بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: الخيل لثلاثة لرجل أجر ولرجل ستر وعلى رجل وزر

          138-قوله: (إنَّ رَسُولَ اللهِ صلعم قَالَ: الخَيْلُ لِثَلَاثَةٍ...) الحديث(1). [خ¦2860]
          ظاهر الحديث يدلُّ على اتِّحاد العمل(2) في الظاهر واختلافه بالنيَّة على تلك الوجوه الثلاثة، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأول: قوله صلعم : (الْخَيْلُ(3) لِثَلَاثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ / سِتْرٌ، وَعَلَى رَجُلٍ وِزْرٌ) فيه دليل على جواز التقسيم قبل التفسير و البيان؛ لأنَّه ◙ قسَّم الخيل على ثلاثة أجزاء ثم بعد ذلك فسَّر ما قسَّم(4).
          الثاني : قوله صلعم : (فَأَمَّا الَّذِي هي(5) لَهُ أَجْرٌ: فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ) هذا(6) الوجه هو أعلى ما تحبس الخيل إليه وهو المندوب.
          الثالث: قوله صلعم : (فَأَطَالَ فِي مَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ)، يعني: أنَّه(7) أطال في الشيء الذي ربطها به حتى تسرح في المرج وتجد سبيلًا في الاتساع للمرعى(8)، بخلاف أن لو كان الربط قصيرًا لم تكن لتسرح في المرعى.
          الرابع: قوله صلعم (9): (فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذَلِكَ مِنَ(10) الْمَرْجِ أَو الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ)، يريد بذلك: ما أكلت وما شربت وما مشت كان ذلك كله حسنات له يوم القيامة يجده موفورًا.
          الخامس: قوله صلعم : (ولَو(11) أنَّها قَطَعَت طِيَلَها فَاسْتَنَّتْ(12) شَرَفًا أَوْ شَرَفَينِ كَانتْ أَرْوَاثُها وَآثارُها حَسَناتٍ لَهُ)، معناه: أنَّها قطعت الشيء الذي رُبطت به وتعدَّت الموضع الذي تركها(13) صاحبها ترعى فيه ومضت إلى غيره، كلُّ ما تفعل(14) مِن هذا حتى الروث تروثه كان ذلك له حسنات.
          السادس: قوله صلعم : (وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ مِنْهُ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَسْقِيَهَا كَانَ ذَلِكَ حَسَنَاتٍ لَهُ(15)) فيه دليل على أنَّ مَن أوقف(16) شيئًا لله تعالى فكل ما احتوى عليه مِن المنافع فله أجره، قصده أو لم يقصده، عَلم به / أو لم يَعلم، كان له كارهًا أو راضيًا لأنَّه ╕ أخبر أنَّ صاحب الفرس لو لم يُرد أن يسقيها فشربت كان ذلك له(17) حسنات، ولا ذاك إلا للأصل المتقدِّم وهو كونه جعلها(18) في سبيل الله، فكذلك(19) كلُّ ما كان أصله لله كل ما تحتوي عليه مِن المنافع عَلِم به أولم يَعلم كان ذلك حسنات لصاحب الأصل فيه، ومثل ذلك الفرس إذا كانت النيَّة فيه لله وعملًا على الحديث الذي ورد في فضله، فكلُّ مَن أصاب مِن ذلك الفرس شيئًا مِن آدميٍّ أو طير أو وحش كان كل ذلك حسنات لصاحب الفرس، عَلِم به أو لم يعلم كان يكره ذلك أو يرضاه، إذ إن الأصل(20) أولًا كان لله، ثمَّ(21) بهذه النسبة سائر أفعال البر.
          السابع: قوله صلعم : (وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَسِتْرًا وَتَعَفُّفًا(22) وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي رِقَابِهَا) هذا الوجه مندوب إليه أيضًا لكن الوجه(23) المتقدِّم أعلى منه في الندب، لكن لا يكون ندبًا إلا إذا جمع(24) تلك الخصال الثلاثة المذكورة في الحديث وهي: التغني، والتعفُّف ولم ينسَ حقَّ الله في رقابها، ومعنى التغني: أنَّه قَنِع بكسبها عن غيرها مِن الأموال راضيًا بذلك مؤثرًا لها على غيرها وهو مِن قولهم: استغنيت بكذا عن، كذا أي: آثرته على غيره و رضيت به، ومعنى التعفُّف، أي: استعفَّ بالكسب عليها عن المسألة و عن ضرر الناس.
          ومعنى: (لَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي رِقَابِهَا) أي: في ذواتها، كما يقال: رقبة / العبد، أي: ذاته، والحقُّ هنا في رقابها قد أشار ◙ إليه حين سُئل عنها: هل أنزل عليك في الحمُر(25) شيء؟ فقال(26): «لا إِلَّا هَذِهِ الْآيَة(27) الفاذَّة: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة:7- 8]».
