بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من يلي من هذه البنات شيئًا فأحسن إليهن...

          237-قوله(1): (جَاءَتْنِي(2) امْرَأَةٌ مَعَهَا(3) ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي) الحديثَ(4). [خ¦5995]
          ظاهر الحديث إخبار الصَّادق صلعم أنَّه مَن آتاه الله شيئاً مِن البنات، فأحسن إليهنَّ، كنَّ له سِتراً مِن النَّار، أي: وقايةً تقيه مِن النَّار. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: ما معنى الإحسان؟ وهل ذلك على عمومه بلا شروط، أو له شروط؟ وهل يحتاج في ذلك إلى نيَّة أم لا؟ وهل ذلك على طول عمرهنَّ وإنْ كبِرْن(5)، أو ذلك عند(6) صغر سنهنَّ؟ وإن كان فما حَدُّه؟
          فأمَّا قولنا: مَا(7) معنى الإحسان إليهنَّ؟ فهو ما زاد على القدر الواجب الذي لهنَّ، وَهو بيِّن مِن لفظ الحديث؛ فإنَّه لَمَّا كانت المرأة ومعها الابنتان فسألتِ المرأةُ عائشةَ ♦ فلم تجد عندها إلَّا تلك التمرة الواحدة التي / أعطتها، كان مِن أجل احتياجها لها أن تختصَّ بها(8) فلمَّا جادت بذلك(9) فذلك الإحسان الذي أشار صلعم، بأنَّ مَن فعله معهنَّ كان له سِتراً مِن النار، وهو يتعدَّى في كل الوجوه الذي فيها معاملتهنَّ. فمَنْ زادهنَّ في كلِّ وجهٍ منها شيئاً على حقهنَّ كان محسناً لهنَّ، ومَن فعل معهنَّ معروفاً في نوع ليس لهنَّ فيه حقٌّ الباب واحد.
          وأمَّا قولنا: هل ذلك عَلى عمومه بلا شروط، أوْ له شروط(10)؟ فما مِن(11) وجه مِن وجوه(12) البِرِّ إلَّا وله شروط، فمنها مَا هي ظاهرة يستوي في معرفتها النَّاس كافَّة، ومنها ما لا يعلمها إلَّا أرباب العلم(13)، ومنها ما لا يعلمها إلَّا الخواصُّ منهم.
          فأمَّا معنى قولنا: هل ذلك على عمومه، أي: إذا وقع منه إحسان إليهنَّ، على أيِّ وجه كان، على لسان العلم أو غير ذلك، أو يكون قد أساء إليهنَّ، أو يكون قد ترتَّب(14) لهنَّ حقٌّ عنده؟ فأمَّا ما خالف لسان العلم فلا ينطلق عليه اسم إحسان شرعاً، وكذلك إذا ترتَّب لهنَّ قِبَلَه حقٌّ فَلا يُقال له: محسن، بل ذاك(15) مِن الحقِّ الذي قد ترتَّب لهنَّ قِبَلَه، وتقع بينه(16) وبينهنَّ المحاسبة والمحاكمة في الدَّار الآخرة. وكذلك إن كان قد أساء إليهنَّ مِن وجه آخر فليس عَلى عمومه، وَلا يُسمَّى: محسناً، إلَّا بعد توفية الحقوق مِن كلِّ الجهات وَعدم الإساءة، ويكون فعله ذلك عَلى لسان العلم، وحينئذٍ يكون محسناً. /
          وأمَّا(17) شروطه فهو: أن يكون إحسانه إليهنَّ ليس فيه ضرر للغير، بعد القيد المتقدِّم ذكره مِن لسان العلم ومَا ذُكر(18) معه.
          وأمَّا هل يحتاج ذلك إلى نيَّة أم لا؟ فالنيَّة شرط في جميع الأعمال، لقوله صلعم : «الأعمال بالنيَّات، وَلكلِّ امرىءٍ ما نوى» إلَّا مواضع قد تقرَّر الحكم فيها أنَّها لا تحتاج إلى نيَّة. أعني: أنَّ الفعل يجزىء(19) بغير نيَّة ويُؤجر عليه، وَهو مثل ما يفعله المرء بغيره(20) مِن الطهارة وشبهها، ومثل زوال النجاسة مِن الثوب والبدَن وما أشبه ذلك.
          وأمَّا قولنا: هَل ذلك مع طول عمرهنَّ، أو ذلك في زمان صغر سنِّهنَّ؟ أمَّا الإحسان إليهنَّ فليس يتقيَّد بصِغَر سنهنَّ وَلا كِبَرِهن، بلْ حقوقهنَّ مع صغر السِّن عَلى سبيل الوجوب، فمنها لزوم النفقة والكسوة والكفالة، فهذا ومَا هو مِن نوعه يُسقِطه كبرهنَّ إذَا تزوَّجن، على ما هو المعلوم مِن عرف(21) الشَّرع في ذلك، وإنْ كبِرن فَلا يخرجن عن البُنُوَّة أبداً، فهنَّ في كلِّ وقت محلٌّ للإحسان(22)، وهنَّ أيضاً محتاجات إلى ذلك، وإن كنَّ على أيِّ وجه كنَّ مِن اليسار وضدِّه. ولكثرة شروط هذا الإحسان كان بعض مَن يُنسَب(23) إلى الخير _وَله البنات والعيلة، بعد إحسانه إليهنَّ_ يقول: والله ما أدري هل أتخلَّص(24) منكنَّ في الآخرة أم لا؟ ثمَّ يدعو الله سبحانه أن يجعلهنَّ له رحمة بفضله.
          وفيه دليل عَلى جواز / السؤال. يُؤخذ ذلك مِن قولها: (جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ مَعَهَا(25) ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي) فلو لم يكن ذلك جائزاً(26) شرعاً لأنكرت ذلك عليها.
