بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إذا صلى أحدكم إلى شيء يستره من الناس

          32- (عَنْ أَبِي سَعِيدٍ(1) قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَان). [خ¦509]
          ظاهرُ الحديثِ جوازُ مُقاتَلَةِ الذي يمرُّ بينَ المصلِّي وسُترتِهِ، والكلامُ / عليهِ مِن وجوهٍ:
          منها: معرفةُ السُّترة المُجْزِئةِ وكيفيِّةِ(2) الصلاةِ إليها.
          ومنها: معرفةُ هذهِ المُقاتَلة(3) ووقتُها، فأمَّا السُّترةُ: فعلى وجهينِ: متَّفَقٍ عليها ومختَلَفٍ فيها، فالمُتَّفَقُ عليها هي(4) قَدْرُ مُؤخَّرَةِ الرَّحْلِ، وهي قَدْرُ عَظْمِ(5) الذِّراعِ وغِلَظُ الرُّمحِ؛ لأنها صِفَة العَنَزَةِ التي كانَ بلالٌ يَضَعُها بينَ يدَي النبيِّ صلعم في السفرِ إذا أرادَ الصلاةَ، وما دونَ ذلكَ مُختلَفٌ فيهِ، وهو مذكورٌ في كتبِ الفروعِ.
          وأمَّا كيفيَّةُ الصَّلاةِ إليها، فتكونُ إلى الحاجبِ الأيمنِ ولا يُعتمَدُ(6) إليها؛ لأنَّ فيها(7) شبهًا بعبادةِ الأصنامِ، وكلُّ شيءٍ فيه شَبَه في مكروهٍ أو مُحرَّمٍ كَرِهتِ الشريعةُ التشبُّهَ(8) به.
          وأمَّا المُقاتَلَةُ وكيفيَّتُها فاختلفَ الناسُ فيها اختلافًا كثيرًا حتى إنَّ مَن(9) تغايا(10) في ذلكَ مِن بعضِ العلماءِ قال: إنْ قَتَلَهُ فدَمُهُ هَدَرٌ، والصحيحُ منها ما يدلُّ عليه تعليلُ الشارعِ صلعم في آخرِ الحديثِ، وإنْ كانَ لم يسمعها(11) ممن تقدَّمَ لأنه ◙ قال: (فإنَّما هُوَ شَيطَانٌ)، فتكونُ المقاتَلَةُ كمَن يُقاتِلُ الشيطانَ(12)، ومُقاتَلَةُ الشيطانِ بالأفعالِ اليَسيرةُ مثلُ الكَتبِ أو الرُّقيَةِ؛ لأن العملَ اليسير(13) في الصلاةِ مِن أجلِ الضرورَةِ جائزٌ، فإذا قاتلَه قتالًا شديدًا يُخرِجُه مِن(14) حَدِّ الصلاةِ، فقد رجعَ المُصلِّي شيطانًا ثانيًا، بل أشدَّ منهُ، ولذلكَ قالَ علماؤُنا المُحقِّقونَ: يدفَعُه دفعًا لطيفًا لا يُخرِجُه مِن الصلاة، فإِنْ أَبَى أن يرجعَ تركَهُ واشتغلَ بالصلاةِ.
          وهنا بحثٌ: هلِ المُقاتَلَةُ مِن أجلِ خللٍ يقعُ للمُصلِّي في صلاتِه أو هوَ مِن أجلِ المارِّ؟ الظاهرُ / والله أعلم أنَّه مِن أجلِ المارِّ وإن كانَ ليسَ في الحديثِ مِن أينَ(15) يُؤخَذُ واحدٌ منهما، لكن هو مُسْتَقْرى مِن خارجٍ، وهُوَ أنَّهُ ◙ قد قالَ في حقِّ المارِّ: «لأَنْ يَقِفَ أَربَعِينَ خَيْرٌ لهُ مِن أَن يَمُرَّ بينَ يَدَيهِ(16)». وقالَ ◙ في(17)حقِّ المُصلِّي: «إنَّ الصَّلَاةَ لا يَقْطَعُهَا شَيءٌ»، فلم يَجِئْ أنهُ(18) إن مَرَّ أحدٌ بينَ يديهِ أنَّ صلاتَه غيرُ مُجْزِيَةٍ،لم يَقُلْ بذلكَ مَن لهُ بالٌ مِن العلماءِ، فبانَ بما قُلناهُ أنه في حقِّ الغيرِ؛ لأنَّ المؤمنَ معَ المُؤمن كالشيءِ الواحدِ، ولذلكَ قالَ ◙ فيهِما: «كالبُنْيانِ»، وقيلَ: «كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعضُهُ(19) بَعضًا».
          ومثلُ ذلكَ إجماعُ العلماءِ أنه لا يجوزُ للمصلِّي أن يرى نَفْسًا تذهبُ وهو قادرٌ على نَجَاتِها ويتركُهَا ويشتغلُ بصلاتِه، فإنْ فعلَ فهو آثِمٌ غيرَ أنه إنْ كانَ الفعلُ في ذلكَ يَسيرًا لم يُخرِجْه مِن صلاتِه وتمادى عليها وأَجزأَتْهُ، وإن كانَ كثيرًا ابتدأَ صلاتَه ولا إثمَ عليهِ في قطعِها.
