بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالًا

          70- (عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ(1) صلعم يقولُ: لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ(2)...) الحديثُ. [خ¦1409]
          ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على جوازِ الحسدِ في الصفتينِ المذكورتينِ ومنعِه مما عدا ذلكَ، والكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ(3):
          واحدُها: هل هذا الحسدُ هنا حقيقةٌ أو مجازٌ؟ محتملٌ(4)، والظاهرُ أنَّه مجازٌ، وهو إذا حُقِّقَ غِبطةٌ وتنافسٌ، وقد قَالَ جلَّ جلالُه: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26]
          والدليلُ على أنَّه غِبْطَةٌ لَا حَسَدٌ؛ فلأنَّ حقيقةَ الحسدِ إنما / يكونُ في شيءٍ ينتقلُ عادةً مِن واحدٍ إلى آخرَ بوجوهٍ ممكنةٍ جائزةٍ(5)، مثلُ أنْ يَرى شخصٌ على شخصٍ نعمةً، فيريدُ أن تنتقلَ تلكَ النعمةُ إليهِ(6) ويفقدَها صاحبُها، ولذلكَ قَالَ جلَّ جلالُه(7):{لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللهَ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:32]، معناهُ: لا يطلبُ أحدٌ مِن أحدٍ ما(8) أنعمَ اللهُ عليهِ، ويسألُ اللهَ الذي أنعمَ على أخيهِ أن يُنْعِمَ عليهِ بفضلِه، فإنَّ كلَّ نعمةٍ مِنَ اللهِ على عبادِه إنما هيَ مِن فضلِه وَمَنِّهِ لا بوجوبٍ ولا استحقاقٍ(9).
          ولذلكَ قَالَ صلعم : «إِذَا حَسَدْتَ فَلَا تَبْغِ»(10). لأنَّ الحسدَ هو(11) ما قدَّمنا ذكرَهُ مِن انتقَالِ النعمةِ التي على شخصٍ إلى غيرِه، وقد يكونُ انتقَالُها بزيادةِ خيرٍ للآخَرِ، مثالُ ذلكَ: أنْ يرى شخصٌ ثوبًا على شخصٍ(12) فيتمنَّى أن يعطيهُ إياهُ لهُ(13)، فيفتحُ اللهُ على صاحبِ الثوبِ بما هو خيرٌ منهُ فيتصدَّقُ بهِ على الذي حسدَه فيهِ أو يبيعَه منهُ، فقد حصلَ للحاسدِ مقصودُه وزادتِ النعمةُ على المحسودِ.
          والبَغيُ هو أنْ يريدَ أنْ تنتقلَ النعمةُ مِن صاحبِها إلى غيرِه بضررٍ يلحقُ صاحبَ النعمةِ، مثالُ ذلكَ أن يرى أحدٌ بعضَ متاعِ الدنيا(14) عندَ شخصٍ فيتمنَّى أن يكونَ ذلكَ المتاعُ عندَه وصاحبُه(15) ميِّتٌ أو مقتولٌ أو مَنْفِيٌّ(16) أو ما أشبهَ ذلكَ مِن وجوهِ الضررِ، فهذا معنى قَولِه صلعم : «إذا حسدتَ فلا تبغِ»(17)، فإنْ وقعَ منكَ حسدٌ فلا يكون بغيًا، أي: بضررٍ لغيرِك، فالأولى أولًا(18) أنْ لا تحسدَ أحدًا، / فإن أعجبكَ شيءٌ منَ الأشياءِ فاسألِ اللهَ أنْ(19) يُعطيَكَ مِنْ فضلِه كما أَعطى ذلكَ الشخصَ، فإنْ لم تقدِرْ على ذلكَ وأبَتْ نفسُك إلا ذلكَ الشيءَ بعينِه فاسألْهُ بلا ضررٍ يلحقُ لصاحبِه(20)، فإن طلبتَه بضررٍ فذلكَ البغيُ، وهو مِن أعظمِ الذنوبِ.