          والحق فيها على مقتضى الآية(28) على ضربين: واجب ومندوب.
          فالواجب هو أن لا يحمِّلها ما لا تُطيق ويوفى لها حقَّها في الأكل؛ لأنَّ الضرر ممنوع في الحيوان كله عاقلًا(29) كان أو غير عاقل، وكذلك في الأمور كلها لقوله ◙ : «لا ضَرَرَ و لا ضِرَارَ».
          والمندوب ما أشار إليه بعض العلماء مِن حمل متاع الكَلِّ وركوب المضطر إليها(30)، يؤيِّد(31) ما أشرنا إليه في هذا الوجه قوله ◙ : (وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ)(32) لمن حبسها لتلك الثلاثة الأوجه، ومعنى الستر: أن يكون متصلًا في الدارَيْن، فالستر في الدنيا هو أن تُغْنيه عن مسألة الناس، والستر في الآخرة هو أن تُنجيه مِن أهوال يوم القيامة(33)، وقد قال ◙ : «المؤمنُ تحتَ ظلِّ صدقتهِ».
          وهذا الكلام مبنيٌّ على أنَّ الواو في قوله ◙ (تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي رِقَابِهَا) للعطف، وأمَّا إن كانت الواو للتنويع فليس بشرط في الفعل أن يكون مندوبًا بجميع تلك الثلاث المذكورة، ولكن إن وُجد واحدٌ مِن الثلاثة(34) كان الفعل مندوبًا وكانت سترًا لصاحبها وهو الأظهر والله أعلم؛ لأنَّه ترك في كسبها النيَّة المذمومة وهو حبسها لزينة(35) وقد قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ} [آل عمران:14 / فإذا ترك المذموم كان له الأجر على تركه، فإذا أضاف إليه اعتقاد المندوب كان مِن باب أولى أن يُرجى له الستر(36).
          ولا يقتصر بهذا على الوجه المذكور لا غير، بل هو عامٌّ في كلِّ تكسبات(37) الدنيا إذا كانت بهذه النيَّة المذكورة؛ لأنَّ العلَّة التي بها الحكم منوط موجودة(38)؛ لأنَّ الحكم ليس هو معلَّقًا بالغير(39) وقد عدَّى(40) العلماء الحكم لِمَا(41) هو أقل مِن هذا وهو قوله ◙ : «لا يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان». فقالوا: كلُّ مُشوَّش لا يجوز له الحكم معه مِن حَقن أو جوع أو عطش أو غير ذلك(42) مِن التشويشات، فتعدية ما نحن بسبيله أولى لوجود العلَّة نفسها.
          الثامن: قوله ╕: (وَرَجُلٌ رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً وَنِوَاءً(43) لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ) أمَّا الفخر والرياء فمعلوم(44)، وأما النِّواء فهو مثل ما(45) يفعله الشطَّار(46) في قطع طريق(47) المسلمين بها، ومثل الظَّلَمة يتخذونها عونًا على ظلم المسلمين وما أشبه ذلك.
          ثمَّ الكلام على الواو هل هي للعطف أو للتنويع كالكلام في البحث المتقدم؟ لكن هنا بحث يختصُّ بالموضع وهو أنَّه إن كانت للعطف فتكون بمعنى(48) قوله: (وزر) أي: أثقل ظهره بكثرة الذنوب؛ لأنَّ هذه الثلاثة الأشياء كلها(49) ممنوعة، وحَمْلَ وزرِها يُثقل الظَّهرَ، وإن كانت الواو للتنويع فيكون الوزر بمعنى: الإثم لأنَّ كلَّ واحد(50) مِن هذه الثلاث محجور شرعًا، / وكل مَن أتى ما هو محجور شرعًا كان مأثومًا(51).
          ولا يقتصر بهذا أيضًا على الوجه لا غير، بل هو عامٌّ في كل ما أشبهه، والكلام على تعدِّيه لغيره كالكلام على تعدِّي الوجه(52) قبله، ثمَّ بقي(53) المباح في اتخاذها، وإنما سكت عنه ╕، لأنَّ شأنه أبدًا أن يُبيِّن(54) ما فيه مِن(55) الأحكام ويسكت(56) عما سواه وقد قال ◙ : «ما تركته لكم فهو عَفْوٌ»، والمباح فيها هو مَن اقتناها عَرِيَّة عن النيَّة المذمومة والمندوبة والله المستعان.


