بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أن رجلًا رأى كلبًا يأكل الثَّرى من العطش

          19- (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم : أَنَّ رَجُلًا رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ العَطَشِ...) الحديث(1). [خ¦173]
          ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على إِدخالِ الرجلِ الجنةَ بإِروائِهِ(2) الكلبَ، والكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ:
          الوجهُ(3) الأولُ: هل هذا خاصٌ بهذا(4) الحيوانِ وهذا الرجلِ؟ أو هو عامٌّ في جميعِ الحيوانِ والمخلوقين(5)؟ احتُمِلَ، لكنَّ الأظهرَ(6) فيهِ العمومُ، يُؤيِّدُ ذلكَ قولُه صلعم في حديثٍ غيرِ هذا(7): «فِي كُلِّ كبدٍ حَرَّى أَجْرٌ». فعَمَّ جميعَ الحيوانِ، وقال تعالى في كتابِه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32](8) والآيُ والأحاديثُ في ذلكَ كثيرة(9).
          الوجهُ(10) الثاني: فيهِ دليلٌ على معرفةِ الحالِ بالقَرينَةِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِهِ: (رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى(11))؛ لأنَّ أَكْلَه الثَّرى لا يكونُ إلا دليلًا على العطشِ.
          الوجهُ(12) الثالثُ: فيه دليلٌ(13) أنَّ الحاجةَ تُخرِجُ الحيوانَ عاقِلًا كانَ أو غيرَ عاقلٍ عن(14) مَألُوفِه وعادتِه، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أكلِ الكلبِ الثَّرَى، وهو الترابُ المَبلولُ بالماءِ مِن أجلِ ما يجدُ فيهِ مِن أثرِ الماءِ، وليسَ يفعلُ ذلكَ عند استقامةِ مِزاجِهِ.
          ويُؤخَذُ مِن ذلكَ أنَّ ما قَرُبَ مِن الشيءِ يُعطى حُكمَه عند عدمِه عَقلًا وطَبعًا؛ فعقلًا في غيرِ ما موضعٍ مِن علمِ(15) العقلِ والشَّرعِ، وأمَّا بالطبعِ ففي هذا الموضعِ لأنَّ الكلابَ وجميعَ الحيوانِ غيرُ بني آدمَ والجنِّ لا عقلَ لهم، لكن طُبِعوا على معرفةِ منافِعهم، فالذي يجدونَ(16) فيه مَنفعتَهم أَنِسُوا به، وإذا لم يَجدُوه ووجدوا ما يَقرُبُ منهُ استعملُوه، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أكلِ الكلبِ الثَّرى؛ لأنه يجدُ بالماءِ التَّبريدَ فلمَّا عَدِمَه(17) ووجدَ في الثَّرى ما يَقرُبُ منه في التبريدِ(18) استعملَه(19) ولم يُبالِ بثِقَلِ الثَّرَى.
          ويترتَّب عليه مِن معرفةِ(20) / الحكمةِ أن الثَّقيل عندَ الحاجةِ إليه يَخُفُّ، ويَلزَمُ ضِدُّه: أن الخفيفَ عند الاستغناءِ عنهُ يَثقُلُ، ولهذا المعنى خفَّتِ المجاهدةُ على أهلِ الحقيقةِ لاحتياجِهم لمولاهُم وتحقُّقِهم بذلكَ(21)، وثَقُلَتْ على أهلِ الدنيا لحُبِّهم للدنيا وكثرةِ احتياجِهم إليها، وثَقُلَتْ عليهمُ العبادةُ التي يتنعَّمُ بها أهلُ المعرفةِ وخَفَّتْ عليهم لمعرفتِهم بما فيها، ولذلكَ قالَ ╡ في كتابه: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
          ويُؤخَذُ منه: الدلالةُ على لُطفِهِ ╡ بجميعِ خلقِهِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن إِلهامِهِ الكلبَ أكلَ الثَّرى حتى يكونَ ذلكَ سببًا لرحمةِ الرَّائِي له(22) حتى يُروِيَهُ بالماء.