          وقد رأيتُ في بعضِ التواريخِ أنَّ شخصًا فتحَ اللهُ عليهِ فتحًا عظيمًا(21) مِنَ الدنيا، وكانَ بعضُ المساكينِ يمشي في الأزقَّةِ والأسواقِ وما كانَ دعاؤُه إلا أنْ(22) يقولَ: اللهُمَّ افتحْ عليَّ كما فتحتَ على فلانٍ، ويذكرُ ذلكَ الشخصَ الْمُنْعَمَ عليهِ، فقَالَ له: يا هذا، مالَكَ ومالي؟ ما وجدتَ أن تسألَ اللهَ إلا مثلَ ما أعطاني، ألا تكفُّ عنِّي؟ كلامُك يزيدُني شهرةً وربما قد ألقى(23) منهُ أذًى، فأبى المسكينُ أن ينتقلَ عن ذلكَ القولِ، وقَالَ لهُ: ما شتمتُكَ ولا سبَبْتُكَ وأنا أدعو بما يظهرُ لي، فلمَّا قَالَ لهُ كلامَه(24)، قَالَ له: كم يكفيكَ في يومِكَ على ما تشتهيهِ من النفقةِ؟ فسمَّى لهُ عددًا، فالتزمَ لهُ إعطاءَ ذلكَ العددِ كلَّ يومٍ ويقعدُ في دارِه ولا يذكرُه ولا يسألُ أحدًا، فبقيَ يُجري عليهِ ذلكَ المعروفَ حتى توفيَ.
          وهذهِ الحكمةُ المرادة في الحديثِ لم يُجْرِ الله ╡ عادتَه أنَّه يأخذُها مِن واحدٍ ويعطيها آخرَ مثلَ حُطامِ الدنيا، وكذلكَ المال(25) أيضًا؛ لأنَّهُ إذا أنفقَ لا يرجعُ إلى أحدٍ؛ لأنَّهُ قدْ حصلَ في الدارِ الآخرةِ لأنه ما حسدَهُ(26) في المالِ نفسِه، وإنما / حسدَهُ في كونِه أنفقهُ في حقِّه، وإنفاقُه في حقِّه قدْ أسقطَ عنهُ(27) ما عليهِ مِنَ الحقِّ وثبتَ في ديوانِ حسناتِه، ومثلُ ذلكَ مَثَلُ مَن يرى شخصًا قد حجَّ كذا وكذا حجَّةً، وجاهدَ كذا وكذا مرةً فحسدَه على ذلكَ، فحقيقةُ الحسدِ في مثلِ(28) هذا إنما هو غِبطةٌ؛ لأنَّهُ في الحقيقةِ تمنَّى أنْ يفعلَ خيرًا مثلَه، وكلامُ العربِ فيهِ المجازُ كثير وهو مِن فصيحِه.
          وهنا بحثٌ(29): وهوَ ما المرادُ بالحكمةِ هنا؟. الظاهرُ أنَّها الفهمُ في كتابِ اللهِ ╡ ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالَى يقولُ: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269
          قَالَ العلماءُ: الحكمةُ هيَ الفهمُ في كتابِ اللهِ، والدليلُ على ذلكَ مِنَ الحديثِ قَولُهُ: (يَقْضِي(30) بِهَا) أي يحكمُ بها ولا يحكمُ أحدٌ بشيءٍ(31) بعدَ الإسلامِ ويكونُ مأجورًا فيهِ إلا بكتابِ الله ╡ وسنَّةِ رسولِ اللهِ صلعم.
          والفهمُ في كتابِ اللهِ كالفهمِ في سُنَّةِ رسولِ اللهِ صلعم لأنَّهما مِن الحكمةِ، والحكمُ بهما مَخرجٌ واحدٌ؛ لأنَّهما الثَّقلانِ(32) اللذانِ قَالَ صلعم فيهما: «لَنْ تَضِلُّوا مَا تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا»(33) وتعليمُهما للغيرِ من الكمالِ؛ لأنَّه إذا كانَ يفهمُ(34) عن اللهِ ويعملُ به ويُعلِّمُه، فهو(35) أعلى المقاماتِ؛ لأنَّ هؤلاءِ هم ورثةُ الأنبياءِ ‰ وقدْ قَالَ ◙ : «إِذَا مَاتَ المرْءُ(36) انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ، وصَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، وعِلْمٍ يَبثُّهُ(37)». وأعلاها بثُّ العلمِ، والعلمُ الذي فيهِ هذا الأجرُ العظيمُ هو علمُ الكتابِ / والسُّنَّةِ أو ما استُنبِطَ منهما، وقد جاءَ أنَّه: مَن صلَّى الفريضةَ وقعد يُعلِّمُ الخيرَ نُودِيَ في ملكوتِ السماواتِ عظيمًا.
