بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أتاني الليلة آت من ربي فقال: صل في هذا الوادي المبارك

          77- (عَنْ عُمَرَ يَقُولُ(1):سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صلعم بِوَادِي العَقِيقِ(2)...) الحديثُ. [خ¦1534]
          ظاهرهُ(3) فيهِ بحثٌ؛ وهو: هلْ يُحمَلُ كما(4) يقتضيهِ لفظُه؟ أو المعنى فيهِ على وجهٍ آخرَ؟.
          فمِنْ قواعدِ الشريعةِ تعرفُ أنَّ (الفاء) هنا(5) ليسَت على حقيقَتِها، وإنَّما هِي تدلُّ(6) على غيرها مِن الحروفِ(7)، وهذا في كلامِ العربِ كثيرٌ؛ لأنَّه قد تقرَّرَ مِن قواعدِ الشرعِ: أنَّ العمرةَ لا تُردَفُ على الحجِّ، وأنَّ الحجَّ هو الذي يُردَفُ على العمرةِ.
          وسببُ الأمر مِن(8) مولانا جلَّ جلالُه في هذا الوادي المباركِ لسيِّدِنا صلعم أنْ يُصلِّيَ فيهِ، وهو ◙ قدْ كانَ أحرمَ عندَ خروجِه مِن المدينةِ بالحجِّ مُفرِدًا(9)، وذلكَ(10) أنَّهُ كانتِ الجاهليةُ قبلَ الإسلامِ تقول(11): إنَّ مِن أفجرِ الفجورِ العمرةَ في أشهرِ الحجِّ، وكانوا يقولون: إذا عفا الوبرُ وبرَأَ الدَّبَرُ ودخلَ صفرُ حلَّت العمرةُ لمن اعتمَرَ، وكانوا يسمُّون المحرَّم صفرَ، فأمرَ اللهُ نبيَّهُ ◙ أن يَنسخَ فعلَ الجاهليةِ بأنْ يُحرِمَ بالعمرةِ في أشهرِ الحجِّ وينفسخَ(12) بذلكَ الإحرامِ إحرامُه المتقدِّمُ بالحجِّ المُفردِ ويكونُ ذلكَ حُكمًا خاصًا بذلكَ الوقتِ؛ لأنَّه لم يأتِ نصٌّ في الأحاديثِ أنَّ العمرةَ يجوزُ إدخالُها على الحجِّ، فتكونُ (الفاءُ) هنا(13) على هذا الوجهِ معناها (عُمرةٌ(14) بدل حَجَّةٍ).
          هذا على القولِ بأنَّ رسولَ اللهِ صلعم أحرمَ مُفردًا(15) وهو حديثُ عائشةَ ♦؛ لأنَّ العلماءَ اختلفوا في حجِّهِ وإحرامِه صلعم اختلافًا كثيرًا، والأحاديثُ في ذلكَ أيضًا مختلفةٌ، وهو موجبُ الخلافِ. /
           وعلى القولِ بأنَّه ◙ أحرمَ أولًا بعمرةٍ فيكونُ هنا قَولُهُ: (عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ) مِن المقلوبِ، ويكون معنى الكلامِ: (حجَّةٌ في عُمْرةٍ)، وقَلْبُ اللفظِ عن حقيقتهِ بغيرِ وجهٍ قطعيٍّ فيهِ إشكالٌ، والأول الذي هو بدلُ الحروفِ بعضُها عن بعضٍ(16) أولى؛ لأنَّه معروفٌ في كلامِ العربِ ومن فصيحِهِ.
          وأمَّا على وجهِ مَن قَالَ: إنَّه صلعم أحرمَ(17) قارِنًا فيكونُ الأمرُ هنا زيادةَ تأكيدٍ في شأنِ ما أرادَ اللهُ سبحانَه أن ينسخَ مِن فعلِ الجاهليةِ؛ لأنْ يكونَ ذلكَ بالسُّنَّةِ أولى وتثبيتًا(18) بالحكم الإلهي ثانيًا.
          ونذكرُ الآن إشارةً إلى ما هوَ الأظهرُ مِن إحرامِه صلعم مِن أجلِ الاختلافِ الواقعِ في ذلكَ، وذلكَ أنَّهُ لمَّا اختلفتِ الأحاديثُ مِن أينَ كان إحرامُه صلعم : هل مِن المسجدِ؟ أو حينَ استوى على راحلتِه؟ أو حينَ توسَّطَ البيداءَ؟.
          سُئِلَ ابنُ عباسٍ ☻ عن سببِ هذا الخلافِ(19)، فقَالَ: أنا أُخبرِكم، كنتُ معهُ صلعم في المسجدِ فصلَّى ثمَّ أحرمَ إثرَ الصلاةِ _وهي نافلةٌ_ فلَبَّى(20)، فمَن كان هناكَ روى ما سمعَ، ثم خرجتُ معه حتى(21) ركبَ، فلمَّا استوى على راحلتِه لَبَّى(22)، فمَن كان هناك روى ما سمعَ، ثم سارَ فسِرْتُ(23) معه حتى توسَّطَ البيداءَ والناسُ أمامَه مَدَّ البصرِ وخلفَه ويمينَه وشمالَه كذلكَ، وهَلَّلَ ولَبَّى، فمَن كانَ هناكَ روى ما سمع(24).
