بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء

          266- قوله صلعم : (يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ...) الحديثَ(1). [خ¦6521]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ الأرضَ التي يُحشر النَّاس عليها(2) يومَ القيامة غيرُ هذه الأرض، وأنَّها بيضاء مستوية مدوَّرة، لم يتقدَّم فيها لأحد مِلكٌ وَلا تصرُّف، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: مَا الحكمة في إخبارنا بهذا؟ وَهل هذه الأرض خُلقت أو لم تُخْلَق بعد، وإنَّما يكون خلقها(3) في ذلك الوقت؟ وهل نفهم مَا الحكمة أيضاً بأن لا يكون الحساب عَلى هذه الأرض، أو ليس(4) لنا طريق لذلك؟ ومَا(5) الفائدة بأنْ نعتَ صلعم تلك الأرض بصفتين، / ومعناهما واحد، لأنَّ عَفْراء معناها بيضاء؟.
          أمَّا قولنا: ما الحكمة في أنْ أخبرنا بذلك؟ فاعلمْ _وفَّقنا الله وإيَّاك_ أنَّ ذلك لوجوه، منها:
          أنَّ فيه دليلاً عَلى عِظم(6) القدرة، وما فيه ممَّا(7) يدلُّ على صفة مِن صفاته ╡ يقوى بها الإيمان، وكلُّ ما فيه زيادةٌ مَا في الإيمان(8) فهو مِن أعظم الفوائد وَالقُرَب إليه ╡ . وَمنها: الإعلام بجزئيات ذلك اليوم حتَّى يكون المؤمن في أمره عَلى بصيرة، فيتأكَّد تصديقه بذلك اليوم حتَّى يرجع العلم به كأنَّه(9) عين اليقين(10)، حتَّى إذا كان ذلك الوقت لم يزِده الأمر شيئاً، غير أنَّه انتقل مِن علم اليقين إلى معاينته، ويكون أيضاً علمه بجزئياته عَوناً له على نفسه وَعلى عدوِّه في القهر لهما، وَأخذه(11) الأُهبة لِمَا يخلِّص به نفسه، فإنَّه يكون عمله(12) على يقين وتحفُّظ. وذلك أزكى في الأعمال وأبرك.
          ولذلك قال أبو بكر ☺: ((لو كُشِفَ الغِطَاءُ ما ازدَدتُ يقيناً)) لأنَّه قد حصل له مِن العلم بذلك اليوم وجزئياته ما(13) لا يزيده العِيان(14) فيه شيئاً، ومثل ذلك ما قاله المؤمنون يوم الأحزاب: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} [الأحزاب:22] وكان غير المؤمنين كما أخبر(15) ╡ عنهم: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب:19] فشَبَهُ(16) الفريقين في ذلك اليوم كَشَبَهِهِمْ يوم(17) القيامة.
          ومعرفة جزئيات الأمر قبل وقوعه فيه رياضةٌ للنَّفس(18) / عَلى حملها على ما فيه خلاصها هناك(19)، وتهوينٌ عَليها أيضاً في ذلك، بخلاف الأمر إذا جاء فجأة، وَلا علم لها به، يَعْظُم الأمرُ عليها أضعافَ(20) مَا(21) هو، وفوائد عديدة إذا تتبَّعتها وجدتَها.
          وأمَّا قولنا: هل هذه الأرض خُلقتْ، أو تُخلق في ذلك الوقت؟ ليس في الحديث ما يدلُّ على واحد مِن ذلك، والقدرة صالحة، غير أنَّه قد جاء أنَّ لله ثمانيةَ عشرَ ألفَ عالَم، والأخبار تقتضي أنَّ تلك الأرضَ أكبرُ مِن هذه، بدليل أنَّه قد جاء(22) أنَّ كلُّ مَا في هذه الأرض وَما عليها يُحشرون يوم القيامة، وكلُّ مَن في الأَرَضِين السَّبع، وكلُّ مَن في السَّماوات مِن الملائكة وغيرهم، فإنَّ(23) هذه الأرض بنفسها تُحشر أيضاً بدليل أنَّ بقاعها تشهَدُ بما فُعل عليها مِن خير وغيره، ولا تشهد إلَّا وَهي حاضرة، يشهد لذلك قوله ╡ : {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا. بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة:4-5] ونستفيد(24) مِن الأخبار بأنَّ لله ╡ ثمانيةَ عشرَ(25) ألف عالَم، فإن كانت تلك الأرض مخلوقة فتكون واحدةً مِن هذا(26) العدد المذكور، وإن لم تكن مخلوقة فليست(27) مِن هذه العوالم وتُخلق بعد. والله أعلم بحقيقة ذلك.