          وهنا بحثٌ، وهو(38): هلِ الفهمُ في الكتابِ معناهُ فَهْمُ الأمرِ والنهيِ منَ التحليلِ والتحريمِ ليسَ إلَّا؟ فإنْ كانَ هذا فقدْ حصلَ لمن تقدَّمَ ولم يبقَ للمتأخِّرِ(39) شيءٌ منهُ؛ لأنَّ الأصولَ قد تَقَعَّدَتْ والأحكامَ قد ثبتَتْ، أو أنَّ المقصودَ ذلكَ وما فيهِ مِن الحِكَمِ(40) وفوائدِ أمثالِه وفهمها؟ وما الحكمةُ في كلِّ مَثلٍ مَثلٍ، والقَصَصُ كذلكَ؟ فإنْ كانَ هذا فهوَ لا ينقضي إلى يومِ القيامةِ، ويأخذُ منهُ المتقدِّمُ والمتأخِّرُ كلٌّ بحسبِ(41) ما قُسِمَ لهُ، وإلى ذلكَ(42) أشارَ صلعم بِقَولِهِ(43) فيهِ: «لَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ، وَلَا يَخْلَقُ عَلَى كَثْرَةِ الرَّدِّ، ولا يَشْبَعُ مِنْهُ العُلَمَاءُ»(44).
          مثالُ ذلكَ قصةُ موسى ◙ في قَولِه تَعَالَى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ. فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:61- 63].
          ينبغي أنْ نعلمَ(45) ما الفائدةُ بالإخبارِ بهذهِ القصةِ(46) لنا وما لنا فيها من التأسِّي بمُقتضى الحكمةِ؟ ومَن تقدَّمَ مِنَ العلماءِ لم يتعرَّضوا إلى هذا المعنى(47) فيما أعلمُ، وهو مما نحنُ مخاطَبونَ بهِ، لأنهُ لم تُقَصَّ علينا القَصصُ عبثًا؛ لأنَّ الله ╡ يقولُ: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].
          فالفائدةُ في ذلكَ واللهُ أعلمُ أنَّه لمَّا لم يَخرجْ موسَى ◙ / ببني اسرائيلَ إلا بعدَ ما أمرهُ اللهُ تَعَالَى بذلكَ، ثمَّ قامَ البحرُ أمامَهم ورأوا الجمعَ وراءَهم، وقد وقعَ العينُ بالعينِ أيقنوا بالعادةِ الجاريةِ(48) أنَّهم مُدرَكونَ قطعًا(49)، فسألوا موسى ◙ لعلَّه يكونُ عندَه أمرٌ منَ اللهِ تَعَالَى يفعلُه عندَ وقوعِ العينِ بالعينِ؛ لأنَّ قَولَهُم: {إِنَّا لَمُدْرَكُون} [الشعراء:61]، وهوَ ◙ قدْ أبصرَ ما أبصروا من الجمعِ والبحرِ(50) ما الفائدةُ فيهِ إلا استخراجُ ما عندَه في ذلكَ فلمْ يكنْ عندَه شيءٌ مستعدٌ(51) للعدوِ إلا أنَّه يعلمُ أنَّ الذي أمرَه ووفَّقَه لامتثالِ أمرِه هو معهُ ولا يُسْلِمُه، فلم ينظرْ في ذلكَ إلى مقتضى العوائدِ الجاريةِ ولا غيرِ ذلكَ؛ لأنَّ قدرةَ اللهِ تَعَالَى لا تنحصرُ للعادةِ،(52) يفعلُ ╡ ما شاءَ كيف شاءَ، فقَالَ جوابًا لهم: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]
          كأنَّهُ ◙ يقولُ بمقتضى(53) قوةِ كلامِهِ: يا قومُ، ليسَ لي شيءٌ أَفضُلُكم بهِ إلا قوةُ إيمانٍ باللهِ(54)، ويقينٌ بهِ(55)، وصدقٌ معهُ فهو يهديني لِمَا فيهِ نجاتي ونجاتُكم، فما فرغَ مِن كلامِه إلا ونزلَ عليهِ قَولُهُ تَعَالَى: {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63]
          فجاءَه الجوابُ مِنَ اللهِ بالفاءِ التي تُعطي التعقيبَ والتسبيبَ لَمَّا أخبرَهم بحالِه مع ربِّه في الحالِ أتَتْهُ الهدايةُ كما يليقُ بالعظيمِ الجليلِ إلى الضعيف إذا وَثِقَ بهِ، فكانَ مِن أمرِهم وأمرِ عدوِّهم ما قصَّ ╡ بعدُ.
