بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث رافع: الحمى من فور جهنم فأبردوها عنكم بالماء

          174-قوله صلعم يَقُولُ(1): (الْحُمَّى مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ...) الحديث(2). [خ¦3262]
          ظاهر الحديث الإخبار بأنَّ الحُمَّى مِن جهنَّم، والأمر بإبرادها عنَّا بالماء، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنْ يُقال: هل هذا على العموم في الحُمَّيَات(3) كلِّها أم لا؟ لأنَّ منها ما هي باردة ومنها حامية سُخنَة؟ وهل معنى إبرادها(4) هو ما يعلم مِن هذه الصيغة بالعادة وهو ضد الحرِّ؟ أو يكون معناها(5) أزيلوها(6) فيكون هذا على جهة التداوي؟ وكيف(7) يكون الإبراد بالماء هل مِن خارج(8) أو مِن الباطن أو مجموعهما(9)؟
          والجواب عن(10) الأوَّل: وهو: هل هذا على العموم في الحُمَّيَات(11) كلِّها / أو في السُّخنة منها؟ فالجواب: أنَّ هذا الإخبار منه ╕ هو على طريق الشَّفقة منه والرَّحمة مِن الله تعالى، فينبغي أنْ يؤخذ على أتمِّ المحتملات، لأنَّه أبلغ في الفائدة والذي يدلُّ عليه حقيقة اللفظ، والوجه الآخر وإن كان محتمَلًا، فليس بالقويِّ، لأنَّه يحتاج إلى تقدير ضمير في الكلام، وحمل الكلام على ظاهره أولى مِن إدخال ضمير فيه، سيَّما إذا لم يكن هناك معارض، فكيف إذا كانت الفائدة أكثر؟
          ومما يصدق هذا الوجه قوله ╕: (إنَّها مِنْ(12) فَوْرِ جَهَنَّمَ)، وقد جاء في الحديث: «إنَّ النَّار اشتكت إلى ربِّها، فقالت: يا ربِّ، أَكَلَ بعضي بعضًا، فأذن لها بنَفَسَيْنِ في كلِّ عامٍ، نَفَسٍ في الشِّتاء، ونَفَس في الصَّيف»، فما كان مِن شدَّة الحرِّ فمنها، وما كان مِن شدَّة البرد فمنها(13)، فعلى هذا فجميع الحُمَّيَات على اختلافها هي مِن جهنم، فينبغي تبريدها بالماء، لكن لمن يكون له تصديق بالحديث.
          كما قال مولانا(14) جلَّ جلاله في العسل: {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل:69] وكان ابن عبَّاس ☺ إذا رمدت عيناه يكتحل به ويتلو الآية فيبرأ، وكان ابن عمر ☺ إذا طلع له نَبْت يطليه به ويتلو الآية فيبرأ(15)، وقد جاء بعض المتأخِّرين واستعمله على تلك النيَّة فجعل له فيه الشفاء(16) لكل شيء.
          والحديث المأثور الذي جاء فيه(17) قوله صلعم : «صَدَقَ اللهُ وكذَبَ بطنُ أخيك» في رجلٍ اشتكى له ╕ بجريان(18) بطن أخيه، فقال له(19) ╕: «اسقه عسلًا»، ففعل، ثمَّ أتاه بعد ذلك يشكو له أنَّ الأمر على حاله، فقال: «اسقه عسلًا»، ثمَّ أتاه الثَّالثة أو الرَّابعة(20) كذلك، ثمَّ شُفي(21)، فقال ╕: «صَدَقَ اللهُ وكَذَبَ / بطنُ أخيك».
          ومثل ذلك قوله ╕ في الحَبَّة السوداء: «شفَاءٌ مِن كلِّ داء إلَّا السَّام»، الباب في هذا كله واحدٌ، فأهل التَّوفيق والتَّحقيق(22) أخذوها كلَّها على العموم، فوجدوها كذلك، والأخبار في ذلك عنهم كثيرةٌ، ومما يقوي طريقهم المبارك قوله جلَّ جلاله(23): {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، فينبغي أنْ تبقى الرحمة على عمومها لأنَّها مِن أرحم الراحمين للضعفاء(24)، وهو ╡ يعلم ضعفهم واحتياجهم إليه(25).
