بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إن أحق ما أخذتم عليه أجرًا كتاب الله

          97-وقال ابنُ عباس عن النبي صلعم: (أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا(1)...) الحديثُ. [خ¦5737]ظاهره يدلُّ على جواز أخذ الأجر على كتاب الله ╡ وهو أحلُّه(2)، والكلامُ عليهِ من وجوهٍ:
          منها: ما يعارِضُه مِنْ قَولِهِ صلعم في رجلٍ علَّمَ رجلًا شيئًا مِن القرآنِ ثمَّ أهدى لهُ قوسًا(3) يُقاتِلُ بهِ(4) بينَ يدي رسولِ اللهِ صلعم، فذكرَ ذلكَ المُهدَى لهُ(5) لرسولِ اللهِ صلعم، فقَالَ: «قِطْعَةٌ أَوْ قِطْعَتَانِ منْ نَارٍ»(6)، فظاهرُ هذا الحديثِ يوجبُ المنعَ.
          واختلفَ العلماءُ مِن أجلِ ذلكَ، فمنهم مَن قَالَ بالجوازِ مطلقًا مِن أجلِ الحديثِ الذي نحنُ بسبيلِه، ولعلَّه لم يبلغْهُ الحديثُ الذي أوردناهُ، ومنهم مَن منعَ على ظاهرِ الحديثِ الذي أوردناهُ(7)،ومنهمْ مَن جَمعَ بينَ الحديثينِ، وهو مذهبُ مالكٍ، فقَالَ: ما هوَ(8) عليكَ فرضٌ فلا يجوزُ عليهِ أخذُ الأجرةِ(9)، وما(10) ليسَ بفرضٍ فأخذُ الأجرةِ(11) عليهِ جائزٌ، مثالُ ذلكَ على مذهبِه: مَن جاءَ يطلبُ تعليمَ أمِّ القرآنِ، فلا يجوزُ أن يأخذَ منهُ / عليها أجرًا إذا كانَ بالغًا؛ لأنَّها عليهِ فرضٌ؛ لأنَّها مِن جملةِ فرائضِ صلاتهِ ولا(12) تُجزِئه إلا بها، وإنْ أرادَ تعلُّمَ غيرِها فلهُ أنْ يأخذَ منهُ عليها مِنَ الأجرِ ما شاءَ، وكذلكَ في سائرِ أمورِ الدينِ كلِّه ما يكونُ فرضًا في الوقتِ على الطالبِ لا يجوزُ للمطلوبِ له(13) أخذُ أجرٍ عليهِ، وإنْ لم يكنْ عليهِ فرضًا فهو بالخيارِ في ذلكَ.
          وقد يحتملُ الجمعُ بينَ الحديثين بوجهٍ آخرَ، وهو لا بأسَ بهِ إذا تأمَّلتَهُ، وهو أنَّه صلعم قدْ قَالَ: «مَنْ شَفَعَ لأَحدٍ(14) شَفَاعَةً فَأَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً مِنْ أَجْلِهَا(15) فَقَبِلَهَا، فَقَدْ أَتَى(16) بَابًا عَظِيمًا مِنَ(17) الرِّبَا»(18).
          وقد قَالَ ◙ لعمرَ ☺ حينَ أرادَ أن يشتريَ الفرسَ الذي كانَ حبسَهُ في سبيلِ اللهِ لمَّا رآهُ يُباعُ، فقَالَ له ◙ : «لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ،(19) العَائِدُ فِي صَدَقَتهِ كالكلبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» [خ¦3003]، فلمَّا كانَ هذا الذي أهدَى القوسَ(20) للذي علَّمَه كتابَ اللهِ ولم يأخذْ عليهِ أجرًا فهي هبةٌ وهي وسيلةٌ إلى اللهِ وهيَ(21) أكبرُ الوسائلِ، فلمَّا قبلَ عليها الهديةَ فكأنَّهُ رجوعٌ في معروفهِ لا خفاءَ بهذا، وقبولُ هديتِه على شفاعةٍ شفعَها له عند اللهِ؛ لأنَّهُ الذي قرَّبَه إلى مولاهُ بما علَّمَه مِن كتابِه، فمِن أجلِ هذا قَالَ له: «قِطْعَةٌ أَوْ قِطْعَتَانِ منْ نَارٍ»(22).
          ويجوزُ أولًا اشتراطُ الأُجرةِ؛ لأنَّ الأجرة عليه قد أجازها(23) متضمَّنُ الحديثِ الذي نحنُ بسبيلِه، فإذا احتملَ هذا الوجهَ فلا تعارضَ بينهما، والله أعلم.
