بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يا عباس ألا تعجب من حب مغيث بريرة

          208- قوله: (إنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ / يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبيُّ(1) صلعم : يَا عَبَّاسُ، أَلَا(2) تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ...) الحديث. [خ¦5283]
          ظاهر الحديث يدلُّ على إعذاره صلعم لذوي الابتلاءات وشفاعته لهم. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: جواز شفاعة الحاكم لمن تحت إيالته، والمشفوع عنده بالخيار في قبول الشفاعة وردِّها لعذر يكون به بخلاف الحكم، فإنَّه ليس له فيه اختيارٌ على أيِّ حال كان، يؤخذ ذلك مِن قولها: (أتَأْمُرُنِي؟) فقال لها صلعم : (إنَّما أَشْفَعُ) فلم تقبل الشفاعة لِمَا كان بها مِن عذر شِدَّةِ بغضها له ولعلمها بشفقة النَّبي صلعم على الجميع على حدٍّ سواء.
          وفيه إشارة إلى أنَّ الشِّفيع(3) بنفس الشفاعة يحصل له الأجر، وليس مِن شرط ذلك(4) قضاء الحاجة، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (إنَّما أَشْفَعُ) فقوَّة الكلام تعطي أنَّه ما كان قصده(5) ╕ إلا نفس الشفاعة لا غير، وقد بيِّن ذلك الكتاب والسُّنَّة الواضحة بالتصريح:
          أمَّا الكتاب فقوله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا} [النساء:85] ولم يشترط فيها قبول الشفاعة.
          وأمَّا السنَّة فقوله صلعم : «اشفعوا تُؤجَروا، ويخلق الله على لسان نبيِّه ما شاء».
          وفيه أيضًا دليل على أنْ يشفع الفاضل عند المفضول، يؤخذ ذلك مِن أنَّ سيِّدنا صلعم هو الفاضل / بلا خلاف(6)، وقد شفع ╕ عند أمَةٍ مُعتَقَة.
          وفيه دليل على أنَّ مِن حُسن الصحبة تنبيهَ صاحبك على أنْ يعتبر في آيات الله تعالى وأحكامه ليحصل له مِن قوَّة الإيمان ما حصل لك، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (يَا عَبَّاسُ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟).
          وفيه دليل على أنَّ نظره صلعم كله كان بحضورٍ وفكرة، يؤخذ ذلك مِن تنبيهه ╕ للعبَّاس(7) على ما كان مِن(8) بريرة ومغيث.
          وفيه دليل على أنَّ ما خالف العادة(9) مِن أي الوجوه كان فإنَّها آية ينبغي التعجُّب منها والاعتبار فيها، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا كان العُرف بين النَّاس أنَّ مَن أحبَّ شخصًا وأكثر مِن خدمته فإنَّ نفسه تميل إليه، وقد يكون مِن أجل ذلك الحبِّ له، وقد قال صلعم : «جُبِلت القلوب على حبِّ مَن أحسَنَ إليها»، والإحسان عام مِن وجوه فقد يكون بالمحسوس مِن حطام الدنيا، وقد يكون بالتخدُّم أو حسن الكلام أو ما يكون به إدخال السرور(10) على النفس، فإنَّها بذلك تميل إلى فاعله، وقد تميل بمجرد المدح لها، فلمَّا كان حبُّ مغيث بريرة وتخدُّمه لها وبكاؤه عليها ومَشيُه(11) خلفها وذلك كله ممَّا تستمال(12) به النفوس لا يزيدها فيه ذلك(13) إلا بغضًا، كان موضعًا للتعجُّب(14) والاعتبار في قدرة الله تعالى التي تفعل ما شاءت كيف شاءت(15).
          ولذلك قال بعض / أهل التوفيق: (إذا كانت حسناتي سيئاتي فبماذا أتقرَّب؟)، ومِن هنا(16) اعتبر أهل التوفيق وخافوا مع ما هُم عليه مِن حسن الحال خوفًا مِن(17) أنْ يقال لهم: (لا أقبل منكم شيئًا)، أعاذنا الله مِن ذلك بمنِّه وكِرمه(18).
          وفيه دليل على حسن أدب جميعهم أحرارًا وعبيدًا، يؤخذ ذلك من حسن جوابها في مراجعته ╕ بأن أبدت عذرها بقولها: (فلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ) ولم تفصح برد الشفاعة بعد أنْ سألت: هل ذلك أمرٌ أم لا؟
          ويترتب عليه أنَّ(19) مِن حسن الأدب التماس العذر إلى أهل الفضل ولا تردَّ لهم شفاعة مواجهةً بل يكون(20) بدل ذلك تبيين(21) العذر المانع لقبول شفاعتهم.
