بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لا ينفتل حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا

          17- (عَنْ عَبَّادٍ(1) بْنِ تَمِيمٍ، عَنْ عَمِّهِ: أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلعم الرَّجُلَ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ(2) أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ...) الحديث(3). [خ¦137]
          ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على أنَّه لا يَقطَعُ الصلاةَ مَن يُخَيَّلُ(4) له شيءٌ حتى يسمعَ صوتًا أو يجدَ رِيحًا، والكلامُ عليه(5) مِن وجوهٍ:
          الوجهُ(6) الأولُ: هذا (الشيء)(7) هلْ هوَ على العُمومِ أو شيءٌ مخصوصٌ اللَّفظُ بنفسِه(8)؟ مُحتَمِلٌ، لكنَّ القَرينةَ التي في آخرِ الحديثِ تُشعِرُ أنه(9) مَخصُوصٌ، وهي(10) قولُه: (حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا)، فدلَّ أنَّ (الشيءَ) هنا(11) مِنَ النوعِ الذي هَاتَانِ الصِّفتانِ(12) مِن وصفِه، وهو الريح بصوتٍ أو بغير صوتٍ.
          الثاني: يَرِدُ هنا سؤالٌ، وهو: هلْ هذا الحكمُ يختصُّ(13) بالرِّيحِ وحدَه، أو هو له ولغيرِهِ مِن الأحداثِ؟ فالظاهرُ تعدِّيه إلى غيرِهِ مِن الأحداثِ(14)، بدليلِ قولِ سعيدِ بنِ المُسيِّب: لو سَالَ عليَّ فَخِذِي ما انصرفْتُ حتى أَقْضِيَ صلاتي. فدلَّ ذلكَ(15) أنَّ الحكمَ: إذا كانَ العبدُ في الصلاةِ / ويَتخيَّلُ(16) له أيُّ(17) نوعٍ مِن أنواعِ الأحداثِ المنقضةِ(18) للطهارةِ أنه لا يَقطعُ صلاتَه إلا بيقينٍ.
          الوجهُ(19) الثالثُ: فيه مِن الفِقهِ أنَّ الشَّكَ لا يَقدحُ في اليقينِ إذا كانَ في الصلاةِ اتفاقًا؛ لنصِّ الشارعِ ◙ على ذلكَ وعَمَلِ الصحابيِّ(20) ☺، ويعضُدُ ذلكَ قولُه ╡ في كتابِه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، فمنعَ الشارع(21) ◙ بمُقتضَى الحديثِ التَّطَرُّقَ إلى فسادِ الأعمالِ بالشكِّ أو الظَّنِّ سدَّ ذريعةٍ وتعظيمًا لحالها.
          الوجهُ(22) الرابعُ: هنا إشارةٌ لطيفةٌ(23)؛ وذلك أنه لمَّا كانَ العبدُ قد توجَّهَ إلى الحَضْرةِ العَلِيَّةِ فلا يَلتَفِتُ إلى البشريَّةِ وعوارضِها، فإنه خللٌ في الحالِ، فإنْ جاءَهُ أمرٌ مُتحقِّقٌ فهو حُكمٌ ربَّانيٌّ وجَبَ الامتثالُ لهُ، ولذلكَ نَهى صلعم عن الصَّلاةِ مع مُدافَعَةِ الأَخْبَثَيْنِ، وبقيَ الكلامُ هل(24) خارجَ الصلاةِ يكونُ الشَّكُّ قادِحًا في اليقينِ أم لا؟ مثالُ ذلكَ أنْ يكونَ الرجلُ يتيَقَّنُ(25) بالطهارةِ وشكَّ في الحدثِ(26): اختلفَ العلماءُ في ذلكَ فذهبَ(27) مالكٌ ☼ ومَن تبعَهُ(28) مِن العلماءِ إلى أنه يَقدَحُ، ولا تُستَفتَحُ الصلاةُ إلا بطهارةٍ مُتَيقَّنةٍ لقولِه ╡ في كتابِه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5]، وقال غيرُه: لا يقدحُ الشكُّ في اليقينِ.
