بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لا تشتر ولا تعد في صدقتك

          114- قوله: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ...) الحديث. [خ¦2636]
          ظاهر الحديث(1) يدلُّ على تحريم شراء الصَّدقة، وإن كانت بشراء صحيح، وقد اختلف العلماء في ذلك، فمن قائلٍ يقول بالإجازة، ومِن قائل يقول بالكراهة، ومِن قائل يقول بالتَّحريم، وهو الأظهر والله أعلم.
          كلٌّ منهم مستدلٌّ(2) بنصِّ هذا الحديث، وقد زِيد في الحديث مِن طريق آخر: (كَالكَلْبِ يُعُوْدُ فِي قَيْئِهِ) فوجه مَن قال بالإجازة هو أنَّ قوله ╕: (لَا تَشْتَرِ ولا تَعُدْ في صَدَقَتِكَ) نهيٌ، والنَّهي لا يدلُّ على فساد المنهيِّ عنه(3) على الإطلاق عنده، وهو على أحد أقوال لعلماء(4)، وقد دلَّ دليلٌ على أنَّ ذلك جائزٌ؛ لأنَّه ◙ مثَّله بالكلب يعود في قيئه، وذلك جائزٌ له فكذلك شراء الصَّدقة جائزةٌ(5).
          ومن قائلٍ(6) بالكراهة: وجه قوله تقريبٌ(7) مِن هذا المعنى، وهو أنَّ فعل الكلب ذلك جائزٌ له(8)، لكنَّه قذرٌ مستخبثٌ(9)، فكذلك شراء الصَّدقة / يُستخبث ويُكره(10)؛ لأنَّ المثال مثل الممثَّل به
          ووجه مَن قال بالتَّحريم، وهو الذي عليه الجمهور، هو: أنَّ نصَّ الحديث، نهى عن شراء الصَّدقة، والنَّهي يدلُّ على فساد المنهي عنه عند بعض العلماء، وهذا قد قارنه ما يدلُّ(11) أنَّه على الفساد والتَّحريم، وهو أنَّه ◙ مَثَّل مَنْ فعل ذلك بفعل الكلب، وهو عَوْده في قيئه وليس في الحيوان كلِّه مَن يفعل ذلك غيره(12)، فكأنَّ الحيوان كلَّه اجتمعت طباعهم على(13) النفور عن ذلك الفعل ومنعه، فكأنَّهم حرموه على أنفسهم وضعًا، فكأنه(14) ◙ يقول: كما أنَّ الحيوان أجمع على منع إجازة ما فعله(15) الكلب طبعًا، فكذلك شراء الصَّدقة ممنوعةٌ شرعًا.
          وقول عمر ☺: (حَمَلْتُ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللهِ) يحتمل أن يكون قوله(16): (حَمَلْتُ) بمعنى: (تصدَّقت)، ويحتمل أن يكون بمعنى: (أعرت)، لكنَّ الإعارة ليست هي المراد؛ لأنَّه لو كان عارية، لَمَا جاز للمستعير بيعه، وقد يحتمل قوله: (حملتُ) غير هذين الوجهين، لكنَّ القرائن تدلُّ على أنَّه كان صدقة لا غير ذلك(17)؛ لقول النَّبي صلعم : (لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ) فلم يبقَ إلَّا أن يكون تصدَّق به على رجل يجاهد(18) في سبيل الله تعالى، وإنَّما أراد عمر ☺ يشتري الفرس حين وجده؛ لأنَّه كان عارفًا به وبجودته، وقد يكون الفرس ضاع عند مَن تصدَّق به عليه لقلَّة / الأكل أو لغير ذلك، فأراد أن يشتريه لكي يزيل ما أصابه ويردَّه إلى ما كان وهي الصدقة، هذا هو الوجه الذي أراده(19) عمر ☺ والله أعلم؛ لأنَّه هو(20) الذي يليق به ولا يلتفت إلى ما(21) تأوَّل له(22) غير ذلك.