          وفيهِ دليلٌ على أنَّ السُّترةَ تكونُ بكلِّ شيءٍ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِه: (إِلَى شَيءٍ) فأَتى بهِ نَكِرةً، ومِن أجلِ ذلكَ وقعَ الخلافُ بينَ العلماءِ، فمَن تعلَّقَ بعمومِ اللفظِ ولم يرَ فعلَهُ صلعم مُخصِّصًا في الإجزاءِ أجازَ السُّترةَ بكلِّ شيءٍ، وقالَ: فعلُه ذلكَ يكونُ مِن بابِ الاستحبابِ، ومَن جعلَ فعلَه ◙ مُبَيِّنًا للإجزاءِ فقالَ(20): أقلُّ مِن ذلكَ لا يُجزِئُ وهو الحقُّ، وممَّا يُقوِّي هذا الوجهَ ما جاءَ عنهُ صلعم حينَ سُئِلَ عن سُترةِ المُصلِّي فقالَ(21): (قَدْرُ مُؤْخِرَةِ الرَّحْلِ).
          وفيه دليلٌ على أنَّ السُّترةَ لا تكونُ إلا حيثُ لا / يُؤمَن المُرورُ، وأما حيثُ يُؤمَنُ المرورُ فلا، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِه: (يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ).
          وفيه دليلٌ على أنَّ الظاهِرَ يُستدَلُّ بِه على الباطنِ حيثُ لا يمكنُ وصولُنا إلى الباطنِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِه: (أَرَادَ)، وإرادَتُه ◙ لا تُعلَمُ إلا إذا رأيناهُ قريبًا مِن السُّترةِ، فدلَّ حالُه على ما في نيَّتِه، فنحنُ(22) الآنَ ممنوعونَ مِن الكلام، فعلِمْنا بمُقتضَى ما دلَّ عليهِ حالُه.
          وفيهِ دليلٌ على أنْ لا يُقطَعَ بالشيءِ في الحُكمِ إلا بالدليلِ الذي لا(23) يَحتمِلُ التأويلَ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ أنَّه ◙ لم يُسَمِّه شيطانًا إلا بعدَ الدفعِ ولم يرجعْ(24)، فإنْ رَجعَ(25) فليسَ بشيطانٍ، ووجهُ الفقهِ في ذلكَ أنَّه(26) قد يكونُ مشغولَ الخاطِرِ لم يَرَ المُصلِّي أو يكونُ لم يَتبيَّنْ لهُ أنَّه يُصلِّي أو غيرِ ذلكَ مِن الأَعذارِ، فإذا دفعَه ولم يرجعْ فلمْ يبقَ إذْ ذاكَ عُذرٌ، وحكمنا له بأنه شيطانٌ على تحقيقٍ ويقينٍ.
          ويترتَّبُ على هذا مِن الفقهِ وجهٌ آخرٌ، وهو أنَّ حكمَ المحتَمِل ليسَ كحُكمِ المقطوعِ بهِ ولا يُضيَّع أيضًا حكمُ المحتَمِل؛ لأنَّه إنْ ضُيِّعَ ترتَّبَ(27) عليه مفاسِدُ كثيرةٌ، يُؤخَذُ ذلكَ من كونِه صلعم أَمَرَ أولًا بالدفعِ لاحتمالِ أنْ يكونَ سَاهِيًا أو نَاسِيًا، فإنْ كانَ مِن أحد المحتمِلَات فرجَعَ حَصَل المقصودُ، وإلا قاتلناهُ وحكمنَا له أنه شيطانٌ.
          وفيه دليلٌ على أنَّه لا يُحتَرَمُ إلا مَن يَحتَرِمُ(28)، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّه ◙ لم يجعلْ حُرمةَ عدم(29) المرورِ ومَنْعِه(30) وأمرَ بقتالِ مَن فَعَله إلَّا للمصلِّي الذي جعلَ السُّترةَ، ولم يجعلْ ذلكَ لغيرِه ممَّن ضيَّع الحُكمَ في تركِ(31) السُّترةِ حينَ صَلاتِه، ومما يزيدُ ذلكَ بيانًا قول الفُضَيْلِ بنِ عِياض ☼(32): / مَن خافَ اللهَ خوَّفَ اللهُ منهُ(33) كلَّ شيءٍ، ومَن لم يَخفِ اللهَ خَوَّفه اللهُ مِن كلِّ شيءٍ، فحُرمةٌ بحرمةٍ جزاءً وِفاقًا.
          وفيه دليلٌ على أنَّ السترةَ لا تكونُ إلا مِن الناسِ لا من غيرِهم(34)، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِه: (مِنَ النَّاسِ)، وهذا مما يقوِّي ما ذكرناهُ أوَّلًا أنَّه لو كانَ في حقِّ المُصلِّي لكانَ يُؤمرُ بدفعِ كلِّ مَن يمرُّ بينَ يديهِ مِن الناسِ وغيرِهم.
