بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من رأى من أميره شيئًا يكرهه فليصبر عليه

          285-قوله صلعم : (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ...) الحديث(1). [خ¦7054]
          ظاهر الحديث يدلُّ على حُكْمَين:
          أحدهما: الأمر لمن رأى مِن أميره ما يكرهه بالصَّبر على ذلك ولا ينكثُ في بيعته.
          والثاني: إخباره صلعم أنَّه مَن فارق(2) جماعة المسلمين قَدْرَ شِبر ماتَ على سنَّة الجاهليَّة. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: الشيء الذي يكرهه مِن أميره هل هو على العموم في أمور الدنيا والآخرة، أو هو(3) على الخصوص في أمور الدنيا، وَما يتعلَّق بالأمور النفسانية؟ وما صِفة هذه الجماعة، هل هم الذين تسمَّوا باسم الإسلام، كانوا على أيِّ حالة كانوا عليها، أو معناه الخصوص؟ وكيفية هذه المفارقة، وما معنى تحديدها بالشبر؟ وما هو معنى (مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)؟ هل يكون معناه على الكفر بالمحض(4)، أو على صِفة مِن صفات الجاهليَّةِ مع بقاء الإيمان؟
          أمَّا قولنا: الشيء الذي يكرهه مِن أميره، وأُمر بالصبر عليه، هل ذلك عَلى العموم أو على الخصوص؟ اللَّفظ محتمل، لكن يتخصَّص بالأحاديث المبيِّنة لهذا العموم بأَنَّه ممَّا يتعلَّق بالأمور الدنياوية(5) وَالأمور النَّفسانية، تحفظاً عَلى أمر الدِّين الذي هو طريق / الآخرة، فمنها قوله ◙ : ((اسمَعْ وأَطِعْ وإن ضُرِبَ الظَّهرُ وأُخِذَ المالُ وإن كانَ أسود ذا زَبيبتَين(6) مَنفوخَ الخَيْشوم)). وهذه كلُّها أمور نفسانيَّةٌ ودنيوية(7) أو كما قال.
          والحديث الآخر ذكر فيه أنَّهم قالوا: «أرأيت إن وُلِّي علينا أمراءُ فُسَّاقٌ(8) أَنقْتُلُهم»؟ قال صلعم : «لا؛ ما صَلَّوا، لا؛ ما صَلَّوا» أو كما قال ◙ ، فدلَّ بقوله ◙ : «لا؛ ما صَلُّوا» أنَّهم إذا لم يُصَلُّوا قُتِلوا، ولا سَمْعَ لهم وَلا طاعة.
          وكذلك(9) قال عمر ☺ على المنبر حين بيعته قال: «..مَا أطعتُ اللهَ ورَسُولَهُ، وإلَّا فلا سَمْعَ لي عليكم ولا طاعةَ» أو كما قال. فدلَّ بهذا أنَّ الأمور التي تكون فيها مخالفة في الدِّين لا يُطاع فيها أميرٌ ولا غيره، لأنَّه مَا جُعلت الإمارة أن ينقاد النَّاس لها إلَّا مِن أجل أنْ «لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصيةِ الخالقِ». وقد قال علماء الدِّين: إنَّه لا يجوز لشرطيٍّ أن يؤدِّب أحداً بقولِ أميره، حتَّى يعلم أنَّ ذلك حقٌّ عليه(10) بأمر الله واجب. والأحاديث في هذا النَّوع كثيرة، وفيما ذكرناه كفاية.
          وأمَّا قولنا: مَا صفةُ هذه الجماعة، هل على العموم حتَّى في الذين تسمَّوا باسم الإسلام، أو ذلك على الخصوص في المسلمين حقَّاً؟ البحث في هؤلاء والجواب عليهم كالجواب عَلى الأمير، وحديث حُذَيفة الَّذي بعد هذا يبيِّن هؤلاء الجماعة، ويشرح هذا(11) الموضع، حيث قال له(12) صلعم : / «فاعْتَزِل تلكَ الفِرَق كلَّها، ولو أنْ تَعضَّ بأصلِ شَجرةٍ حتَّى يُدْرِكَكَ الموتُ وأَنْتَ على ذلك»(13).
          وأمَّا قولنا: كيف صفة هذه المفارقة؟ فمعناها أن تسعى(14) في حلِّ تِلْكَ البيعة التي للأمير ولو بأدنى شيء، فعبَّر ◙ عنه بمقدار الشِّبر، لأنَّ الأخذ في حلِّ تلك البيعة فيه المخالفةُ لجماعةِ المسلمين المنعقدين(15) عليها، وهو مع ذلك أمر يَؤولُ إلى سفك الدماء بغير حقٍّ، وقد قال صلعم : «مَن شَاركَ في قَتْلِ مُسْلِمٍ، ولو بِشَطْرِ كلمةٍ، جاءَ يومَ القيامةِ مكتوبٌ على جَبْهتِهِ: آيسٌ مِن رحمةٍ الله» أو كما قال ◙ .
          وأمَّا قولنا: مَا معنى قوله ◙ : (فَمَاتَ، إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً)؟ هل ذلك كفر صراح، أو أنَّه مات عَلى صفة مِن صفات الجاهليَّةِ، وإيمانه باقٍ؟ اللَّفظ محتمل، وقد جاء ما يبيِّنه وهو قوله ◙ : «مَن فَارقَ الجماعةَ شِبراً فَقَد خَلَع(16) رِبْقَةَ الإسلامِ مِن عُنُقِهِ» أو كما قال ◙ . فشبَّهه ◙ بالمرتدِّ عن الإسلام(17)، وهذا أمر خَطِرٌ. اللَّهُمِّ عافنا مِن الخطر.


[1] في (ب): ((عن ابن عباس عن النبي صلعم قال: من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه فإنه من فارق الجماعة شبراً فمات إلا مات ميتة جاهلية)).
[2] في (م): ((وسلم من أنه فارق))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] في (ج): ((وهو)).
[4] في (ج) و(ب): ((المحض)).
[5] في (م): ((الدنيوية)) غير واضح. في (ج) و(ت): ((يتعلق بالدنياوية)).
[6] في (م): ((زبيبتان))، والمثبت من النسخ الأخرى. و في (ب): ((ذو زبيبتين)).
[7] في (ت) و(ب): ((ودنياوية)).
[8] في (ت): ((فسقاً)).
[9] في (ج) و(ب): ((ولذلك)).
[10] في (ب): ((حق الله عليه)).
[11] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((الذي بعد يبين الجماعة وهو شرح هذا)).
[12] قوله: ((له)) ليس في (ج).
[13] كذا في (م)، وزاد في باقي النسخ: ((أو كما قال ◙)).
[14] في (ت) و(ب): ((يسعى)).
[15] في (م): ((المعتقدين))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (ت): ((فارق)).
[17] قوله: ((فشبَّهه ◙ بالمرتدِّ عن الإسلام)) ليس في (ب).