          وأمَّا قولنا: هل تُفهم الحكمة في أنَّ الحساب لا يكون على هذه الأرض فنقول، والله أعلم: إنَّه لَمَّا شاء القادر أن يَسْتَنْطِق بِقَاع(28) الأرض بما / فُعل عليها فتكون شاهدة بذلك، والشَّاهد إنَّما وظيفته الاشتغال بأدَاء الشَّهادة. ووجه ثانٍ وَهو أنَّه لَمَّا كان ذلك اليوم يومَ عدل وظهورِ حقٍّ فينبغي بمقتضى الحكمة أن يكون المحلُّ الَّذي يكون فيه طاهراً(29) كما يليق بالحكم، وَهذه الأرض قد توسَّخت بالمعاصي والمظالم والتَّخاصم فيها، فَلا يليق أن تكون ظرفاً لذلك الأمر الحقِّ والخطب العظيم. ولوجهٍ(30) آخر: وهو أنَّه لَمَّا كان الحُكْم في ذلك اليوم لله وحدَه خالصاً بلا واسطة(31) فينبغي مِن طريق الإجلال والترفيع لجلاله ╡ ولِـحُكْمِه(32) الحقِّ أن يكون المحلُّ الذي يكون(33) فيه ذلك الحُكُم الخاصُّ لله وحدَه، لا يتقدَّم فيها دعوى مُلْك لأحد، وهذه فيها الدَّعاوى كثيرة.
          ومما رُوي في ذلك أنَّ رجلين تخاصما في أرض فأنطق الله تلك الأرض وَقالت: في ماذا تختصمان(34)؟ وقد مَلَكَني قبلَكم ألفُ أعور دون الأصِحَّاء؟ أو كما ورد. فهي الخِصَام والتشاجُرُ فيها على هذا القدر الذي لا يعلمه إلَّا الله تعالى! فكيف يكون عليها حكم أعدل العادلين(35)؟! فتبديلُها بتلك الأرض النَّقيَّة بمقتضى الحكمة(36).
          واحتمل وجهاً(37) آخر: وَهو أنَّه لَمَّا كان ذلك اليومُ(38) يتجلَّى الله سبحانه لعباده المؤمنين، وينظرون إلى وجهه(39) الكريم، / فَلا يكون تجلِّيه ╡ لعباده إلَّا وَهم على أرض تليق بالتجلِّي.
          واحتمل مجموع التوجيهات كلِّها، وَهذا هو اللائق بالحكمة والتَّعظيم لحكم ربِّ(40) العالمين وتجلِّيه ╡ لعباده. فسبحان الَّذي(41) خلق كلَّ شيء فأتقنه.
          وأمَّا قولنا: مَا الفائدة بأن نعت صلعم الأرض بصفتين وَمعناهما وَاحد(42)؟ فإنَّما فعل صلعم ذلك لرفع الإلباس(43)، لأنَّ العرب تقول: أسود حالك(44)، وأحمر قانٍ، وأصفر فاقع، فذلك تحقيقٌ لتلك الأسماء مِن أجل الاشتراك الذي يلحقها في اللُّغة مع غيرها، إذا لم يؤكِّدوها(45) بزيادة تلك الصِّفة الرافعة للاشتراك العارض لها؟ وهذا مثله.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه أنَّه ينبغي للمتكلِّم أن يحرِّر(46) ألفاظه، ويُحرِزها مِن الاحتمالات الممكنة فيها.