          الوجهُ(29) الخامسُ: في هذا مِن الفقهِ وجهانِ؛ أحدُهما: أن الخاطِرَ اليَسيرَ المُشَوِّشَ في الصلاةِ مَعفُوٌ عنهُ.
          الثاني: أَنَّ تَحَدُّثَ النفسِ في الصلاةِ بما(30) يُصلِحها جائزٌ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِه: (يُخيَّلُ إليهِ أنَّهُ يَجِدُ الشَّيءَ) فإنَّهُ إذا تُخُيِّلَ لهُ قِيلَ له: انظرْ ما(31) الذي أُمِرتَ به؟ وما الحكمُ / عليكَ فيهِ؟ وذلكَ حديثٌ مع النفسِ لأجلِ تَقريرِ الحُكمِ، وينبغي تعدِّيهِ إلى غيرِ ذلكَ مِن العَوارِضِ التي(32) تَعرُضُ للمُصلِّي أنْ يَنْظُرَ في حكمِ اللهِ عليهِ(33) ما هُوَ؟ حتى يَخْرُجَ على مُقتَضاهُ، ولذلكَ قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: صلاةٌ بسهوٍ خيرٌ مِن سبعينَ صلاةً بغير سهوٍ.
          قيل: وكيفَ؟! قالوا: لأنَّ الصلاةَ إذا كانَ(34) بغيرِ سَهوٍ(35) احتملتِ القَبولَ وغيرَه، وإذا كانت بالسهوِ وخرجَ على لسانِ(36) العلمِ فقدْ أرغمَ أنفَ الشيطانِ كما قالَ صلعم (37) : «فَتِلْكَ تَرْغِيمٌ للشَيْطَانِ(38)»، وما يُرغِمُ أنفَ الشَّيطانِ يُرجَى معهُ رضا الرحمنِ ففَضَلَتْ غيرَها بتلكَ الصفةِ.
          الوجهُ(39) السادسُ: في هذا إشارةٌ إلى فضلِ العلمِ الشرعيِّ؛ لأنه لا يُعلَمُ ذلكَ إلا بالعلمِ، وكذلكَ يَتعدَّى هذا الحكمُ في جميعِ الأحكامِ، وهو: أنَّه يُؤمَرُ أولًا بالإخلاصِ تقريرًا على لسانِ العلم في كلِّ الأشياءِ، فإنْ عَرَضهُ عارضٌ نظرَ فيهِ بلسانِ العلمِ(40) وعَمِلَ بما يُؤمَرُ بهِ، وذلكَ كلُّه عِبادةٌ.
          الوجهُ(41) السابعُ: فيهِ دليلٌ على الإشارةِ عن(42) الأشياءِ المُستَقذَراتِ ولا يُفصَح بها، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِه: (يَجِدُ الشَّيءَ) فكنَى عن الحدَثِ بـ(الشيءِ)(43).
          الوجهُ(44) الثامنُ: فيهِ دليلٌ على أنَّ ذِكْرَ المُستَقذَراتِ عندَ الضرورةِ لا شيءَ فيهِا(45)، يؤخذُ ذلكَ مِن قولِه: (حَتَّى يَسمَعَ صَوتًا أَو يَجِدَ رِيحًا)؛ لأنه عندَ ضرورةِ تَبيينِ الحُكمِ ذَكَرَ مُشافَهةً مَا كَنَى(46) عنه أوَّلًا.
