بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: هو لك يا عبد الله فاصنع به ما شئت

          112-قوله: (كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلعم فِي سَفَرٍ، وكُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ...) الحديث. [خ¦2611]
          ظاهر الحديث(1) يدلُّ على جواز البيع في السَّفر، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: قول ابن عمر ☺: (كُنْتُ عَلَى بَكْرٍ صَعْبٍ) يَرِدُ عليه سؤال وهو / أن يقال: ما فائدة قوله: (صَعْب)؟(2) ولو اقتصر على ذكر البَكر(3) لكان كافيًا ولحصل(4) مِنه المقصود، وهم كانوا يختصرون مِن اللفظ الكثرة مع(5) إيصال الفائدة(6)؟
          والجواب عنه: أنَّه(7) إنَّما ذَكَر (الصَّعب)، لكي يبيِّن به حكمًا آخر، وهو أنَّ صعوبة البَكر كانت مِن بعض المؤثرات(8) لشراء النبي صلعم إيَّاه، فإنَّ بشرائه(9) إياه يُرجَى ذهاب تلك الصُّعوبة، وفوائدُ أُخر على ما يُقرَّر(10) بعدُ.
          فمن جملة فوائده ما قد(11) ذكرناه في أوَّل الحديث(12)، وهو جواز البيع في السَّفر.
          ومنها: أنَّ البيع ينعقد(13) باللفظ دون افتراق، يقع ردًَّا على مَن ذهب إلى ذلك.
          ومنها: جواز التَّصرف في المشترى قبل قبضه(14)، إذا كان عَرَضًا أو حيوانًا بخلاف الطعام المكيل.
          ومنها: جواز التَّصرف في السِّلعة قبل وقوع(15) الثَّمن.
          ومنها: جواز طلب السِّلعة للبيع، وإن كان صاحبها لم يعرضها للبيع.
          ومنها: أنَّه أدخل بذلك سرورًا على عمر(16) ☺، لأنَّ البركة تحصل له بالثَّمن الذي يأخذه(17) مِن النبي صلعم.
          ومنها: أنه أدخل بذلك السرور على عمر(18) ☺؛ مِن وجهين:
          أحدهما: لِمَا يرجَى مِن ذهاب صعوبة(19) الجمل لبركته بشراء(20) النَّبي صلعم إيَّاه.
          والأخرى: أنَّه وَهَبَه له.
          ومنها: أنَّه أدخل(21) بذلك السرور على عمر ☺؛ لأن المسرَّة للابن مسرةٌ للابن والأب.
          ومنها: ما يترتّب مِن النَّدب إلى أنَّ / السيِّد في قومه أو عشيرته مأمور أن ينظر في حال إخوانه فيلطف بالضعيف ويواسيه ويدخل السرور على إخوانه ابتداء كما فعل النَّبي صلعم في سفره هذا مع ابن عمر حين رآه على ذلك(22) الجمل بذلك الحال.
          ولهذا يقال الإخوان على ثلاثة أضرب(23):
          فالأول: أن تكون تنظر(24) أخاك بعين الفتوَّة فتفضله على نفسك كما قال تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]كما(25) فعل علي ☺ مع أبي بكر ╩ في السلام(26)؛ لأن عليًا رضي الله كان إذا لقي أبي بكْرٍ ☺ ابتدأه بالسلام، فلمَّا أن كان يومًا لقيه فلم يسلِّم عليه فابتدأه أبو بكر بالسلام وردَّ عليه(27) عليٌّ، فجاء أبو بكر إلى رسول الله صلعم فذكر له ذلك وإذا بِعَلِيٍّ قد جاء فقال له(28) النَّبي صلعم : «مَا مَنَعَكَ أَنْ تَبْتَدِئَ أَبَا بَكْرٍ اليومَ بالسَّلامِ(29)؟»، فقال: يا رسول الله إني رأيت البارحة قصرًا في الجنَّة فأعجبني، فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لمن بدأ صاحبه(30) بالسلام، فأردت أن أؤثر اليوم أبا بكر به على نفسي. وكما فعل الصحابة رضوان الله عليهم حين تثقلوا(31) بالجراح في قدح الماء، وقد تقدَّم وصف(32) ذلك في غير هذا الحديث.