          وفي الحديث دليلٌ على أنَّ المؤمن متوقِّف في أموره لا يعمل شيئًا في كلِّ تصرُّفه إلَّا بعلمٍ(23) مِن الكتاب أو من السُّنة، فإن كان جاهلًا بذلك(24) فليسأل، ولا يجوز له الإقدام على العمل بغير علم؛ لأنَّ عمر ☺ مع علمه ودينه ومع شجاعته وإقدامه على أمور لم يُقدِم عليها غَيْرُه، ونزول القرآن على لسانه في مواضع، لمَّا أن(25) وجد الفرس تباع(26) في السُّوق، ولم يتقدَّم له علم بما هو(27) الحكم فيه من الشَّارع ◙ ، توقَّف(28) عن شرائه حتَّى سأل(29) النَّبي صلعم ما هو الحكم فيه، وهذا هو المعنى الذي أراد ◙ بقوله في غير هذا الحديث: «المؤمنُ وقَّافٌ»؛ لأنَّ المؤمن لم يبق له اختيار(30) ولا تدبير، وإنَّما أمره كلُّه واقفٌ مع كلام الشَّارع ◙ ، فما أُمِر(31) به امتثله، وما نُهِيَ عنه انتهى عنه(32).
          ثمَّ بقي على الحديث سؤالٌ واردٌ وهو: أنَّ عمر ☺ أخبر بأنَّه(33) تصدَّق بالفرس، وذكر الصَّدقة ممنوعٌ بقوله(34) تعالى: و {لَا(35) تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:264]، قال المفسِّرون: الأذى هو ذكر الصَّدقة للنَّاس؟
          والجواب عنه: أنَّ ذكر الصَّدقة إنَّما يكون إذاية(36) / إذا كان ذكرها لغير حاجة، وأمَّا إذا أدت الضَّرورة إلى ذكرها فلا بأس، وعمر رض الله عنه إنَّما ذكر الصَّدقة لأجل ما عارضه مِن الضَّرورة لذكرها(37)؛ لأنَّ بذكرها يعرف حكم الشَّارع ◙ فيما أراد أن يفعل، فإن قال قائل: ذلك غير ممتنع، أن لو اقتصر على ذكرها للشَّارع ◙ ، ولكن لمَّا أن(38) حدث النَّاس بذلك وَرَوَوا(39) عنه ما وقع له مِن(40) ذلك ارتفعت تلك العلَّة، قيل له: وجه العلَّة التي لأجلها صرَّح بذلك للنَّاس(41) واضحة أيضًا لقوله(42) ╕: «مَنْ أَهْدَى(43) إِلَى هُدَى كانَ لَهُ أَجْرُهُ وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهِ» وقوله ╕: «مَنْ بَلَّغَ عَنِّي حَدِيْثًا وَاحَدًا يُقيمُ بهِ سُنَّةً، أو يردُّ(44) بهِ بِدْعَةً كُنْتُ لَهُ شَفِيْعًا يومَ القيامةِ» إلى غير ذلك مِن الأحاديث التي جاءت في هذا المعنى.
          ولمَّا أنْ(45) كان في مسألة عمر ☺ حكم شرعيٍّ وقاعدة مِن قواعد الأحكام أدَّته الضَّرورة إلى ذكر(46) ذلك للنَّاس لكي يُقتدَى به في ذلك، ولكي يقرر الدِّين ويبينه فكانت الضَّرورة الأخيرة أشدَّ(47) تأكيدًا مِن الأولى.
          ولهذا المعنى جاز لأهل الصُّوفية(48) التَّحدُّث مع إخوانهم بما يُظهِر الله على أيديهم مِن الكرامات وخرق العادات؛ لأنَّ ذكرهم لذلك بين إخوانهم سبب لنشاطهم وسلوكهم ووصولهم إلى رضى(49) ربهم؛ لأنَّه مِن باب مَن أهدى(50) إلى هدى كما تقدَّم، ومِن باب قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] هذا إذا كان ذكر ذلك بين / الإخوان السَّالكين؛ لأنَّ الضَّرورة تحملهم على الذِّكر لتلك العلَّة التي أشرنا إليها.
          وأمَّا لغيرهم مِن العوام أو مِمَّن ليس في طريقهم فذلك لا يسوغ(51)؛ إذ لا فائدة في إخباره بذلك لهم إلَّا لكونهم يعظمونه ويحترمونه أو لغير ذلك مِن الوجوه الممتنعة، والعمل(52) كلُّه على اختلاف(53) أنواعه مِن صَدَقة وصيام وصلاة(54) وغير ذلك ذكره محذور؛ لأنَّه داخلٌ في عموم الآية التي تقدَّم ذكرها، وهي(55) قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ(56)} [محمد:33].
          فإن كان ذلك لعذرٍ والعذر ما قد أظهرناه، يخرج بذلك من عموم الآية(57)، ويَرجع من المندوب والمرغَّب فيه(58).
