ((ولا)).
[19] قوله: ((من غير خلاف)) ليس في (م).
[20] قوله: ((بغير خلاف)) ليس في (ج) و (م).
[21] في (ل): ((أن للنبي صلعم أن)).
[22] في (ج): ((ينزل عليه في قرآناً)).
[23] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[24] في (م): ((رخص فيه ولم ينزل عليه فيه نص وهذا المراد)).
[25] زاد في (م): ((إلى أن المراد بذلك بقوله لتحكم بين الناس بما أراك الله لكن قد ذهب بعض العلماء)).
[26] في (م): ((أراه)).
[27] قوله: ((وهو)) ليس في (م).
[28] في (ط) و (ل): ((بوحي واسطة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (م): ((وحيا بواسطة أو ما يظهر له من وحي الإلهام)).
[30] في (م): ((عليه في هذا)).
[31] في (م): ((أتى إليه رجل)).
[32] في (م): ((شكا إليه من بعض أصحابه ضرب)).
[33] زاد في (م): ((على أريكته)).
[34] قوله: ((فيقول)) ليس في (م).
[35] قوله صلعم : ((هذا)) زيادة من (ج) على الأصل.
[36] في (ل): ((لا يجلس أحدكم متكئا في أريكته يقول لم أر في كتاب الله إلا أني قد أخبرتكم)).
[37] في (ج): ((ألا وإني بلغت ما في كتاب الله وأكثر))، بدل قوله: ((ألا وإني قد أخبرتكم وأمرتُكُمْ ونَهَيْتُكُمْ بأمورٍ هي مثلُ الكتابِ أو أشد))، وفي (م): ((لم أر في هذا كتاب الله ألا وإني قد بلغت ما في كتاب الله وأكثر)).
[38] في (م): ((لهؤلاء)).
[39] قوله: ((أو كما قال ╕)) ليس في (ل)، و بعدها في (م): ((لم)).
[40] في (م): ((مع هذا الحديث مقال)).