[1] في (م): ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أن رسول الله صلعم، قَالَ: الخَيْلُ لِثَلاَثَةٍ: لِرَجُلٍ أَجْرٌ، وَلِرَجُلٍ سِتْرٌ، ولرَجُلٍ وِزْرٌ، فَأَمَّا الَّذِي لَهُ أَجْرٌ فَرَجُلٌ رَبَطَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ، فَأَطَالَ لَهَا من المَرْجٍ أَوْ رَوْضَةٍ فَمَا أَصَابَتْ فِي طِيَلِهَا ذلك مِنَ المَرْجِ أَوِ الرَّوْضَةِ كَانَتْ لَهُ حَسَنَاتٍ، وَلَوْ أَنَّهَا قَطَعَتْ طِيَلَهَا فَاسْتَقتْ شَرَفًا أَوْ شَرَفَيْنِ، كَانَتْ آثارها وأَرْوَاثُهَا حَسَنَاتٍ لَهُ، وَلَوْ أَنَّهَا مَرَّتْ بِنَهَرٍ فَشَرِبَتْ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ تستقى به، كَانَ له ذَلِكَ حَسَنَاتٍ، وَرَجُلٌ رَبَطَهَا تَغَنِّيًا وَتَعَفُّفًا، وَلَمْ يَنْسَ حَقَّ اللهِ فِي رِقَابِهَا وَظُهُورِهَا فَهِيَ لَهُ سِتْرٌ، وَرَجُلاً رَبَطَهَا فَخْرًا وَرِيَاءً فَهِيَ على ذلك وِزْرٌ)).
[2] في (ج) و(م): ((اتخاذ هذا العمل))، و في (ل): ((اتخاذ العمل)).
[3] قوله: ((والكلام عليه...الخيل)) ليس في (ج).
[4] قوله: ((الخيل على ثلاثة...قسم)) ليس في (ج).
[5] قوله: ((هي)) ليس في (ج) و(م) و(ل).
[6] في (ج): ((بهذا)).
[7] في (ج): ((معنى يريد أنه))، في (م) : ((يعني يريد أنه))، و في (ل): ((يريد أنه)).
[8] في (ج) و(م): ((للرعي)).
[9] قوله: ((قوله صلعم)) ليس في (م).
[10] في (ل): ((في)).
[11] في (ط): ((لو)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] في (م): ((فاستقت)).
[13] في (ل): ((نزلها)).
[14] في (م): ((يفعل)).
[15] قوله: ((له)) ليس في (م).
[16] في (ج) و(م): ((عمل)).
[17] في (م): ((كان له ذلك)).
[18] في (ج) و(م): ((ربطها)).
[19] في (م): ((وكذلك)).
[20] في (م): ((إذا كان الأصل)).
[21] قوله: ((ثم)) ليس في (م).
[22] في (م) و(ل): ((ورجل ربطها تغنياً وتعففاً)).
[23] قوله: ((الوجه)) ليس في (ج).
[24] في (ل): ((أجمع)).
[25] في (م): ((الخمر)).
[26] في (م): ((قال)).
[27] في (ج) و(م) و(ل): ((إلا الآية)).
[28] في (ل): ((الآي)).
[29] في (ج): ((عاقل)).
[30] في (ل): ((إليه)).
[31] في (ج): ((يريد)).
[32] في الأصل(ط) و(ل): ((إنها ستر)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[33] في (ج) و(م): ((من عذاب النار)).
[34] في (ل): ((الثلاث)).
[35] في (ل): ((وهو حبسها جميعاً لزينة)).
[36] قوله: ((وهذا الكلام مبني.... يرجى له الستر)) ليس في (ج) و(م).
[37] في (م): ((مكتسبات)).
[38] في (ل): ((موجود)).
[39] في (ج) و(م): ((بالعين)).
[40] في (ل): ((عدوا)).
[41] في (ج): ((بما)).
[42] في (ل): ((أو غيره)).
[43] قوله: ((نواء)) غير واضحة في الأصل (ط) و(ج) والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] في (ج) و(م): ((فمعلومان)).
[45] في (م): ((وأما النواء فمثل ما)).
[46] في (ج) و(م): ((الشيطان)).
[47] في (ج) و(م): ((طرق)).
[48] في (ل): ((فيكون معنى قوله)).
[49] قوله: ((كلها)) ليس في (ل).
[50] في (ل): ((واحدة)).
[51] قوله: ((ثم الكلام على.... كان مأثوماً)) ليس في (ج) و(م).
[52] زاد في (ل): ((الذي))، في (ج): ((تعديه للوجه)).
[53] زاد في (ج) و(م) و(ل): ((القسم)).
[54] في (ج): ((شأنه إذاً تبيين))، و في (م): ((شأنه أن يبين)).
[55] قوله: ((من)) ليس في (ج) و(م) و(ل).
[56] في (ج) و(م): ((وسكت)).