          وفيه دليلٌ لمالك ⌂ في منعه الربا المعنوي؛ لأنَّ البيع الثَّاني عنده كأنْ(59) لا بيع، وإنَّ السِّلعة بين الثَّمنين لَغوٌ، جاءت(60) الفضة متفاضلة(61) غير يد بيد، وشرح هذه المسائل(62) في كتاب بيوع الآجال مِن كتب الفروع في الفقه.
          وفيه دليلٌ على فصاحته ☺ يؤخذ ذلك مِن قوله: (فَرَأَيْتُهُ يُبَاعُ فسألتُ رسولَ اللهِ صلعم عنهُ(63)) فحذف الجملة الثانية مِن الكلام، وهي: (سألتُ عَنْهُ) معناه: هل يجوز لي شراؤه أو ليس يجوز لي ذلك؟ فحذفها لدلالة الكلام عليها واستغنى عنها(64) بقوله: (عنه) والله الموفِّق.


[1] في (م): ((ظاهره)).
[2] في (ل): ((يستدل)).
[3] زاد في (ل): ((عنه)).
[4] في (ط) و(م)و (ل): ((الأقوال للعلماء)). والمثبت من (ج).
[5] قوله: ((جائزة)) ليس في (ل).
[6] في (م): ((قال)).
[7] في (ج): ((بقرب))، وفي (م): ((بقريب)).
[8] قوله: ((له)) ليس في (م).
[9] في (ط) و (ل): ((قذراً مستخبثاً)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] في (ط): ((تُستخبث وتُكْرَه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[11] في (ج) و(م): ((يؤيد)).
[12] قوله: ((غيره)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى، وبعدها في (ط): ((فكأنه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[13] في (ج): ((طباعها عن)).
[14] في (ط) و (ل): ((فهو)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] في (ج) و(م): ((اجتمع على الامتناع عما فعله)) وفي (ل): ((ما فعل)).
[16] قوله: ((قوله)) ليس في (م).
[17] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
[18] وفي (م) و (ل): ((يجاهد به)).
[19] في (ج) و(م) و (ل): ((أراد)).
[20] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).
[21] في (م) و (ل): ((من)).
[22] قوله: ((له)) ليس في (ج) و(م).
[23] قوله: ((بعلم)) ليس في (م).
[24] قوله: ((بذلك)) ليس في (ل).
[25] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[26] في (ل): ((يباع)).
[27] في (ج) ((لك علم به)) ليس في (ج)، وقوله: ((بما هو)) ليس في (م).
[28] في (ل): ((فوقف)).
[29] في (ل): ((يسأل)).
[30] قوله: ((اختيار)) ليس في (ج).
[31] في (ج): ((أمره)).
[32] قوله: ((عنه)) ليس في (ل).
[33] في (م): ((أنه)).
[34] في (ج): ((لقوله)).
[35] في (م) و (ل): ((لا)).
[36] في (م): ((أذاته)) وفي (ل): ((تكون إذاية)).
[37] في (م): ((له كرهاً)) وفي (ل): ((بذكرها)).
[38] قوله: ((أن)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] في (ج): ((ورأوا)).
[40] في (ل): ((في)).
[41] في (ج): ((الناس)).
[42] في (م): ((بقوله)).
[43] في (ج) و(م): ((هدى)).
[44] في (ج): ((ويرد)).
[45] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[46] في (ج) و(م) و (ل): ((لذكر)).
[47] في (ج) و(م): ((أكثر)) وفي (ل): ((الآخرة أشد)).
[48] في (ل): ((الصوفة)).
[49] قوله: ((رضى)) ليس في (م).
[50] في (ج) و(م): ((هدى)).
[51] في (ل): ((لا يجوز)).
[52] في (ج) و (ل): ((فالعمل)).
[53] قوله: ((اختلاف)) ليس في (م).
[54] في (م) و (ل): ((وصلاة وصيام)).
[55] في (ل): ((وهو)).
[56] في (م): ((ولا تبطلوا صدقاتكم))، و قوله: ((أعمالكم)) ليس في (ل).
[57] في (ج): ((ويرجع من المندوب والمرغب التي تقدَّم ذكرها، وهي قوله تعالى:{وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]. فإن كان ذلك لعذرٍ والعذر ما قد أظهرناه، يخرج بذلك من عموم الآية)).
[58] قوله: ((فيه)) ليس في (ج).
[59] قوله: ((كأن)) ليس في (ج).
[60] في (ج) و(م): ((وجاءت)).
[61] في (ج): ((متماثلة)) وفي (ل): ((جاءت القصة متفاوتة)).
[62] في (ج): ((المسألة)).
[63] قوله: ((عنه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[64] في (ج): ((عنه)).