          ويُؤخَذُ منهُ: أنَّ مِن أحسنِ الصِّفاتِ إيصالَ الخيرِ لجميعِ الخلقِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن جزيلِ الثَّوابِ على هذا الفِعلِ اليَسيرِ، وإخبارِ النبيِّ صلعم بذلكَ ليتأسَّى المؤمنونَ بهذهِ الصِّفةِ المُقرِّبة.
          وفيه دليلٌ لمالكٍ الذي يقول: إن التعريضَ بالشيءِ كالمنطوقِ بهِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن إخبارِهِ ◙ بهذا الحديثِ؛ لأنَّ الإخبارَ يدورُ بينَ أمرينِ:
          إمَّا أن يُخبِرَ بهِ لغيرِ(23) فائدةٍ، وأعوذُ باللهِ أن يخطرَ ذلكَ على قلبِ أحدٍ، ومَن خطرَ ذلكَ بقلبِهِ وقَبِله(24) فليسَ بمؤمنٍ؛ لأنَّ اللهَ ╡ يقولُ: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]، وهذا عمومٌ.
          وإمَّا أنْ يكونَ لفائدةٍ أو فوائدَ جُملَةً، وهو الحقُّ، فظهرَ ما أَشرنا إليهِ مِن الفائدةِ(25) قبلُ وما فيهِ مِن الفوائدِ بعدُ لأنَّه ╡ قصَّ علينا في كتابِهِ العزيزِ القَصَصَ، وقال: {نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ...}الآية [الحشر:19 / وقال: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الروم:9]، فكذلك قال فقهاءُ الدِّينِ: إن القَصَصَ طلب مِنَّا مُقتضاها بالضمنِ، والأمثالُ كذلك(26)، ولذلكَ قالَ ╡ : {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
          وفيه دليلٌ على أنَّ مِن أكبرِ القُرَبِ: الخَيْرُ المُتَعدِّي، يُؤخَذُ ذلكَ مِن حُسنِ الجَزاءِ على هذهِ الفِعلَةِ اليَسيرةِ معَ هذا الحيوانِ الذي قدْ أمرتنا الشَّريعةُ بقتلِهِ، فكيفَ بمَن هوَ عاقلٌ مكلَّفٌ، فكيفَ بمَن هو صالحٌ منهم؟ وهذا إذا(27) تتبَّعْتَهُ يتعدَّدُ(28) كثيرًا، وعلى هذا فقِسْ.
          وفيه دليلٌ على التحضيضِ على جميعِ أعمالِ الخيرِ، إذ لا يُدْرَى بِمَ تكونُ السَّعادةُ، إذ بهذا حصلتْ تلكَ السَّعادةُ وهي دخولُ الجنَّةِ فلا يضيعُ منها شيءٌ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ الإخلاصَ هو المُوجِبُ لكثرةِ الأجرِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن شرحِ حال ِالحديثِ؛ لأنَّ هذا الحالَ المذكورَ، وهو كونُه: كانَ في البرِّيَّةِ وسَقَى هذا الكلبَ لم(29) يكنْ هناكَ أحدٌ يَنظُرُهُ(30)، فكانَ خالصًا حَقيقةً، يزيدُ هذا بيانًا قولُه صلعم في صدقة السِّرِّ: «حتَّى لَا تَعْلَمَ شِمالُهُ مَا تُنفِقُ يَمينُهُ».
          وفيه دليلٌ على أنَّ كمالَ الأجرِ يكونُ بكمالِ العملِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِهِ: (حَتَّى(31) أَرْوَاهُ)، فلمَّا أكملَ رِيَّهُ أكملَ اللهُ لهُ(32) نِعمتَهُ عليهِ، وهو دخولُ(33) الجنَّةِ، وقد قالَ صلعم : «الخيرُ كُلُّهُ بحَذَافيرِهِ في الجنَّةِ».
          ويُؤخَذُ منهُ تَغليبُ فسادِ هذهِ الدَّارِ إذا كانَ في صلاحِ تلكَ الدَّارِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن غَرْفِ الرجلِ الماءَ بخُفِّهِ؛ لأنَّ الماءَ مما يُفسِدُ الخُفَّ، فلمَّا كانَ في صلاحِ(34) الآخرةِ فهو صلاحٌ.