          وكذلكَ أنتَ يا مَن قُصَّتْ عليهِ هذهِ القصةُ إذا كنتَ مُمتثِلًا لأمرِ ربِّك / كما أمركَ ولم تُعَلِّقْ قلبَك بسواهُ يمدُّكَ بالنصرِ والظفَرِ في كلِّ موضعٍ تحتاجُ إليهِ، ولا تقفْ في ذلكَ مع عادةٍ جاريةٍ كما فعلَ أصحابُ موسى ◙ ، فكُنْ في إيمانِك مُوْسَويَّ(56) العقلِ يُغرَق فرعونُ هواكَ بلطفِ مولاكَ في بحرِ التَّلَفِ، وكذلكَ كلُّ مَن أرادَكَ بسوءٍ، قَالَ ╡ في مُحكمِ التنزيلِ: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وإنما ذُكِرت هذهِ القصةُ تصديقًا لهذا الوعدِ الحقِّ، وهو قولُه تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]؛ لأنَّ القصصَ إذا ذُكِرَتْ بعد الوعد كانتْ تصديقًا لهُ وتأكيدًا.
          وقَالَ تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7] ونُصرَةُ العبدِ إلى الله(57) إنما هيَ باتباعِ أمرِه واجتنابِ(58) نَهيِه، وفي هذه القصةِ إشارةٌ لطيفةٌ وهي أنَّه(59): إذا كانَ واحدٌ ممَّن هو ممتثلٌ(60) في جمعٍ وهم لهُ مُطيعونَ أنَّهم يُنصَرونَ، يُؤخَذُ ذلكَ من أنَّه لم يكنْ على يقينِ موسى ◙ في القومِ غيرُه، فلمَّا كانوا له مُطيعينَ عادت على الكلِّ تلكَ البركةُ بذلكَ النصرِ العجيبِ.
          وفيها(61) أيضًا إشارةٌ وهي أكيدةٌ في هذا المعنى(62)، أنَّه لمَّا بادرَ ◙ للأمرِ(63) مُمتثلًا عَلِمَ بحقيقةِ الإيمانِ أنَّ الآمِرَ لا يَتْرُكُ مَن أمرهُ وامتثلَ أمرَهُ، فإنَّه خُلْفٌ، والخُلْفُ في حقِّ اللهِ محالٌ، فإذا رأى المرءُ نفسَه(64) قد قامَ بأمرِ ربِّه كما أمرهُ إيمانًا واحتسابًا فلا(65) يشكُّ في النصرِ ولا يدخلُه في ذلكَ افتراءٌ(66)، فإن دخلَه شكٌ فهو ضَعْفٌ في التصديقِ، وإذا ضَعُفَ تصديقُه وهو إيمانُه خانَ نفسَه وهو لا يشعرُ، / وهذا مِن خُدَعِ العدوِ، وقد يُبطِئ عليهِ النصرُ مِن أجلِ ذلكَ فلا يزالُ مع الإبطاءِ يضعفُ إيمانُه حتى قد يكونُ سببًا إلى الشقاوةِ العُظمى وهو(67) مِن مكائدِ العدوِ.
          وقدْ قَالَ تَعَالَى في كتابِه مُثنيًا على مَن قامَ بأمرِه في هذا المعنى الذي أشرْنا إليهِ ومُخبرًا بحالِهم الجليلِ كيفَ(68) كانَ ليقعَ بهم التأسِّي في ذلكَ الشأنِ(69)، فقَالَ ╡ : {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالَوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173-174] أي: اللهُ يكفينا، والآيُ في هذا المعنى كثيرٌ(70).