          وفيه دليل(27) على فضل بيت النبوَّة وكثرة سخائهم(28). يُؤخذ ذلك مِن كونها لم يكن عندها إلَّا تلك التمرة الواحدة وجادت بها.
          وفيه دليل على جواز ذِكْر المعروف الذي نفعله(29)، إذا لم يكن عَلى وجه المَنِّ والافتخار(30)، فإنَّ ذلك مفسِدٌ له. يُؤخذ(31) ذلك مِن ذكر عائشة ╦ المعروف الذي فعلته معَ المرأة للنَّبيِّ صلعم.
          وفيه دليل على استحسان فعل المعروف، وإن قَلَّ؛ يُؤخذ ذلك مِن بذلها تلك التمرة(32) الواحدة ولم تَسْتَقِلَّها. وقد ذُكر عنها ♦ أنَّه جاء سائل إلى الباب، وكان عندها عنب، فأعطتْ(33) منه حبَّة واحدة لشخص يخرجها له، فرأتْ منه أنَّه استقلَّها. فقالت له: كم في تلك الحبَّة مِن ذرَّات؟ تريد بذلك قولَه تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة:7] وقد نبَّه بعض العلماء على أنَّ مِن مكايد(34) الشيطان إذا رآك(35) تعطي الكثير يَعِدُك الفقرَ(36)حتَّى يُكسِّلك عن البذل، وإن رآك تعطي اليسير يزهِّدك فيه ويحقِّره في عينك، حتَّى يحرمَك البَذل في اليسير والكثير.
          وفيه دليل على أنَّ أعلى المعروف جهدُ المقلِّ، وَلا يلزمه غير ذلك مِن طريق النَّدب. يُؤخذ ذلك مِن أنَّ تلك السيِّدة / لم تزد على بذل(37) مَا كان عندها مع قلَّته شيئاً، وأقرَّها رسول الله صلعم على ذلك حين أخبرته. وَلو كان بقي عليها مِن طريق الإحسان شيء لنبَّهها عليه صلعم عند إخبارها له بذلك.
          وفيه دليل لأهل الصُّوفة الذين أصل طريقهم الإيثار وحمل الضَّيم فيما يخصُّهم، لأنَّ هذه الصفة هي التي أعجبت تلك السَّيِّدة ♦ مِن تلك المرأة، حتى أخبرت بذلك رسول الله صلعم، وقرَّر عليه هذا الأصل العظيم. ولذلك قيل فيهم: ما أحسنهم في جودهم! حتَّى بنفوسهم جادوا وجادوا، ثمَّ جادوا وجدُّوا حتى(38) وصلوا وسادوا.


[1] في (ت): ((قولها)).
[2] في (م) و(ت): ((جاءت)) والمثبت من (ج).
[3] في (ج) و(ت): ((ومعها)).
[4] في (ب): ((عن عائشة ♦ قَالَتْ: جَاءَتْنِي امْرَأَةٌ ومَعَهَا ابْنَتَانِ تَسْأَلُنِي، فَلَمْ تَجِدْ عِنْدِي غَيْرَ تَمْرَةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَعْطَيْتُهَا فَقَسَمَتْهَا بَيْنَ ابْنَتَيْهَا، ثُمَّ قَامَتْ فَخَرَجَتْ، فَدَخَلَ النَّبِيُّ صلعم فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: مَنْ يَلِي مِنْ هَذِهِ البَنَاتِ شَيْئًا، فَأَحْسَنَ إِلَيْهِنَّ، كُنَّ لَهُ سِتْرًا مِنَ النَّارِ)).
[5] في (ج): ((كبروا)).
[6] في (ب): ((أو أن ذلك عند))، وفي (ج): ((وهل ذلك على)).
[7] قوله: ((ما)) ليس في (ج).
[8] في (م): ((لها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((بها)).
[10] قوله: ((شروط)) ليس في (ج)، وقوله: ((أو له شروط)) ليس في (ب).
[11] قوله: ((من)) ليس في (ب).
[12] في (ج): ((الوجوه)).
[13] قوله: ((ومنها ما لا يعلمها إلا أرباب العلم)) ليس في (ب).
[14] في (ج): ((يترتب)).
[15] في (ت) و(ب): ((ذلك)).
[16] قوله: ((وكذلك إذا ترتَّب لهنَّ... لهنَّ قِبَلَه، وتقع بينه)) ليس في (ج).
[17] في (ب): ((أما)).
[18] في (ت): ((ذكره)).
[19] في (ت) و(ب): ((مجزئ)).
[20] في (ج): ((بغير)).
[21] في (ج): ((عزم)).
[22] في (ج): ((محل الإحسان)).
[23] في (م): ((ينتسب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] في (ج): ((أيتخلص)).
[25] كذا في (م)/ وفي باقي النسخ: ((ومعها)).
[26] في (ج): ((جائز)).
[27] قوله: ((ذلك عليها. وفيه دليل)) ليس في (ج).
[28] قوله: ((سخائهم)) ليس في (ب). وفي (ج) و(ت): ((سخائهن)).
[29] في (ب): ((تفعله)).
[30] في (ت) و(ب): ((أو الافتخار)).
[31] في (ب): ((فإن كان مفسد يؤخذ)).
[32] في (ت): ((الثمرة)).
[33] في (ج): ((فأعطته)).
[34] في (ب): ((العلماء أن مكايد)).
[35] في (ت): ((أراك)).
[36] في (ب): ((بالفقر)).
[37] في (ب): ((البذل)).
[38] في (م): ((بنفوسهم جادوا وجدوا حتى))، والمثبت من النسخ الأخرى.