          وأمَّا الذي جاءَ في اختلافِ إحرامِه ◙ / هل كانَ مُفرِدًا(25) أو قَارِنًا أو بعُمرةٍ وكيفيةِ(26) الجمعِ؟ وذلكَ أنَّ عائشةَ ♦ قَالَتْ: خرجنا معَ رسولِ اللهِ صلعم عامَ حَجَّةِ الوداعِ فمِنَّا مَن أَهَلَّ بعمرةٍ ومنَّا مَن أَهَلَّ بحجٍ وعمرةٍ، ومِنَّا مَن أَهَلَّ بالحجِّ، وأَهَلَّ رسولُ اللهِ صلعم بالحجِّ، فأمَّا مَن أهلَّ بعمرةٍ فحَلَّ، وأمَّا مَن أَهَلَّ بالحجِّ أو جمعَ(27) الحجَّ والعمرةَ فلم يَحْلِلْ حتى كانَ يومَ النَّحرِ.
          وقولُ سعدٍ في «الموطأ» للضحَّاكِ: بئس ما قلتَ يا ابن أخي، قد صنعَها رسولُ اللهِ صلعم وصنعناها معهُ _يعني العمرةَ_ في حجَّةِ الوداعِ.
          وقولُ حفصةَ لرسولِ الله صلعم : ما شأنُ الناسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ(28) أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ فقَالَ: «إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ»[خ¦1566].
          ورُوِيَ عن أنسِ بن مالك ☺ أنَّ رسولَ اللهِ صلعم قَرَن، وأنَّه سمعه(29) يقولُ: «لبَّيكَ اللهُمَّ(30) بحجَّةٍ وعُمرةٍ معًا»(31).
          واختلفَ الناسُ في كيفيةِ الجمعِ بينهما، فمِن أحسنِ ما قيلَ في ذلكَ: أنَّه ◙ أحرمَ أولًا مُفرِدًا بالحجِّ، فمن سمعَ ذلك أخبرَ بما سمِعَ، ثمَّ فسخَهُ في العمرةِ حينَ أمرَه الحقُّ جلَّ جلالُه كما(32) تقدَّمَ، فمَن سمعِ إهلالَه ◙ بالعمرةِ مُفردًا(33) روى ما سمعَ، ثمَّ إنَّه ◙ لَمَّا قَدِمَ مكَّةَ قبلَ أنْ يطوفَ بالبيتِ أردفَ الحجَّ على العمرةِ، فمَن سمعَهُ(34) يُلبِّي بهما(35) حدَّث بما سمِعَ، فصَدقَ أن يُقَالَ: (مُفرِدًا(36))، وأن يُقَالَ: (مُتمتِّعًا)، / وأنْ يُقَالَ: (قارِنًا)، والكلُّ حقٌ، ولا تناقضَ بينهما وإنما كانَ يكونُ التناقضُ أن لو كانتِ الأحاديثُ(37) كلُّها عن يومٍ واحدٍ في ساعةٍ واحدةٍ، وهذا لم يوجدْ فلا تعارضَ عندَ التحقيقِ(38) والحمد لله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، فهذا ما أمكنَ الكلامُ فيهِ(39) على قَولِه: (في حَجَّةٍ) على التقريبِ والاختصارِ.
          وفيهِ دليلٌ على أنَّ اللهَ ╡ يُفضِّلُ ما يشاءُ مِن خلقِه جمادًا(40) أو غيرَه فضلًا مِنه تَعَالَى، يُؤخَذُ ذلكَ مما قيلَ له ◙ : «فِي هَذَا(41) الوَادِي المُبَارَكِ» فسُمِّي بالبركةِ.
          وفيهِ دليلٌ على أنَّ المقصودَ منَّا في الأمكنةِ والأزمنةِ المُباركةِ التعبُّدُ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ: «صَلِّ(42) فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَكِ»، فمن أجلِ بركتِه أَمَرَ بالصلاةِ فيهِ كما قَالَ تَعَالَى في الأشهرِ الحُرُمِ: {فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، ونهى عن الظلمِ فيها لكونِ الإثمِ عليهِ إذْ ذاكَ أكثرُ ممَّا لو كانَ في غيرِها، والأمرُ بالشيءِ نهيٌ عن ضدِّه، والنهيُ عن شيءٍ(43) أمرٌ بضدِّه، فلمَّا نهى عن تركِ الظلمِ فيها يلزمُ فعلُ الطاعةِ أو يُندَبُ فيها.