          وفيهِ دليلٌ على كثرةِ نُصحِه صلعم لأمَّتِهِ وإرشادِه لهم بكلِّ(71) ما فيهِ ربحُهم في الدارَين، يُؤْخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ ◙ : (لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ)، وسَمَّى هذه التي بيَّنَ(72) وما فيها مِن الخيرِ وهي الحكمةُ المذكورةُ، وسمَّى المالَ الذي سُلِّطَ صاحبُه على هلكتِه في الحقِّ.
          وقدْ يقولُ السامعونَ أو بعضُهم: وأيُّ فائدةٍ لنا في الدنيا أو في الآخرةِ إذا تمنَّينا أنْ يكونَ لنا مثلُ حالِ(73) صاحبِ هذا المالِ الذي يُنفِقُه في الحقِّ؟ وماذا يعودُ أيضًا علينا مِن أن نتمنَّى حالَ صاحبِ الحكمةِ التي يقضي بها ويُعلِّمها، وليسَ كلُّ الناسِ فيه أهليةٌ لذلكَ، فيتمنَّى أحدٌ شيئًا وهو يعلمُ أنَّه لا(74) يُمكنُه لحاقُه مثلَ شخصٍ لا يعرِفُ لا(75) يقرأُ ولا يكتبُ، فيقولُ: كيفَ أتمنَّى أنا حالَ هذا؟
          وهوَ إذا تمنَّى حالَه / بإخلاصٍ معَ اللهِ فإنَّ لهُ مثلَ أجرِهِ؛ لأنَّهُ قَالَ صلعم : «إِنَّمَا الدُّنْيَا لِأَرْبَعَةِ نَفَرٍ: رَجُلٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَعِلْمًا فَهُوَ يَتَّقِي فِي مَالِهِ رَبَّهُ، وَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ، وَيَعْلَمُ أَنَّ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَفْضَلِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ عِلْمًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ مَالًا، فَهُوَ صَادِقُ النِّيَّةِ للهِ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ بِعَمَلِ فُلَانٍ بِنِيَّتِهِ فَأَجْرُهُمَا سَوَاءٌ، وَعَبْدٍ رَزَقَهُ اللهُ مَالًا وَلَمْ يَرْزُقْهُ عِلْمًا، فَهُوَ يَخْبِطُ فِي مَالِهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَتَّقِي فِيهِ رَبَّهُ، وَلَا يَصِلُ بِهِ(76) رَحِمَهُ، وَلَا يَعْلَمُ لِلَّهِ فِيهِ حَقًّا، فَهَذَا بِأَخْبَثِ المَنَازِلِ، وَعَبْدٍ لَمْ يَرْزُقْهُ اللهُ مَالًا وَلَا عِلْمًا فَهُوَ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ لِي مَالًا لَعَمِلْتُ فِيهِ بِعَمَلِ فُلَانٍ فَهُوَ بِنِيَّتِهِ ووِزْرُهُمَا سَوَاءٌ»(77).
          والعلمُ المذكورُ هنا المرادُ بهِ أنْ يعلَمَ ما في المالِ مِنَ الحقِّ، وهذا القدرُ مِن العلمِ يكادُ(78) لا يَخفى على أحدٍ إلَّا اليسيرَ مِنَ الناسِ، فإذا عَلِمَ أنَّ في المالِ حقًا ولم يعرف كيفيَّة إخراجه فيسأل ويَمْتَثل ما يقال لهُ في ذلكَ، يُعَلِّمُهُ(79) أولًا أنَّ في مالِه حقًا للهِ وعزمِه على توفيَتِه بالخروجِ وسؤالِه عن ذلكَ وإخراجِه في وجوهِه الواجبةِ والمندوبةِ عالِمٌ يطلقُ عليهِ، فأرادَ ◙ بجوازِ الحسدِ هنا الذي هو المبالغةُ في التمنِّي لِأنْ يحصلَ للحاسدِ هذهِ المنزلةُ الرفيعةُ وهو لا يعلمُ.