          الوجهُ(47) التاسعُ: هنا سُؤالٌ، وهو: لِمَ قالَ: (الرَّجُل) ولم يذكرِ النِّساءَ؟ والجوابُ: أنه(48) لمَّا عَلِم أنَّ النِّساءَ شقائقُ الرجالِ أخبرَ(49) بالأعلى عن الأدنى؛ لأن الذَّكَرَ مِن طريقِ اللغةِ أعلى(50)، لأنهم إذا اجتمعَ مُذكَّرٌ ومُؤنَّثٌ غَلَّبوا المُذكَّرَ على المُؤنَّثِ(51).
          العاشرُ: قولُهُ: (لَا يَنْفَتلُ وَلَا(52) يَنْصَرِفُ)، / هل ذلكَ لمعنًى واحدٍ أو لمعنيَينِ(53)؟ الظاهرُ أنهُما لمَعنيَينِ(54)؛ لأنَّ الانْفتالَ(55) هوَ مَيلٌ ما عَنِ الموضعِ الذي هو فيهِ، والانْصِرافُ كِنايَةٌ عن الذهابِ بالكُليَّةِ، ففي العبارةِ بهذينِ(56) إشارةٌ إلى أن يَبقى على حالِه ولا يُخِلَّ منها بشيءٍ(57) كَثيرٍ ولا يَسيرٍ(58).
          الحادي عشرَ: فيه مِنَ الإشارةِ لأهلِ القلوبِ أن لا يَلتَفِتُوا إلى الشكوكِ(59) ولا إلى العَوارِضِ، لا(60) قليلًا ولا كثيرًا، ولذلكَ يقولونَ: إن المُلتَفِتَ عندهم هالكٌ.
          الثاني عشرَ: فيهِ أيضًا بِشارةٌ لهمْ بأنَّ دفعَ تلكَ العوارضِ لا يُخرجهم عن حالِهم الخاص، جعلنا الله ممَّن خصَّهُ(61) بالخيرِ واختصَّهُ بهِ، لا ربَّ سِواهُ.
          الثالثَ عشرَ: هنا سؤالٌ، وهو: لِمَ قالَ: (يَجِدُ رِيحًا) ولم يقلْ: (يَشَمَّ رِيحًا)، كما قالَ: (يَسمعُ(62) صَوتًا)؟ والجوابُ: أنَّ الحدثَ إذا كانَ بصوتٍ سُمِعَ(63) فلا يحتاج(64) زيادة صِفةٍ، لأن الصوتَ أعلى، وإن كانَ دونَ ذلكَ سُمِع، وإذا لم يكنْ له صوتٌ فإمَّا أن يَشَمَّ مِن حينه، ولذلك قال: (يَجِدَ رِيحًا) وإمَّا أن يَلتَمِس المَحَلَّ فيجدَ في العضوِ الذي يمسُّ به المَحلَّ رائحةً مِن صفةِ الحَدَثِ، فيقومُ ذلكَ مَقامَ(65) التَّحقيقِ(66) بالحدثِ، فأخبرَ هنا بأقلِّ ما يُستدَلُّ به مِن الشمِّ عليهِ.
          الرابعَ عشرَ: فيهِ مِنَ الفِقْهِ أنَّ مَسَّ الدُّبُر لا يَنقُضُ الطهارةَ خِلافًا للشافعي ☼، فلا يعتبرُ بتلكَ(67) الرِّيحِ حتى يكونَ معها(68) ما يُشَمُّ، فإنَّه(69) ما لا سمعَ(70) فيه فلا بدَّ مِن الشَّمِّ فإنَّه اليقينُ في هذا الموضعِ.


[1] في (ل): ((عبادة)).
[2] في (م): ((له)).
[3] زاد في (ج) و(ل) و(ف): ((فَقَالَ: لَا يَنْفَتِلْ أَوْ لَا يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا)) وليس في (ج) قوله: ((الحديث)).
[4] في (ل): ((تخيل))، وبعدها في (ج): ((إليه)).
[5] قوله: ((عليه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[6] قوله: ((الوجه)) ليس في (ف).
[7] قوله: ((الشيء)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (م): ((اللفظ في نفسه)).
