بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لولا أنت ما اهتدينا

          133-قوله(1): رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلعم يَوْمَ الْأَحْزَابِ يَنْقُلُ التُّرَابَ، وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ وَهُوَ يَقُولُ: «والله لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا، إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا(2)...» الحديث. [خ¦2837]
          ظاهر الحديث يدلُّ على التحصُّن مِن العدو، والحذر(3) منه وأخذ الأُهبة لقتاله، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأول: فيه دليل على أنَّ الإمام ينزل للخدمة مع أصحابه، إذا(4) كانوا في أمور الحرب(5) وإعانتهم فيما يكونوا(6) بسبيله؛ لأن النبي صلعم نزل للخدمة مع أصحابه وأعانهم فيما كانوا بسبيله(7).
          الثاني: فيه دليل على تواضع النَّبي صلعم وحُسنِ خُلُقه، إذ إنَّه في الفضل حيث(8) هو، ومع ذلك الفضل العظيم كان ينقل التراب مع أصحابه / كأنَّه واحدٌ منهم.
          الثالث: قوله: (وَقَدْ وَارَى التُّرَابُ بَيَاضَ بَطْنِهِ) فيه دليل على أنَّ البطن ليس بعورة، لأنَّه لو كان(9) عورة لَمَا ظهرت مِن النَّبي صلعم للغير.
          الرابع: فيه دليل على أنَّ(10) التشمير حين الخدمة سُنَّة؛ لأنَّه لولا أن النَّبي صلعم كان متشمِّرًا(11) لذلك لَمَا ظهر بطنه.
          الخامس: قوله ╕: (لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا) فيه دليل على أن الرَّجز في الدعاء جائز إذا كان غير مقصود؛ لأنَّ النَّبي صلعم دعا به ولم يقصِده.
          وفيه دليل على أنَّ أفعال الخير تُنسَب إلى الله تعالى، وإن كان العبد هو المتسبِّب فيها(12)؛ لأنَّ المولى جلَّ جلاله هو المنعِم بها، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (لَوْلَا أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا تَصَدَّقْنَا وَلَا صَلَّيْنَا).
          السادس: فيه دليل على الاجتهاد في امتثال الحكمة والتوحيد المحضِّ بعدَ امتثالها بردِّ الأمر إلى الله تعالى بعد إبلاغ الجهد في العمل؛ لأنَّه ◙ أبلغَ في العمل واجتهد فيه فحفر وحمل التراب وأمر أصحابه رضوان الله عليهم بذلك مع أنَّه ◙ يعلم أنَّه منصور مؤيَّد لكنَّه امتثل للحكمة(13) وأبلغ فيها ثمَّ بعد ذلك ردَّ الأمر إلى الله تعالى وأقرَّ أنَّ ذلك ليس بيده وهو التوحيد المحضُّ.
          وعلى هذا الأسلوب كانت أفعاله ◙ ، يدخل أولًا في الفعل امتثالًا للحكمة، ويستعين بالله عليه(14) ثمَّ بعد الفراغ يتبرأ منه ويردُّ كل ذلك(15) إلى الله تعالى كمثل(16) خروجه ◙ إلى الحج
          (17) والغزو واستعانته(18) عند / الخروج وتوبته عند الرجوع، قد أبدينا(19) معنى ذلك في غير ما حديث.
          السابع: قوله ╕: (فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً(20) عَلَيْنَا وَثَبِّت الْأَقْدَامَ إِنْ لَاقَيْنَا) يَرِد عليه سؤال وهو أن يقال: السكينة معناها: التثبيت(21) عند نزول الأمر، (وثبت الأقدام): معناه ذلك، فلِمَ طلبهما معًا وهما لمعنى واحد؟
          والجواب: أنَّ السكينةَ ليست كالتثبُّت في المعنى؛ لأنَّ السكينة تُحتاج عند نزول الحوادث فيتوقَّف عند نزولها ويدبَّرُ في الواقع وما مقتضى الحكمة فيه بالعقل ولسان العلم، وتثبيت(22) الأقدام إنما يحتاج عند(23) القتال والمقابلة فطلب ◙ السكينة فيما دون الحرب للمعنى الذي ذكرناه، وطلب تثبيت(24) الأقدام حين المقابلة إذ هو المقصود في الحرب.
          الثامن: قوله ◙ : (إِنَّ الْأُلَى قَدْ بَغَوْا(25) عَلَيْنَا) (الأُلَى) بمعنى(26): أولئك لكن بينهما فَرْق وهو أنَّ أولئك تُستعمل(27) للبعيد، و(الأُلى) تستعمل(28) للقريب، فذكر ما هو مستعمل للقريب لكون أنَّ العدو كان قريبًا مِن المدينة القرب الكُلِّي حتَّى كأنَّه حاضر معهم. و(بَغَوا) بمعنى: طغوا، أي: أنَّهم طَغَوا(29) حتَّى أتوا(30) لقتالنا.
          التاسع: قوله(31) ╕: (إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا(32)) يريد: ثمَّ مع طغيانهم وكثرتهم وطلبهم المقاتلة(33) إذا أرادوا الفتنة في الدين لم نتركهم(34) ونأخذ في قتالهم.
          وفيه دليل على أنَّ الإنسان يسمِّي(35) حاجته(36) عند الدعاء؛ لأنَّه ◙ ذكر ما أراد / وعيَّنه(37).