          كما حُكِيَ(80) أنَّه كانَ في بني اسرائيلَ عابدٌ ومرَّتْ بهم سَنةٌ شديدةٌ فمرَّ بكَثِيبٍ مِن رملٍ فتمنَّى أن يكونَ لهُ مثلَه طعامًا فيتصدَّق بهِ على / بني إسرائيلَ، وكانَ صادقًا مع اللهِ تَعَالَى فأَوحَى اللهُ ╡ لنبيِّ ذلكَ الزمانِ ╕ أنْ قُلْ لفلانٍ(81): إنِّي قد قبِلتُ صدقتَه، فأرادَ سيدُنا(82) صلعم أنْ يسوقَ لنا كلَّ خيرٍ كانَ لمنْ تقدَّمَ مِنَ الأُممِ(83) بطريقةٍ لطيفةٍ وتعليمٍ جميلٍ.
          وكذلكَ أيضًا الحاسدُ لصاحبِ الحكمةِ إذا كانَ عمرُه من حيثُ لا يمكنُه أن يصلَ إليها يحصلُ لهُ أجرُ النيةِ على العزمِ على ذلك؛ لأنَّهُ(84) قَالَ صلعم : «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ»(85).
          وقد حُكِيَ عن بعضِ(86) أهلِ الدِّينِ والفضلِ أنَّهُ دخلَ على أخٍ لهُ مريضٍ يعودُه، فقَالَ لهُ المريضُ: انْوِ بنا حجًّا، انْوِ بِنَا جهادًا، انْوِ بنا رباطًا، فقَالَ لهُ: يا أخي، وأنتَ في هذا الحالِ؟ فقَالَ لهُ: إن عشنا وَفَيْنَا، وإنْ مِتْنَا كانَ لنا أجرُ النيَّةِ إذا كانتْ صادقةً. فهؤلاء فَهِمُوا عن اللهِ وعن رسولِ اللهِ(87) صلعم.
          ثمَّ مع ذلكَ يحصلُ له بذلكَ شيئانِ عظيمان:
          (أحدهمُا): الندمُ على تضييعِ العمرِ، وقدْ قَالَ صلعم : «النَّدَمُ تَوْبَةٌ»(88).
          و(الثاني): حُبُّ أهلِ الخيرِ وإيثارُهم على غيرِهم، وقدْ قَالَ صلعم : «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» [خ¦6168]. وقد يزيدُه مع ذلكَ التأسِّي بهم في بعضِ الأشياءِ التي يسمعُها منهم، ويكونُ بينه وبينهم مناسبةٌ ما، والتشبُّه(89) بالكرامِ فلاحُ، وقدْ يكونُ صادقًا معَ اللهِ فيفتحُ له في ذلكَ(90) بطريقِ خرقِ العادةِ كما ذكرَ عن يوَقّنا(91) في فتوحِ الشامِ [1/195-197] مع أنَّه كانَ لا يفقَهُ منَ العربيةِ / شيئًا، وما ذكرنا يوَقّنا إلا مِن أجلِ(92) بيانِ خرقِ العادةِ في كسب(93) العلمِ ليسَ إلا، فلمَّا أخذَ المسلمونَ حصنَه وأسروهُ أصبحَ وهو يتكلَّمُ بالعربيةِ وهو يحفظُ سورًا من القرآنِ وأسلمَ. فسألَه حاكمُ المسلمينَ عن حالِه: مِنْ أينَ(94) أتاكَ هذا الأمرُ؟ فأخبرَهُ أنَّه رأى سيدَنا صلعم في النوم، وأنَّه(95) هو الذي علَّمَه ذلكَ وانتفعَ المسلمونَ بإسلامِه كثيرًا جدًا(96).
          أو يعطيَهُ كما أعطى صاحبَ المالِ بحسنِ نيتِه، فإنَّ المولى كريمٌ منَّانٌ، فبَانَ ما قلناهُ(97) مِن الدلالةِ على نصحِه صلعم لأمَّتِه وحُسنِ إرشادِه لهم من هذا الحديثِ بما أبدَيناهُ.
