بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: الرهن يركب بنفقته إذا كان مرهونًا

          104-قوله صلعم : (الظَّهر(1) يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ...) الحديث. [خ¦2512]
          ظاهره يدلُّ على أنَّ(2) الذي يركب الظَّهر عليه نفقته، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: مَن(3) الذي له ركوب الظَّهر هل الرَّاهن أو المرتهن(4)؟
          قد(5) اختلف العلماء فيه، فمالك يقول: إن الذي له الأصل عليه النَّفقة وله المنفعة، مِن ركوبٍ أو شرب لبنٍ إلى غير ذلك؛ لأنَّ الحكم يعطي استصحاب الحال، وأنَّ المرتهن ما له إلَّا الاستيثاق(6) لماله برهنه، وهذا هو الذي قصد النَّبي صلعم بهذا الحديث.
          والشَّافعي يقول(7): المرتهن هو الذي ينفق ويركب(8) ويشرب؛ لأنَّه هو(9) الذي له التَّصرف في الرَّهن، والبحث على لفظ(10) الحديث أن يقال(11): إنَّما علَّق صلعم النَّفقة في الرَّهن على مَن ينتفع بمنافع الرَّهن، حتَّى يتبيَّن(12) أنَّ نفس رهن الشَّيء لا يوجب للمرتهن الانتفاع به، ولا تجب(13) أيضًا عليه نفقته(14)، فأراد أن يبيِّن انفصال حكم الذَّات مِن حكم المنفعة.
          فبهذا التَّوجيه(15) يكون الحكم في المنفعة أيُّهما اشترطها لزمته النَّفقة بنفس اشتراطها، فإن(16) سكتا ليس لنا في الحديث بما(17) نحكم بينهما، فنأخذ(18) الحكم مِن خارج، وإذا أخذناه مِن خارج لنا وجهان:
          أحدهما: مِن طريق النَّظر بأصول الفقه، وهو أنَّ مَن له الأصل له الفرع، فالمالك له الرَّقبة فله أن / ينتفع بمنافعها، وما ملك المرتهن رقبة ولا غيرها، بل حصل له بالشَّيء المرهون توثقةً لمالِهِ لا غير.
          فإن حكمنا عليه بأنَّ الغلَّة له، فقد تكون الغلَّة أكثر(19) مما أرهن(20) الأصل فيه مِن أجل طول المدَّة يكون العلف(21) قليلًا، فنكون قد أخذنا للمالك ماله بغير حقٍّ وبالعكس قد تكون الغلَّةُ يسيرةً، وثمنُ العلف أكثرَ منها، فبطول المدَّة يذهب مال المرتهن(22) بغير عِوَض، وهذا يتبيَّن(23) بحسب غلاء الأسعار ورخصها، فإذا كان الغلاء كان منفعة ركوب الدَّابة يسيرًا وعلفها كثيرًا، وقد لا يحتاج المرتهن إلى ركوبها، فيدخل عليه ما قلنا من الضَّرر، وقد يكون مع رخص الأسعار علف الدَّابة لا قيمة له في ذلك الوقت(24) إلَّا قدر يسير، وثمن ركوبها كثير، فيلحق الضَّرر لصاحب الدَّابة كما ذكرنا، وقد قال صلعم : «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرار».
          وأمَّا مِن طريق النَّقل: فقد قال صلعم : «إنَّ لِصَاحِب الرَّهْنِ غُنْمَهُ وَعَلَيْهِ غُرْمَهُ» فما زاد في الرَّهن فلصاحبه، وما نقص منه فعليه، وغلَّته مِن جملة زيادته، فيجب أن تكون له(25).
          وفيه دليلٌ على جواز الرَّهن.
          وهنا بحثٌ في قوله ╕: (وَلَبَنُ(26) الدَّرِ) ولم يقل مطلقًا، فإنَّما(27) قال صلعم : (الدَّر) تحرُّزًا مِن أن يرهن(28) أحدٌ اللبن في وعاء، فيتناول(29) المرتهن أن له أن يشرب منه، فيكون يأخذ مال الغير بغير حقٍّ، لأنَّ كلُّ ما يجوز بيعه / شرعًا يجوز رهنه، ولبن الدَّر هو الذي يُدَرُّ مِن الضَّرع، فإنَّه فتحٌ مِن الغيب، وا حَلب يَدُرُّه ويزيد فيه، والذي لا يكون في الضَّرع: الأخذُ ينقصه، وهو أيضًا لا يحتاج إلى نفقة.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه(30): التحرُّز في اللفظ وأنَّه(31) مَن يتكلَّم بكلام يبقى فيه احتمال ما يجب عليه أن يحرره(32) حتَّى يذهب ذلك الاحتمال.