          ويُؤخَذُ منهُ تعب(35) الفاضلِ(36) للمَفضُولِ إذا احتاجَ المَفضولُ إليهِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن تعبِ الرجلِ في إسقاءِ الكلبِ / عندَ(37) حاجَتِه إليهِ وإِحسانِ المَولى على ذلكَ، وبَنُو آدمَ أفضلُ مِن غيرِهم مِن الحَيوانِ ما عدا الملائكةِ ففيهم خلافٌ.
          وقوله: (فَشَكَر اللهُ لَهُ) هلِ الشُكرُ مِن الكلبِ للهِ، أو هل هو(38) مِن اللهِ لعبدِه؟ احتُمِلَ، فإذا قُلنا: إنَّ الشُّكرَ يكونُ بالقولِ أو بالحالِ احتُمِلَ والقُدرةُ صالحةٌ، وإذا قُلنا: إنَّ الشُّكرَ مِن اللهِ لعبدِه(39)، فما معناهُ؟ فيكونُ الشكرُ هنا(40) بمعنى (القَبولِ)، فكأنَّهُ(41) ◙ يقولُ: قَبِل اللهُ عملَه فأثابَه عليهِ بالجنَّةِ(42)، واحتملَ جميعَ الوجوهِ(43)، وفقنا اللهُ لما فيهِ رضاهُ بلا مِحنَةٍ بمنِّهِ(44).


[1] زاد في (ج) و(ل): ((فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى رَوَاهُ فَشَكَرَ اللهُ لَهُ فَأَدْخَلَهُ الجَنَّةَ)) وليس في (ج) قوله: ((الحديث)).
[2] في (م): ((بإرواء)).
[3] قوله: ((الوجه)) ليس في (ف).
[4] زاد في (م): ((المعنى)).
[5] في (ل): ((في المخلوقين)).
[6] في (م): ((ظهر)).
[7] قوله: ((في حديثٍ غيرِ هذا)) ليس في (م).
[8] قوله: ((وقال تعالى في كتابِه: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا})) ليس في (م).
[9] في (ط): ((كثير)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] قوله: ((الوجه)) ليس في (ج) و(م) و(ل) و(ف).
[11] زاد في (م): ((من العطش)).
[12] قوله: ((الوجه)) ليس في (ج) و(م) و(ل) و(ف).
[13] زاد في (م) و(ل): ((على)).
[14] في (ل): ((من)).
[15] قوله: ((علم)) ليس في (ج).
[16] في (م): ((يجدوا)).
[17] في (ج): ((عدم)).
[18] في (ف): ((من التبريد)). وفي (ج): ((بالتبريد))، وقوله: ((في التبريد)) ليس في (ل).
[19] في (ل): ((استعملوه)).
[20] قوله: ((معرفة)) ليس في (م).
[21] في (م): ((لذلك)).
[22] قوله: ((الرائي له)) ليس في (م).
[23] زاد في (ج): ((ما)).
[24] قوله: ((وقبله)) ليس في (ج).
[25] قوله: ((من الفائدة)) ليس في (ف).
[26] في (م): ((كذلك)).
[27] قوله: ((إذا)) ليس في الأصل، والصواب المثبت من النسخ الأخرى.
[28] في (ط): ((يتعدى)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((ولم)).
[30] في (ج) و(ف) و (م): ((يبصره)).
[31] زاد في (م): ((إذا)).
[32] في (م): ((أكمل له)).
[33] في (م): ((دخوله)).
[34] في (المطبوع): ((إصلاح)).
[35] في (ط): ((تعبة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] قوله: ((من الفائدة قبل وما فيه من الفوائد...ويؤخذ منه تعب الفاضل)) ليس في (ل).
[37] في (م): ((عند إسقاء الكلب حين)).
[38] قوله: ((هل هو)) ليس في (م).
[39] قوله: ((احتُمِلَ، فإذا قُلنا أنَّ الشُّكرَ... الشُّكرَ من اللهِ لعبدِه)) ليس في (م).
[40] قوله: ((هنا)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (م): ((كأنه)).
[42] في (ج): ((الجنةَ)).
[43] قوله: ((واحتملَ جميعَ الوجوهِ)) ليس في (م)، وزاد في (ل) و(ف): ((فإن القدرة صالحة)).
[44] زاد في (ج) و(ف): ((وكرمه)).