          ويترتَّبُ على هذا مِن الفقهِ وجوهٌ منها: الجِدُّ(98) في فهمِ الحديثِ والكتابِ لِمَا فيهما من الخيرِ، وأنَّهُ ينبغي لكلِّ مَن لهُ ولايةٌ على رعيةٍ ولو على نفسِهِ الذي لابدَّ لكلِّ شخصٍ منها أن ينظرَ كيفَ يجلبُ لهم الخيرَ بحسنِ إرشادٍ منهُ اقتداءً بهذا السيِّدِ العظيمِ(99) صلعم.
          وفيهِ إشارةٌ إلى أنَّ العلمَ لا يُنْتَفَعُ(100) بهِ إلا معَ العملِ بهِ، يؤخذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ ◙ : (وَيَقْضِي بِهَا)(101).
          وفيه دليلٌ لأهلِ الصوفية(102)؛ لأنَّهم يسألُ بعضُهم بعضًا: أينَ مقامُكَ وما حالُكَ مع ربِّكَ؟ وماذاكَ منهم إلا أنْ(103) يقعَ التأسِّي بنبيهم ◙ في ذلكَ الترقِّي(104) ولغبطةِ بعضِهم ببعض(105)، ولذلكَ قَالَ: إذا كانتْ نفسي لكَ وكنتَ لي فأنا صاحبُ الدارَين وهما لي.


[1] في (ج) و(م): ((قوله سمعت رسول الله)) بدل: ((عن ابن مسعود قال سمعت النبي))، وفي (ل): ((قوله عن ابن مسعود قال سمعت رسول الله)).
[2] زاد في (ل): ((رَجُلٌ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الحَقِّ، وَرَجُلٌ آتاهُ اللهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا)).
[3] قوله: ((والكلام عليه من وجوهٍ)) ليس في (م).
[4] قوله: ((محتمل)) ليس في الأصل (ط) وهو مثبت من باقي النسخ.
[5] في (ج) و(م) و(ل): ((جارية)).
[6] قوله: ((إليه)) ليس في (ج).
[7] قوله: ((ولذلك قال جلَّ جلاله)) ليس في (م).
[8] في (ج) و(م) و(ل): ((مما)).
[9] في (م): ((ولا باستحقاق)).
[10] أخرجه الطبراني في الكبير ░3227▒ من حديث حارثة بن النعمان.
[11] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[12] العبارة في (م): ((شخضًا على ثوب شخصًا)).
[13] زاد في (م) و(ل): ((ويطلبه له)).
[14] العبارة في (م): ((مثال ذلك أن يرى شخص متاع الدنيا)).
[15] في (ج): ((وصاحب)).
[16] في (المطبوع): ((ميتًا أو مقتولًا أو منفيًا)).
[17] قوله: ((إذا حسدت فلا تبغ)) ليس في (ط) و(ل).
[18] قوله: ((أولًا)) ليس في (م).
[19] في (ط): ((فاسأل أن)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (م): ((بصاحبه)).
[21] في (ج): ((كثيرا)).
[22] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[23] في (ط): ((وربما قد يلقني))، وفي (ل): ((وربما قد نلقى))، وفي (ج): ((وربما يلقاني))، والمثبت من (م).
[24] في (م): ((له ذلك)).
[25] في (ج): ((الملك)).
[26] في (ج): ((لأنه ما خسارة)).
[27] زاد في (م): ((ذلك)).
[28] قوله: ((مثل)) ليس في (م).
[29] في (م): ((وفي هذا بحث)).
[30] في (ج): ((فقضى)) وليس فيها قوله: ((قوله)).
[31] قوله: ((بشيءٍ)) ليس في (م).
[32] في الأصل (ط): ((الثقلين)).
[33] هو في موطأ مالك ░2/899▒.
[34] في (ج): ((تفهم)) بدل قوله: ((كان يفهم)).
[35] في (ط): ((أنه هو)).
[36] في (م): ((العبد)).
[37] في (ج): ((وعلم ينتفع به بعد موته))، وفي (م): ((وعلم ينتفعه))، والحديث أخرجه مسلم ░1631▒، والترمذي ░1376▒، والنسائي ░3677▒ من حديث أبي هريرة.
[38] قوله: ((وهو)) ليس في (ج).
[39] في (م): ((للمتأخِّرِين)).
[40] في (م): ((الحكمة)).
[41] في (م): ((على حسْبَ)).
[42] في (ط): ((لذلك)).