[9] زاد في (ل) و(ف): ((شيء)).
[10] في (ف): ((وهو)).
[11] زاد في (م) و(ف): ((هو)).
[12] في (ط) و(ج) و(ل) و(ف): ((هاتين الصفتين))، وفي (م): ((هاتين الخصلتين)) ولعل الصواب هو المثبت المطابق للمطبوع، وقوله بعدها: ((من)) ليس في (م) و(ل).
[13] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((مختص)).
[14] قوله: ((فالظاهر تعديه إلى غيره من الأحداث)) ليس في (ط)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] زاد في (ج): ((على)).
[16] في (ج): ((ويخيل)).
[17] قوله: ((أي)) ليس في (م).
[18] في (ج) و(م): ((الناقضة)).
[19] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و(ل) و(ف).
[20] في (م): ((التابعي)).
[21] قوله: ((الشارع)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[22] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و(ل) و(ف).
[23] في (م): ((ضعيفة)).
[24] في (ج): ((على)).
[25] في (ج): ((متيقن))، وفي (م) و(ل): ((تيقن)).
[26] في (ج): ((الحديث)).
[27] في (ط): ((فمذهب)).
[28] في (ج): ((اتبعه)).
[29] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و(ل) و(ف).
[30] في (م) و(ل) و(ف): ((فيما)).
[31] في (م): ((ماذا)).
[32] في (م): ((الذي)).
[33] قوله: ((عليه)) ليس في (ج).
[34] في (ج) و(ل) و(ف): ((كانت)).
[35] قوله: ((قيل: وكيفَ؟! قالوا: لأنَّ الصلاةَ إذا كانَ بغيرِ سَهوٍ)) ليس في (م).
[36] زاد في (م): ((أهل)).
[37] في (ف): ((◙)).
[38] قوله: ((فتلك ترغيم الشيطان)) ليس في (ط) و (م) والمثبت من النسخ الأخرى. وفي(ف): ((فتلك الترغيم الشيطان)).
[39] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و(ل).
[40] قوله: ((في كلِّ الأشياءِ، فإنْ عَرَضهُ عارضٌ نظرَ فيهِ بلسانِ العلمِ)) ليس في (م) وزاد في(ف): ((به)).
[41] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و(ل) و(ف).
[42] قوله: ((على)) ليس في (م).
[43] في (ل): ((فكنى بالحدث عن الشيء)).
[44] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و(ل) و(ف).
[45] في (ج) و(م): ((فيه)).
[46] صورتها في (م) و(ف): ((كنا)).
[47] قوله: ((الوجه)) ليس في (م) و(ل) و(ف).
[48] قوله: ((أنه)) ليس في (ل) و(ف).
[49] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((اجتزأ)).
[50] صورتها في (م): ((أعلا)).
[51] قوله: ((على المؤنث)) ليس في (ف).
[52] في (ج) و(م): ((أو لا)).
[53] في (م): ((بمعنى واحد أو بمعنيين)).
[54] قوله: ((الظاهر أنهما لمعنيين)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى، وفي (م): ((بمعنيين)).
[55] في الأصل(ط): ((الانتقال)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[56] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((الوجهين)).
[57] زاد في (ج) و(ف): ((لا)).
[58] في (م): ((يسير ولا كثير)).
[59] في (ج): ((إلى أهل السلوك)).
[60] قوله: ((لا)) ليس في (م).
[61] في (ج): ((خصهم)).
[62] في (ج): ((سمع)).
[63] في (ل): ((يسمع)).
[64] زاد في (م) و(ف): ((إلى)).
[65] قوله: ((مقام)) ليس في (م).
[66] في (ج): ((التحقق)).
[67] في (ج) و(م): ((ذلك)).
[68] في (م): ((معه)).
[69] في (م) و(ف): ((فإن)).
[70] في (ج) و(م): ((صوت)).