          وقوله ╕: (وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ) بيانًا لِمَا قدَّمناه مِن البحث الذي ذكرنا، أنَّ الدَّليل يكون مِن خارج، لأنَّ قوله ◙ أولًا: (الظهرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَلَبَنُ الدَّرِّ يُشْرَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرْهُونًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ(33)) تمَّت الفائدة فعلى ماذا زاد بعد: (وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ النَّفَقَةُ)؟
          فإن قلنا تأكيدًا(34) للحكم، فيكون معنى الحديث كلُّه واحدًا، ويؤخذ الحكم كما ذكرنا مِن خارج.
          وإن قلنا وهو الأظهر: إنَّ هذه الزِّيادة تبيين(35) لحكمٍ ثانٍ، وهو أنَّه أولًا جعل النَّفقة(36) على مَن اشترط(37) المنفعة، وأنَّ الثَّانية إذا لم تكن(38) شرط، فتكون النَّفقة على الذي له الرُّكوب والحِلاب، وهو صاحب الأصل، والله أعلم.
          وحَمْلُ اللفظين إذا كان كلُّ واحدٍ منهما مستقلًّا بذاته على معنيَين خيرٌ مِن حَمْلِهما على معنًى واحد، والأصول تشهد للمعنيَين، فيكون(39) ذلك الظَّاهر مِن أجل هاتين العلَّتين، ومِن أجل(40) ما قدَّمنا ذكره مِن الضَّرر اللاحق لأحدهما، وعلى هذا الوجه ينتفي الضَّرر ويستقيم الحكم على جري / القواعد(41) الشَّرعية، والله الموفق للصَّواب.


[1] لفظ البخاري: ((الرهن)) وأشار في حاشية البخاري إلى نسخة: ((الظهر)).
[2] قوله: ((أن)) ليس في (ل).
[3] في (ج): ((في)).
[4] في (ج) و(م): ((والمرتهن)).
[5] في (ل): ((وقد)).
[6] في (ط) و (ل): ((الاستوثاق)).
[7] قوله: ((يقول)) ليس في (ج).
[8] في (ل): ((ويأكل)).
[9] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).
[10] في (م): ((هذا)).
[11] قوله: ((أن يقال)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] في (ل): ((يبين)).
[13] في (ج): ((ولا يجب)).
[14] في (م): ((نفقة)).
[15] في (ج): ((التوجه)) وفي (ل): ((وبهذا التوجيه)).
[16] في (ل): ((وإن)).
[17] في (ج): ((مما)) وفي (ل): ((ما)).
[18] في (ج): ((فيأخذا)).
[19] في (ج): ((بأكثر)).
[20] في (ج) و(م): ((رهن)).
[21] في (ج): ((ويكون العدد))، و في (م) و(ل): ((ويكون العلف)).
[22] في (ج): ((فتطول المدة بذهب مال المرتهن)).
[23] في (ل): ((تيسر)).
[24] قوله: ((الوقت)) ليس في (ل).
[25] العبارة في (ل): ((زيادته ويجب أن يكون له)).
[26] في (ل): ((لبن)).
[27] في (ل): ((وإنما)).
[28] في (ج): ((ترهن)).
[29] في (ل): ((فيتأول)).
[30] قوله: ((من الفقه)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[31] في (م): ((وأن)).
[32] في (ج) و (ل): ((يحرزه)).
[33] قوله: ((وعلى الذي يركب ويشرب النفقة)) ليس في (ج)و(م) و (ل).
[34] في (ط) و (ج): ((تأكُّداً)). والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] في (ط): ((تبينا))، وفي (ج): ((بتبيين))، وفي (ل): ((تبيينا))، وفي (م): ((تبين))، والمثبت هو الصواب والله أعلم.
[36] قوله: ((النفقة)) ليس في (ل).
[37] في (ج): ((على اشتراط)).
[38] قوله: ((تكن)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى. وبعدها في (م): ((بشرط)).
[39] في (ل): ((ويكون)).
[40] قوله: ((أجل)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى، وبعدها في (م): ((ما ذكرنا)).
[41] زاد في (م): ((الأصلية)).