          وأمَّا الجواب على قوله ◙ : (أَبْرِدُوهَا) فيحتمل(26) الوجهين على انفرادهما، واحتمل مجموعهما، وهو الأظهر؛ للعلَّة التي قدَّمناها آنفًا، لأنَّه مِن باب الرَّحمة فينبغي أخذ أتمِّ الوجوه، وهو جمع الوجهين معًا، فيحصل له التَّبريد على بابه والشِّفاء(27) بمقتضى ما أصَّلناه(28) أوَّلًا، وهو الحقُّ الذي لا ينبغي أنْ يشكَّ فيه.
          وأمَّا كيف يكون الإبراد بها؟ هل مِن خارج أو ضدِّه أو المجموع؟ فقد جاءت الصِّفة عنه ╕ وهي(29) حين حُمَّ في مرضه الذي توفي فيه(30) صلعم فقال صلعم : «خذوا لي ماءً مِن سبع قِرَبٍ لم تُحَلَّ(31) بعدُ، واسكبوه / عَلَيَّ»، فدلَّ بقوله ╕ على(32) أنَّ التَّبريد الذي هو التَّداوي(33) هذه صفته، لأنَّ استعماله في الباطن صاحَبَ الحُمَّى بالعادة، يفعله(34) في الغالب منهم ولا يقدرون عن(35) الصَّبر عنه.
          وفيه دليلٌ: على عظيم قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: إنَّها (مِنْ فَوْرِ جَهَنَّمَ)، وقد أخرج إلى هذه الدَّار منها ما ذكر في الحديث الذي استشهدنا به مِن(36) الحرِّ الشَّديد والبرد الشَّديد، وقد جاء أنَّ الحمَّى حَظُّ كلِّ مؤمن مِن النَّار، ويظهر في(37) ذلك مِن الحكمة على مقتضى هذا الحديث الذي ذكرناه، أنَّها على المؤمن تَحِلَّة القَسَم إذ هي حظُّه مِن النَّار، وأنَّها للكافر تعجيل نقمة(38) مما أُعِدَّ له هناك.
          وفي قوله ╕: (فَأَبْرِدُوهَا(39) عَنْكُمْ بِالْمَاءِ) دليل على أنَّ الحكمة تقتضي مداواةَ الشَّيء بضدِّه، ما يكون حارًّا تكون(40) مداواته بالبارد، والبارد بالحارِّ، ووافق في(41) ذلك قول الأطباء في التَّجربة سواء بسواء.
          وهنا بحثٌ: وهو أنَّ الصَّادق صلعم قد أخبر هنا أنَّ الحمى مِن فور جهنم، والأطباء يقولون: إنَّها صادرة عن أخلاط في البدن، فهل يكون هذا مِن قبيل التَّعارض أو يمكن(42) الجمع بينهما؟
          الذي يظهر والله أعلم أنَّ الجمع يمكن(43) بينهما بوجه، وذلك أنَّ الأطباء تكلَّموا على ما رأوه بالتَّجربة مع مرور الأزمنة، وهي مقتضى الحكمة، وأخبر الصَّادق ╕ بما هو الحقُّ بحسب القدرة، فتكون تلك الحمَّى التي هي / مِن فور جهنم إذا أرسلت على من شاء الله تعالى(44) مِن عباده، فَسَد(45) مزاجه، وتحركت تلك الأخلاط التي أبصرها الأطباء، فأخبروا أنَّ تلك هي الحمَّى وسمَّوها أسماء عديدة: مثل المُطْبِقَة، والحارة، والرِّبْع، والغِبِّ(46) وغير ذلك مِن أسمائها بحسب ما هو منصوص في كتبهم.
          وجاء هذا مثل فعلهم مع العليل، تراهم(47) كثيرًا ما يسألونه(48): هل يطيب له(49) الطعام أم لا؟ فإذا ذكر لهم أنَّه يطيب له الطَّعام فرحوا(50) بذلك وبشَّروه بإمكان الصِّحة، وأنَّ المرض قد ذهب.
          وقد جاء عن الصَّادق صلعم أنَّه(51) سبحانه وتعالى وكَّل بالطَّعام مَلَكًا وبالشَّراب مَلَكًا، فإذا شاء الله مَرَضَ العبدِ أمر الله عزَّ(52) وجلَّ ملك الطَّعام ومَلَكَ الشَّراب(53) أنْ يزيلا عن العبد طيب الشَّراب وطيب الطَّعام، فيكون عند ذلك بقدرة الله تعالى مرض العبد، فإذا أراد الله ╡ بُرْأَه، أَمَرَ ذَيْنك المَلَكين أنْ يَرُدَّا عليه طيب الطَّعام والشَّراب، فيكون عند ذلك(54) بفضل الله وقدرته(55) عافية المريض.