[43] في (ج): ((وإلى ذلك الإشارة بقوله صلعم)).
[44] أخرجه الترمذي ░2906▒ من حديث علي ☺.
[45] في (م): ((أن يفهم)).
[46] في (ج) و(م): ((الصفة)).
[47] في (م): ((هذه الصفة)).
[48] في (ج): ((بالعبادة)).
[49] قوله: ((قطعا)) ليس في (ج) و(م).
[50] قوله: ((والبحر)) ليس في (ج).
[51] في (ج): ((مستعدًا)).
[52] زاد في (م): ((بل)).
[53] في (ج) و(ل): ((بمتضمن))، وفي (م): ((بتضمن)).
[54] في (م): ((إيمان به)).
[55] قوله: ((به)) ليس في (ج).
[56] قوله: ((فكن في إيمانك موسوي)) ليس في (ج)، وفي (ل): ((موسى)).
[57] في (ج): ((ونصر العبد لله)).
[58] قوله: ((اجتناب)) ليس في الأصل (ط) و(ل).
[59] في (ط): ((إشارة لطيفة في القصة أنَّه)).
[60] في (م): ((ممتثلًا)).
[61] في (م): ((وفي هذا)).
[62] زاد في (ج) و(ل): ((وهي)).
[63] في (ج): ((في الأمر)).
[64] في (ج): ((بنفسه)).
[65] في (ج): ((ولا))، وفي (م): ((لا)).
[66] في (ج) و(ل): ((يدخل في ذلك امتراء)).
[67] في (م): ((وهي)).
[68] قوله: ((كيف)) ليس في (ج).
[69] قوله: ((في ذلك الشأن)) ليس في (م).
[70] في (ج): ((كثيرة)).
[71] في (ج) و(م) و(ل): ((لكل)).
[72] في (م): ((ذكرها)).
[73] قوله: ((حال)) ليس في (م).
[74] قوله: ((لا)) ليس في (ج).
[75] قوله: ((لا)) ليس في (ج).
[76] في (م): ((فيه)).
[77] أخرجه أحمد ░18031▒، والترمذي ░2325▒ من حديث أبي كبشة الأنماري.
[78] في (م) و(ل): ((كاد)).
[79] في (ط) و(ل) و(م): ((فعلمه)).
[80] في (م): ((يحكى)).
[81] في (م): ((أن قل لذلك العابد)).
[82] في (ج): ((سيدنا)) ليس في (ج).
[83] زاد في (ط): ((أن يسوقه إلينا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[84] قوله: ((لأنه)) ليس في (ج).
[85] أخرجه الطبراني في الكبير ░5942▒ من حديث سهل بن سعد.
[86] قوله: ((بعض)) ليس في الأصل (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[87] في (ج) و(م) و(ل): ((رسوله)).
[88] أخرجه أحمد ░3568▒، وابن ماجه ░4252▒ من حديث عبد الله بن مسعود.
[89] في (ج): ((والتشبيه)).
[90] قوله: ((في ذلك)) ليس في (م).
[91] هكذا في (ج) وغير واضحة في الأصل (ط) وصورتها: ((مرخيا معين))، وفي (م): ((مُقَيَّد))، وفي (ل): ((عن مقتدى)).
[92] في (م): ((وما ذكرنا إلا يوقنا من أجل))، وفي (ل): ((وما ذكرنا معنى)).
[93] في (م): ((كتب)).
[94] قوله: ((أين)) ليس في (ج).
[95] في (ج): ((وأن)).
[96] قوله: ((جدًا)) ليس في (م).
[97] في (م) و(ل): ((ما قلنا)).
[98] في (م): ((الفهم)).
[99] قوله: ((العظيم)) ليس في (ط) و(ل) و(م).
[100] في (ج) و(م): ((لا يكمل الانتفاع)).
[101] قوله: ((وفيه إشارة.... ويقضي بها)) ليس في (ل).
[102] في (ج) و(م) و(ل): ((الصوفة)).
[103] في (م) و(ل): ((لأن)).
[104] في (ج): ((التراقي)).
[105] قوله: ((ولغبطة بعضهم ببعض)) ليس في (م)، وفي (ج): ((لبعض))، وفي (ل): ((إلى بعض)).