          فإن قال قائل: كيف يحتاج إلى التعيين والله ╡ أعلم بذلك مِن صاحبه؟
          قيل له(38): تسمية الحاجة وتعيينها هي السُّنَّة ومقتضى الحكمة، ومنه(39) قوله تعالى: {وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:142]، وهو(40) ╡ العالِم بكلِّ الأمور على ما هي عليه قبل كونها وعند كونها على حدٍّ واحد، لكن العلم هنا وفي كل موضع أتى على ما هو(41) العلم الذي يقع عليه(42) الجزاء بمقتضى الحكمة في التكليف والنقل والشهادة.
          وفي الحديث إشارة معنوية وهو أنَّه إذا كان هذا(43) القدر من التحصُّن في الجهاد الأصغر على ما سمَّاه ◙ (44) حيث قال(45): «هَبَطْتُمْ مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ وَهُوَ جِهَادُ النَّفْسِ» فمِن باب أولى التحصُّن في الجهاد الأكبر.
          وطريقه(46) كما قال أهل التحقيق: أن تجعل(47) بينك وبين الشهوات خندقًا وسورًا، فإنَّ ترك الشهوات: قرعُ الباب وخلعُ العِذار(48) في التنافس في القرب، وتصحيح الحال بحقيقة الافتقار، وترك الحظوظ فإنَّ ترك الحظوظ، رفع الحجب(49) وإشغال القلب بالتعلُّق بالوحدانية، حتَّى يغطِّي تراب القرب بطن الافتخار(50)، ويعلنَ لسان حال السرِّ بالنطق بالإخلاص فيتسابقان في تناهي أحوالهما، كلٌّ منهما بمقتضى موضوعه، فهذا قد خلع العِذار حتَّى أبدى ما كان أخفى، وهذا بَذَل(51) المجهود حتَّى وارى الترابُ ما كان الثوبُ قد وارى(52)، فهناك / كَمُل الحال وعزَّ المقال، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء.


[1] في (م): ((عن البراء قال)).
[2] قوله: ((وَهُوَ يَقُولُ: والله لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا، فَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا، وَثَبِّتِ الأَقْدَامَ إِنْ لاَقَيْنَا، إِنَّ الأُلَى قَدْ بَغَوْا عَلَيْنَا إِذَا أَرَادُوا فِتْنَةً أَبَيْنَا)) زيادة من (م) على النسخ.، و قوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[3] في (م): ((والتحذر)).
[4] في (ل): ((إن)).
[5] في (ج): ((على التحصن إذا كانوا في أمور وأعالهم الحرب من العدو، والحذر منه، وأخذ الأهبة لقتاله، والكلام عليه من وجوه. الأول منها: فيه دليل على أن الإمام ينزل للخدمة مع أصحابه وإعانتهم)).
[6] في (ج) و(م): ((يكونون)).
[7] قوله: ((لأن النبي صلعم نزل للخدمة مع أصحابه وأعانهم فيما كانوا بسبيله)) ليس في (ل).
[8] في (ط): ((حديث)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] في (م): ((كانت)).
[10] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[11] في (م) و (ل): ((مشمراً)).
[12] قوله: ((فيها)) ليس في (ل).
[13] في (ج) و(م): ((الحكمة)) وفي (ل): ((لكن امتثل الحكمة)).
[14] قوله: ((عليه)) ليس في (م).
[15] قوله: ((ذلك)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى، وفي (ل): ((ويرد كلا إلى)).
[16] في (ج) و(م): ((مثل)).
[17] قوله: ((إلى الحج)) ليس في (ج).
[18] في (ج) يحتمل: ((وامتناعته)).
[19] في (ج) و(م): ((وقد أيدنا)) وفي (ل): ((وقد أبدينا)).
[20] في (ل): ((فأنزل السكينة)).
[21] في (ج) و(م): ((التثبت))، وفي (ل): ((الثبت)).
[22] في (ل): ((وثبت)).
[23] في (ج) و(م) و (ل): ((وثبت الأقدام إنما يحتاج حين)).
[24] في (ج) و(م) و (ل): ((ثبت)).
[25] في (ج): ((بغى)).
[26] في (م): ((معناه)).
[27] في (ل): ((يستعمل)).
[28] في (م): ((يستعمل)).
[29] قوله: ((أي أنهم طغوا)) ليس في (م).
[30] في (ط) و (ل): ((يأتوا)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[31] في (ط): ((لقتالنا. وقوله)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] في (ل): ((أتينا)).
[33] في (م): ((القتال)).
[34] في (ل): ((لم ينزلهم)).
[35] في (ج): ((يتمنى)).
[36] في (م): ((حاجة)).
[37] في (م): ((ما أرادوا عينه)).
[38] في (م): ((أن)).
[39] في (ج): ((ومنها)).
[40] في (ل): ((هو)).
[41] في (ج) و(م): ((إما على نحو العلم))، وفي (ج): ((إما على ما هو)).
[42] في (ل): ((فيه)).
[43] قوله: ((هذا)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] في (م): ((النبي صلعم)).
[45] قوله: ((قال)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[46] في (م): ((وطريقته)).
[47] قوله: ((تجعل)) ليس في (ج).
[48] في (م): ((العذر)).
[49] في (ل): ((الحجوب))، وبعدها في (م): ((واشتغال)).
[50] في (ل): ((ثواب القرب بظن الافتقار)) وفي (المطبوع): ((تراب القرب بطن الافتقار)).
[51] في (ج): ((أبذل)).
[52] في (ل): ((دارا)).