          وفي جوازِ الأجرةِ(24) / على تعليمهِ فائدةٌ كُبرى في الدينِ لا يعلمها حقيقةً إلا ذلكَ السيِّدُ الذي أمرَ بها، أو مَن فتح اللهُ عليهِ في فهمِ بعضِها؛ لأنَّهُ بأخذِ الأجرةِ ينتشرُ(25) تعليمُه في الإسلامِ، ولو لم يكنْ يجوزُ ذلكَ لكانَ تَعليمُهُ نادرًا، حتى لا يوجد من يصبر(26) على تعبِ الأولادِ وما هُم عليهِ بلا أُجرةٍ وهوَ مُحتاجٌ إلى ضرورةِ البشرِ والدوامِ على ذلكَ، فانظرْ معَ أخذِ الأجرِ عليهِ وزيادَةِ ما لهم مِنَ الإحسانِ ما تجدُ من يوفي حقَّ التأديب إلا أهلَ التوفيقِ منهم، فقدْ أُبيحَ في الدينِ أشياءُ ممنوعةٌ مِن أصولٍ كثيرةٍ لوجهٍ ما مِنَ المنافعِ لا تبلغُ بعضَ هذهِ المنفعة مثلَ القِراضِ والمساقاةِ وبيع العاريةِ(27) بخرصِها للجذاذِ وما أشبهَ ذلكَ وهيَ مُستثناةٌ مِن أصولٍ ممنوعةٍ وهذهِ توسعةٌ مِنَ اللهِ ورحمةٌ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
          وفيهِ دليلٌ على كثرةِ نُصحِه صلعم لأمَّتِهِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن بيانِه ◙ هذا ومثلَه قبلَ أنْ يسألَ عنهُ، جزاهُ اللهُ عنَّا أفضلَ ما جزى نبيًّا عن أمَّتِه، ومِصداقٌ لقولِه تعالى(28): {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ(29) بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ } [التوبة:128]، أوزعَنا اللهُ شكرها مِن نعمةٍ وتمَّمَها علينا بفضلِه.


[1] في (ج): ((أجر كتاب الله)). وزاد في (ل): ((وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: لاَ يَشْتَرِطُ المُعَلِّمُ، إِلَّا أَنْ يُعْطَى شَيْئًا فَلْيَقْبَلْهُ. وَقَالَ الحَكَمُ: لَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا كَرِهَ أَجْرَ المُعَلِّمِ. وَأَعْطَى الحَسَنُ دَرَاهِمَ عَشَرَةً وَلَمْ يَرَ ابْنُ سِيرِينَ بِأَجْرِ القَسَّامِ بَأْسًا وَقَالَ: كَانَ يُقَالُ: السُّحْتُ: الرِّشْوَةُ فِي الحُكْمِ، وَكَانُوا يُعْطَوْنَ عَلَى الخَرْصِ)).
[2] في (ج): ((هو أجله)).
[3] في (م): ((فرسًا)).
[4] زاد في (م): ((في سبيل الله)).
[5] قوله: ((له)) ليس في (ل).
[6] أخرجه أحمد ░22689▒، وأبو داود ░3416▒، وابن ماجه ░2157▒ من حديث عبادة بن الصامت.
[7] في الأصل (ط): ((أردناه)) والمثبت من (م) و(ل)، وقوله: ((ومنهم من منع على... أوردناه)) ليس في (ج).
[8] قوله: ((هو)) ليس في (ل).
[9] في (م): ((فلا يجوز أخذ الأجرة عليه)).
[10] زاد في (م): ((هو)).
[11] قوله: ((وما ليس بفرض فأخذ الأجرة)) ليس في (ج).
[12] في (م): ((فلا)).
[13] في (ج) و(م): ((منه)).
[14] في (ط) و(ل) و(م): ((لأخيه))، والمثبت من (ج) ومصادر التخريج.
[15] في (ج) و(م): ((هدية عليها)).
[16] في (ط) و(ل): ((فتح على نفسه)) بدل: ((أتى)).
[17] زاد في (ج) و(م): ((أبواب)).
[18] أخرجه أحمد ░22251▒، وأبو داود ░3541▒ من حديث أبي أمامة.
[19] زاد في (م): ((فإنَّ)).
[20] في (م) و(ل): ((الفرس)).
[21] زاد في (ج) و(م): ((من)).
[22] تقدم تخريجه قريبًا.
[23] في (ج) و(م): ((اشتراط الأجر لأن الأجر عليه قد أجازه)).
[24] في (م): ((الأجر)).
[25] في (م): ((بأخذ الأجرة عليه ينشر)).
[26] في (ط) و(ل): ((كانَ لم يكنْ يوجَدُ مَن كانَ يكونُ يصبرُ)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[27] في (ج) و(م): ((العرية)).
[28] في (ج) و(م): ((وقد نصَّ ╡ على ذلك في كتابه حيث قال)).
[29] في (ج) و(ل): ((إلى قوله)) بدل قوله: ((عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ)).