          وفيه دليلٌ صوفٌّي، وهو أن الحُرمَةَ عندَهم خيرٌ مِن العملِ، يُؤخَذُ ذلكَ(35) مِن حُكمِهِ صلعم لمنِ احْتَرَمَ صلاتَه بجعلِ السُّترةِ جَعَلَ(36) لهُ الإِمْرَةَ على المارِّ بينَ يديْهِ ودَفْعِهِ ومُقاتَلَتِهِ(37) بقولِه ◙ : (فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ)، وفسَّقَ المتعدي(38) عليه حتى جعلَه شَيطانًا.
          وفيه دليلٌ على أنَّه يُحكَمُ للشخصِ بمُقتضَى فِعلِه في الوقتِ، ولا يُنْظَر لِمَا تَقَدَّمَ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن(39) قولِه ◙ (40) : (إِنَّمَا هُوَ شَيطَانٌ) على الإطلاقِ، ولَمْ يُفرِّقْ بينَ مَن كانَ قبلَ ذلكَ على تقوى أو غيرِها.
          وفيه دليلٌ لأهل ِالصوفَةِ الذينَ يجعلونَ الحكمَ للحالِ لا لغيرِه حتى قالوا: لا يكنْ(41) في كلِّ أَنفاسِكَ إلا على ما تُحِبُّ أن تموتَ عليهِ كراهية(42) أنْ يَأتِيَكَ الموتُ في ذلكَ النَّفَسِ، ومَن أَدخَلَ(43) حُسنَ حالِه في خبرِ(44) كانَ فكأنَّه ما كانَ.
          كلُّنا(45) نعرِفُ(46) الحقَّ والصوابَ، لكن لمَّا آثرنا شهواتِ النفوس تعذَّرَ علينا اتخاذُه حالًا، جعَلناَ اللهُ ممَّن سهَّل عليهِ الوصولَ بتحصيلِ الفروعِ والأصولِ.


[1] زاد في (ج): ((أنه)).
[2] في (ل): ((وكيف)).
[3] في الأصل: ((المقابلة)) في هذا الموضع والذي يليه، والصواب المثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ف): ((هو)).
[5] قوله: ((عظم)) ليس في (ل) و(ف).
[6] في (ط): ((ولا يعتمد)) والمثبت من النسخ الأخرى، وفي (ل): ((ولا تصمَّت)). وقوله بعدها: ((إليها)) ليس في (ل) و(ف).
[7] في (م) و(ل) و(ف): ((فيه)).
[8] في (ط) و(ج) و(ف): ((التشبيه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] ((من)) ليس في (ج).
[10] قوله: ((من)) ليس في (ج)، ووقع في المطبوع: ((تغالى)) والمثبت من نسخنا.
[11] كذا في (ط) و(ف)، وفي (ج) و(م) والمطبوع: ((نسمعه))، وفي (ل): ((نسمعها)).
[12] في (ف): ((تقاتل شيطان)).
[13] قوله: ((اليسير)) ليس في (ج).
[14] في (ج): ((عن)).
[15] في (ج): ((أن)).
[16] في (ل) و(ف): ((يدي المصلي)).
[17] قوله: ((المارِّ: لأَنْ يَقِفَ أَربَعِينَ خير لهُ مِن أَن يَمُرَّ بينَ يَدَيهِ، وقالَ ◙ في)) ليس في (م).
[18] قوله: ((أنه)) ليس في (ف).
[19] في (ل): ((بعضهم)).
[20] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((قال)).
[21] في (ل) و(ف): ((قال)).
[22] في (م) و(ل) و(ف): ((ونحن)).
[23] قوله: ((لا)) ليس في (ج).
[24] في (ط) و(ف) و(ل): ((يرتجع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (ل) و(ف): ((ارتجع)).
[26] قوله: ((أنه)) ليس في (م).
[27] في (م): ((ترتبت)).
[28] في (ل) و(ف): ((احترم)).
[29] قوله: ((عدم)) ليس في (ج).
[30] في (ج): ((منعه)) بدون الواو.
[31] في (ف): ((تركه)).
[32] في (ل): ((قوله)) في (ف): ((قوله ◙)).
[33] في (ف): ((من خاف من الله خوف منه)).
[34] قوله: ((لا من غيرهم)) ليس في (م).
[35] قوله: ((ذلك)) ليس في (ج).
[36] في (ج): ((جعل الله)).
[37] في (ف): ((ومقاتله)).
[38] في (ط): ((المعتدى)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[40] قوله: ((◙)) ليس في (ف)..
[41] في (م) و(ل) و(ف): ((تكن)).
[42] في النسخ: ((كرامة)) والمثبت من (ج).
[43] في (ل): ((دخَّل)).
[44] في (ل): ((حيِّز)).
[45] في (ل): ((كأنا)).
[46] في (م): ((يعرف)).