          والثاني: أن(33) تنظر لأخيك مثل ما تنظر لنفسك؛ لقوله ╕: «لَا يَبْلُغُ أُحَدٌ حقيقةَ الإيمانِ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيْهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، وقوله ╕: «المؤمنُ / للمؤمنِ كالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضهُ(34) بَعْضًا».
          والثالث: أن(35) تنظر لأخيك مثل ما تنظر لعبدك(36) _أعني: في المطعمِ والملبس وقيامك(37) له_ بما يصلح حاله، وإن غفل هو عن(38) ذلك لا بعين الاحتقار(39) له والرفعة عليه(40)؛ لأنَّ العبد يلزمك إطعامه وكسوته وكل ضروراته، فإن لم(41) تقدر على ذلك لم يجز لك حبسه، أي(42): إمساكه، وأُمِرتَ ببيعه، وكذلك الأخ يلزمك منه هذا الأمر، فإن لم تقدر على ذلك مِن فاقةٍ أو غير ذلك فالعُذْر إذ ذاك تبديه له(43) حتَّى ينصرف بالتي(44) هي أحسن مِن غير تغيير يقع له منك، فالعذر للأخ عند العدم كالبيع للعبد عند العدم لتوفية حقوقه(45)، وهذا أقل المراتب، وما وراء ذلك لا يسوغ(46).
          وفي الحديث دليل على أنَّ المرء إذا تعرض له فعل مِن أفعال البِرِّ، فإنْ قدر عليه(47) أن يفعله، وهو يتضمن غيره مِن الأفعال الحسنة، كان أولى مما(48) يتضمن ذلك الفعل وحده، لأنَّ النَّبي صلعم لو أراد إزالة صعوبة الجمل(49) لا غير لضربَه بقضيبه كما فعلَ ◙ لبعير كان لبعض الصحابة كذلك فهرول بين يديه(50) وزال ما كان به، أو لركب البكر كما ركب فرسًا كان قَطوفًا لأبي طَلْحَة(51) ☺، فرجع الفرس عند ذلك بحرًا لا يُلحَق، ولكنه ◙ لمَّا أنْ أراد إزالة ما كان بالجمل وأمكن أن(52) يتوصَّل إلى أفعال / كثيرة مع تضمين(53) الأول فَعَلَ ذلك، ولم يقتصر على الفعل الواحد
          ومثل ذلك مَن(54) أراد أن يتصدَّق بصدقة، فالأولى له أن يتصدَّق على قريبه؛ لأنَّه يحصل له بذلك فِعْلان وهما: الصدقة، وصِلة الرَّحم إلى غير ذلك مِن هذه الوجوه.
          وبهذا المعنى فضَل أهلُ الصوفية(55) غيرَهم، لأنَّهم عملوا على قِدَم(56) الإحسان، فالأعمال في الظاهر واحدة ومنازلهم أعلى مِن منازل غيرهم، لأنَّ كلَّ محسن مؤمنٌ مسلمٌ وليس كلُّ مسلم مؤمنًا محسنًا(57)، وهم قد عملوا على ذلك حالًا وصححوه مقالًا، كما جاء في الحديث المأثور المشهور وهو حديث جبريلَ ◙ حين سأل النَّبيَّ صلعم عن الإسلام والإيمان، ثم قال له: ما الإحسان؟ فقال ╕: «أَنْ تَعْبدَ اللهَ كأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ».
          والله الموفق المستعان(58) بمَنِّه وفضله.


[1] في (م): ((الكلام)).
[2] قوله: ((يَرِد عليه سؤال وهو أن يقال: ما فائدة قوله: (صَعْب)؟)) ليس في (م).
[3] في (م): ((على بكر)).
[4] في (ل): ((ويحصل)).
[5] في (ج): ((أكثره من))، وفي (م): ((أكثره مع)).