          وقوله: (نَقِيَّةٌ) أي: ليس فيها جبالٌ ولا عليها شجرٌ ولا نبات ولا فيها خنادق(47) إلَّا مستوية. وقد جاء أنَّها تُمدُّ مَدَّ الأديم، فدلَّ هذا على حُسْن استوائها.
          وفي كونها بيضاء دليل على أنَّ البياضَ هو خير الألوان، لأنَّ ما اختاره الله ╡ لإنفاذ حُكمه وتجلِّيه لعباده مِن الألوان هُو خيرُها، وقد قال صلعم : «خَيْرُ لِبَاسِكُم البَيَاضُ» وما فيها(48) وجه منِ الوجوه إلَّا وفيه دليلٌ عَلى عظم(49) قدرته. تعالى(50) وعظُم سلطانه تبارك وتعالى علوَّاً كبيراً.


[1] في (ب): ((عن سَهْل بْن سَعْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلعم يَقُولُ: يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى أَرْضٍ بَيْضَاءَ عَفْرَاءَ، كَقُرْصَةِ نَقِيٍّ. قَالَ سَهْلٌ أَوْ غَيْرُهُ: لَيْسَ فِيهَا مَعْلَمٌ لِأَحَدٍ)).
[2] قوله: ((عليها)) ليس في (ج).
[3] في (م): ((خلقاً)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ج): ((الأرض وليس)).
[5] في (ج): ((وأما)).
[6] في (ج) و(ت): ((عظيم)).
[7] في (ج) و(ت): ((ما)).
[8] قوله: ((يقوى بها الإيمان، وكلُّ ما فيه زيادةٌ مَا في الإيمان)) ليس في (ب).
[9] في (م): ((كأن)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((يقين)).
[11] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((وأخذ)). وبعدها في (ب): ((الأهبة فيما)).
[12] في (المطبوع): ((علمه)).
[13] قوله :((ما)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] في (م) و(ت): ((للعيان)) والمثبت من (ج) و(ب).
[15] في (ج) و(ب): ((أخبر الله)). و قوله بعدها: ((عنهم)) ليس في (ب).
[16] في (م): ((فيشبه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] في (ج): ((في)).
[18] في (ب): ((رياضة النفس)).
[19] في (ج): ((هنا)).
[20] في (م) و(ج): ((أضعاف)) والمثبت هو الصواب، وهو موافق للمطبوع. كذا في (ت): ((أضعاف)).
[21] في (م): ((مما))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[22] قوله: ((أنه قد جاء)) ليس في (ب).
[23] في (ب): ((وإن)).
[24] زاد في (ج): ((منه)).
[25] قوله: ((عشر)) ليس في (ج).
[26] في (م) و(ت): ((هذه)) والمثبت من (ج) و(ب).
[27] في (م): ((مخلوقة فليس هي))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[28] زاد في (ج) و(ت): ((هذه)).
[29] في (ت): ((ظاهراً)).
[30] في (ب): ((ووجه)).
[31] في (ج): ((في ذلك اليوم فيه خالصاً واحدة بلا وساطة)). في (ت): ((وساطة)).
[32] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((وبحكمه)).
[33] قوله: ((يكون)) ليس في (ج).
[34] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((تختصمون)).
[35] في (ج) و(ت): ((الحاكمين)). وبعدها في (ب): ((فتبدلها)).
[36] في (ج) و(ب): ((مقتضى بالحكمة)).
[37] في (ج): ((وجه)).
[38] زاد في (ب): ((يوم)).
[39] في (ب): ((وجه)).
[40] في (ب): ((لربِّ)).
[41] زاد في (ب): ((أتقن كل شيء و)).
[42] قوله: ((واحد)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج) و(ب).
[43] في (المطبوع): ((الالتباس)).
[44] في (ب): ((كالح)).
[45] في (م): ((يؤكدها)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[46] في (ت): ((يحرز)).
[47] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((خناديق)).
[48] في (ب): ((منها)).
[49] في (ب): ((عظيم)).
[50] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((سبحانه)).