          فلمَّا رأى(56) الأطباء تلك العلامة بدوام التَّجربة دالَّة على عافية العليل(57)، نسبوها إلى نُجْحِ طبِّهم، وتأثير أدويتهم ففرحوا بذلك، فسبحان من غطَّى(58) عظيم قدرته ببديع حكمته، جعلنا الله ممَّن عافاه في الدُّنيا والأخرة بمنِّه وفضله إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير(59).


[1] قوله: ((يقول)) ليس في (ج) و (م). ولا الأصل.
[2] زاد في (ج) و (م): ((الحديث)). وهي في الأصل.
[3] في النسخ: ((الحمايات)) وكذا في المواضع التي تليها، والمثبت هو الصواب.
[4] في (ج) و (م): ((هل معنى أبردوها)).
[5] في (م) و (ج): ((معناه)). كذا الأصل.
[6] في (ط) و(ج): ((أن يلوها)) والمثبت من (م).
[7] في (م): ((كيف)).
[8] قوله: ((فيكون هذا على جهة التداوي؟ وكيف يكون الإبراد بالماء هل من خارج)) ليس في (ج).
[9] في (ج): ((مجموعها)).
[10] زاد في (ج): ((ذلك)).
[11] في (ج) و (م): ((الحمايات)). كالاصل.
[12] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[13] قوله: ((وما كان من شدة البرد فمنها)) ليس في (ج).
[14] قوله: ((مولانا)) ليس في (ج).
[15] في (م): ((ويبرأ)).
[16] في (ج) و (م): ((شفاء)).
[17] زاد في (ج) و (م): ((هو)).
[18] في (ج): ((تجريان)) وفي (م): ((بجريان)).
[19] قوله: ((له)) ليس في (م).
[20] في (ج): ((والرابعة)).
[21] زاد في (م): ((به)).
[22] في (م): ((التحقيق والتوفيق)) بتقديم وتأخير. وقوله: ((التوفيق)) ليس في (ج).
[23] في (ج): ((المباركة قول الله سبحانه)).
[24] زاد في (ج) و (م): ((المساكين)).
[25] قوله: ((إليه)) ليس في (ج) و (م). وليست في الاصل.
[26] في (ج): ((يحتمل)).
[27] في (ج): ((على ما به الشفاء)) وصورتها في (م): ((على ما به والشفاء)).
[28] في (ج): ((أصلناه)) وفي (م): ((ما أصلناه)). كالاصل.
[29] في (ج): ((وهو)).
[30] في (ج): ((الذي هو توفي منه)).
[31] في (ج): ((يحل)).
[32] زاد في (ج) و (م): ((على)).كذا الاصل.
[33] في (ج): ((للتداوي)).
[34] في (ج): ((يفصله)).
[35] في (ج): ((ولا يقدرون على)).
[36] في (ج): ((في)).
[37] قوله: ((في)) ليس في (ج).
[38] في (ج) صورتها: ((نعمة)).
[39] في (ج) و (م): ((وأبردوها)).
[40] قوله: ((حارا تكون)) ليس في (ج).
[41] قوله: ((في)) ليس في (ج).
[42] في (م): ((ممكن)).
[43] في (ج): ((يكون)) وفي (م): ((ممكن)).
[44] زاد في (ج): ((فور على أحد)).
[45] في (ج): ((فسده)).
[46] في (ج): ((والغضب)).
[47] في (م): ((نراهم)).
[48] في (ج): ((مما يسألون)).
[49] في (ج): ((كثيرا مما يسألون: هل يطيب لهم)).
[50] في (ج): ((يطيب لهم فرحوا)).
[51] في (ج) و (م): ((أن الله)).
[52] في (ج) و (م): ((أمر عز)).
[53] في (ط): ((الشارب)). تصحيف.
[54] قوله: ((الله ╡ بُرْأَه، أَمَرَ ذينك المَلَكين أنْ يَرُدّا عليه طيب الطَّعام والشَّراب، فيكون عند ذلك)) ليس في (ج).
[55] في (ج): ((وبقدرته)).
[56] في (ج): ((رآه)).
[57] في (م): ((عافية المريض)).
[58] في (الملف): ((أعطى)).
[59] في (م): ((والآخرة بمنه وكرمه)). وقوله: ((وفضله أنَّه على كلِّ شيءٍ قدير)) ليس في (ج).