[6] قوله: ((الفائدة)) ليس في (ج) والعبارة في (ل): ((من اللفظ أكثره مع اتصال الفائدة)).
[7] قوله: ((أنه)) ليس في (م).
[8] في (ج) و(م): ((المثيرات)).
[9] قوله: ((بشرائه)) ليس في (ج).
[10] في (ل): ((تقرر)).
[11] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[12] قوله: ((في أول الحديث)) ليس في (ج) و(م).
[13] في (ل): ((يقع)).
[14] قوله: ((قبل قبضه)) ليس في (م).
[15] في (ج) و (ل): ((دفع))، وفي (م): ((قبض)).
[16] في (ج) و (ل): ((ابن عمر)).
[17] في (ج) و(م) و (ل): ((يأخذ)).
[18] في (ج): ((ابن عمر)).
[19] قوله: ((صعوبة)) ليس في (م).
[20] في (ج) و(م): ((لبركة شراء)).
[21] قوله: ((بذلك السرور على عمر ☺ من وجهين أحدهما لما يرجَى من ذهاب صعوبة الجمل لبركته بشراء النَّبي صلعم إياه والأخرى أنه وَهَبَه له ومنها أنه أدخل)) ليس في (ل) وبعدها في (ل): ((السرور بذلك))، و قوله: ((بذلك)) ليس في (م).
[22] في (ل): ((حين أتاه بذلك)).
[23] زاد في (ل): ((وما وراء ذلك ممنوع)).
[24] في (ج): ((يكون ينظر)).
[25] في (ج) و(م) و (ل): ((وكما)).
[26] قوله: ((في السلام)) ليس في (م).
[27] قوله: ((عليه)) ليس في (ج).
[28] قوله: ((له)) ليس في (ل).
[29] في (ج): ((السلام)).
[30] في (م): ((فقال لمن يبتدأ أخاه))، و في (ص): ((يبتدأ صاحبه)).
[31] في (ل): ((ينقلوا)). وهي مهملة في (م).
[32] قوله: ((وصف)) ليس في (ج) و(م).
[33] في (م): ((والثاني أنك))، وفي (ل): ((الثاني أن)).
[34] قوله: ((بعضه)) ليس في (ل).
[35] في (م): ((أنك)).
[36] في (ج): ((لغيرك))، و قوله بعدها: ((أعني)) ليس في (ج)، وفي (م): ((يعني)).
[37] في (ج): ((وقيامه)).
[38] في (ج): ((عفى على)).
[39] في (ج): ((على الاحتقار))، و في (م): ((غفل عن ذلك بعين الاحتقار)).
[40] قوله: ((والرفعة عليه)) ليس في (ج).
[41] قوله: ((لم)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[42] قوله: ((حبسه أي)) ليس في (ج) و(م)، و قوله: ((أي إمساكه)) ليس في (ل).
[43] قوله: ((تبديه له)) ليس في (ج).
[44] قوله: ((بالتي)) ليس في (ج)، وفي (ل): ((يتصرف بالتي)).
[45] قوله: ((لتوفية حقوقه)) ليس في (ج) والعبارة في (ل): ((فالعذر للأخ عند العدم بتوفية حقوقه))، و في (م) بعدها: ((وهو)).
[46] قوله: ((وما وراء ذلك يسوغ)) ليس في (ط) و(م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[47] في (ج) و(م) و (ل): ((على)).
[48] في (ل): ((ممن)).
[49] زاد في (ل): ((الذي كان عليه ابن عمر)).
[50] في (ج): ((يده)).
[51] في (ج) و(م) و (ل): ((لطلحة)).
[52] في (ل): ((بالجمل وقدر على أن)).
[53] في (م) و (ل): ((تضمن)).
[54] في (م): ((إذا)).
[55] في (ل): ((الصوفة)).
[56] في (ج) و (ل): ((قدر)).
[57] في (م): ((محسناً مؤمناً)) وفي (ل): ((مؤمن محسن)).
[58] في (ج) و (م): ((والمستعان)) وقوله: ((والمستعان)) ليس في (ل).