          وفيهِ دليلٌ على تفضيلِ بني آدمَ على غيرِهم مِن المخلوقاتِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّ ما فَضُلَ من البُقعِ والأزمنةِ إنما هي(44) مِن أجلِ بني آدمَ لكونِهم أُمِروا فيها بالتعبُّداتِ وضُوعِفَ لهم الثوابُ على ذلك، يدلُّ على ذلكَ قَوله(45) تَعَالَى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13] فكانت الفائدةُ لنا ورحمةً بنا. /
           وفيهِ دليلٌ على جوازِ الإخبارِ بأمرِ الآمرِ، ولا يلزمُ ذكرُ الواسطةِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ ◙ : «أَتَانِي(46) اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي»، ولم يذكرْ مَن كانَ الآتي، هل(47) جبريل ◙ أو غيرُه؟.
          وفيهِ دليلٌ على تأكيدِ الركوعِ قبلَ الإحرامِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِنْ قَولِهِ صلعم : «صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَك، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ»، فلم يؤمَرْ(48) ◙ بالإحرامِ إلا بعدَ الركوعِ، وإن كانَ سيدُنا صلعم قد سنَّها قبلُ فجاءَ الأمرُ هنا تأكيدًا لِمَا كانَ هو(49) صلعم سَنَّه، وعلى القولِ _وهو الأظهرُ_ أنَّه ◙ أحرمَ أولًا مُفرِدًا يجوزُ فسخُ الحجِّ في العمرةِ إذا كانَ هناكَ عُذرٌ يُوجِبُ ذلكَ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن فسخِه ◙ الحجَّ في العمرةِ للعذرِ الذي قدَّمنا ذكرَه.
          ومنهُ واللهُ أعلمُ أجازَ العلماءُ لمَن فاتَه الوقوفُ بعرفةَ إن شاءَ أنْ يفسخَ إحرامَه في عمرةٍ فعلَ؛ لأنَّه عذرٌ يوجِبُ له الخيار بما ذكرنا أو يبقى على إحرامِه إلى قابلٍ.


[1] في (ج) و(م) و(ل): ((قوله)) بدل قوله: ((عن عمر يقول)) وبين هذا الحديث والذي بعده تقديم وتأخير في النسختين (م) و(ج).
[2] زاد في (ل): ((يَقُولُ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الوَادِي المُبَارَك، وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ)).
[3] قوله: ((ظاهره)) ليس في (ج) و(م).
[4] في (ج) و(م): ((على ما)).
[5] العبارة في (ج) و(م): ((تعرف أن في ههنا)).
[6] في (ج): ((بدلٌ)).
[7] قوله: ((من الحروف)) ليس في (م).
[8] في (ج): ((الأمرين)).
[9] في الأصل (ط): ((منفردًا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] في (م): ((أو ذلك)).
[11] في (ج) و(م) و(ل): ((يقولون)).
[12] في (ج): ((وينسخ)).
[13] في (ج) و(م): ((فتكون في ههنا)).
[14] صورتها في (م): ((فمرةٌ)).
[15] في الأصل (ط): ((منفردًا)) والمثبت من النسخ الأخرى، والحديث أخرجه أحمد ░24077▒، ومسلم ░1211▒ ░122▒، وأبو داود ░1777▒، والترمذي ░820▒، والنسائي ░2735▒، وابن ماجه ░2964▒ من حديث عائشة ♦.
[16] قوله: ((بعضها عن بعض)) ليس في (ج) و(م)، وفي (ل): ((بعضها من بعض)).
[17] قوله: ((أحرم)) ليس في (م).
[18] صورتها في (م): ((تبينًا)).
[19] في (ل): ((الاختلاف)).
[20] قوله: ((فلبى)) ليس في (ط) و(ل).
[21] في (م): ((حين)).
[22] زاد في (ل): ((وأحرم)).
[23] في (م) و(ل): ((وسرت)).
[24] أخرجه أحمد ░2358▒، وأبو داود ░1770▒.
[25] في الأصل (ط): ((منفردًا)) والمثبت من باقي النسخ، و قوله: ((كان)) ليس في (ل).
[26] زاد في (ل): ((وكيف كيفية)).
[27] زاد في (م): ((بين)).
[28] في (ج): ((تحل)).
[29] في (ج): ((وسمعه)).
[30] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((لبَّيك)).
[31] أخرجه أحمد ░12678▒.
[32] في (م): ((لمَّا)).
[33] في (ل): ((مفردة)).
[34] في (ج): ((فسمعه)).
[35] في (ل): ((بهذا)).
[36] في الأصل (ط): ((منفردًا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] قوله: ((الأحاديث)) ليس في الأصل (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[38] في (م): ((المحققين)).
[39] في (ج): ((عليه)).
[40] زاد في (ج) و(م): ((كان)).
[41] في (م): ((ذلك)).
[42] قوله: ((صلِّ)) ليس في (ل).
[43] في (م) و(ل): ((الشَّيء)).
[44] قوله: ((إنَّما هي)) ليس في (م).
[45] في (ط) و(ل): ((الثواب على ذلك وهو مصداقًا لقوله)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[46] في (ج): ((أتى)).
[47] زاد في (م): ((كان)).
[48] قوله: ((يؤمر)) سقط في (ل).
[49] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و(م).