          وفيه دليل على أنَّ كثرة الحبِّ تَذهَب(22) بالحياء مِن الغير، ولا يرى إلا ما هو فيه، يؤخذ ذلك مِن حال مغيث كونه يمشي خلف بريرة ودموعه تسيل ولا يخفى ذلك على مَن(23) هناك، ولا ممَّن ينظر إليه لِمَا غلب(24) على قلبه مِن كثرة حبها، وبهذه الطريقة أعني كثرة(25) الحبِّ بالشيء(26) تميَّز أهل الدنيا والآخرة، فلمَّا أنْ(27) كان أهل الدنيا قد غلب على قلوبهم حبُّها لم ينفعهم ما تليت عليهم مِن الآيات والمواعظ، ولا ما(28) جاءهم مِن البلايا فيها، كل ذلك قد تَعامَوْا عنه ولم يروا سوء ما هم بسبيلِه، أعاذنا الله مِن ذلك بمنِّه.
          ولَمَّا أنْ كان أهل الآخرة قد حصل لهم مِن المعرفة بها وحبِّهم لمولاهم ما حصل لم يروا مِن الدنيا شيئًا، وإن كانوا فيها ومع أهلها.
          ومما(29) / يذكر عن بعض سادات(30) أهل السلوك أنَّه كان مارًّا مع أصحابه على بعض الجبَّانات ونسوة ينُحنَ على ميِّتهنَّ، فترك أصحابه ودخل معهنَّ فتعجَّب أصحابه وتركوه(31) وانحرفوا عنه حتى راحت النسوة وبقي هو في حاله في ذلك الموضع، فأتاه(32) أصحابه وجعلوا يعتبوا(33) على ما وقع منه، فقال لهم: ما رأيت ممَّا تقولون شيئًا؟ وإنَّما رأيت قومًا يبكون على ذنوبهم فدخلت أبكي معهم على ذنوبي وخلفوني وراحوا(34)، فتعجَّب القوم مِن(35) غلبة حال الخوف عليه حتى لم يبقَ له ميز(36) إلا ما كان فيه.
          ولذلك يروى عن رابعة العدوية في قولها فيما غلب عليها مِن حبِّ مولاها:
أُحِبُّـك حبَّيْـنِ حـبَّ الهـوى                      وحبَّـًا(37) لأنَّـكَ أهـلٌ لـذاكا
فـأمَّا الـذي هو حـبُّ الهـوى                      فشُغْلـي بِذِكْرِكَ عمَّن(38) سواكـا
وأمَّا الـذي أنـتَ أهـلٌ لـه                      فكَشْفُكَ لي الحُجْبَ حتى أراكـا
          وقد قال صلعم : «حبُّكَ الشيء يعمي ويصم» لكن شتَّان ما بين الحبَّين، وقد قال بعض أهل التوفيق في الترجيح بين الأشياء المحبوبات(39): مَن سره أنْ يرى ما لا يسوءه(40) فلا يتَّخِذْ شيئًا يخاف له فقدًا، فكلُّ ما سوى مولاه مفقود(41) وهو سبحانه الواحد الموجود في كل(42) حالٍ، جعلنا الله مِن أهل محبَّتهِ في الدارين بفضله ومنِّه وكرمه(43).


[1] في (ج) و (م): ((رسول الله)).
[2] في (ج): ((لا)).
[3] في (ج) و (م): ((الشافع)).
[4] قوله: ((ذلك)) ليس في (ج).
[5] في (ج) و (م): ((قصد)).
[6] قوله: ((بلا خلاف)) ليس في (ج) و (م).
[7] في (ج): ((العباس)).
[8] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[9] في (ج): ((العبادة)).
[10] في (ج) و (م): ((سرور ما)).
[11] في (ج) صورتها: ((مشير)).
[12] قوله: ((تستمال)) في (م) ليست واضحة.
[13] في (ج) و (م): ((لا يزيد فيه بذلك)).
[14] في (ج): ((للعجب)).
[15] قوله: ((التي تفعل ما شاءت كيف شاءت)) ليس في (ج) و (م).
[16] في (ج) و (م): ((ومن هاهنا)).
[17] قوله: ((خوفا من)) ليس في (ج) و (م).
[18] قوله: ((وكرمه)) ليس في (ج)، وفي (م): ((بمنه ويمنه وكرمه)).
[19] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[20] قوله: ((يكون)) ليس في (ج).
[21] في (ج): ((بتبين)) وفي (م): ((بل يكون ذلك تبيين)).
[22] في (ج) و (م): ((يذهب)).
[23] في (ج) و (م): ((ذلك ممن)).
[24] قوله: ((غلب)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[25] في (ج): ((كثر)).
[26] في (ج) و (م): ((للشيء)).
[27] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[28] في (ج): ((والمواعظ وما)).
[29] في (ج): ((وما)).
[30] في (ج): ((سادة)).
[31] في (ج): ((وشركوه)).
[32] في (ط): ((فأتوه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[33] في (ط) و(م): ((يعتبونه)) والمثبت من (ج).
[34] في (ج): ((راحوا)).
[35] في (ج): ((القوم فمن)).
[36] في (ج): ((ميزة)).
[37] في (ج): ((وحب)).
[38] في (ج): ((فشغلي بك عن ما)) وفي (م): ((فشغلي بك عمَّن)).
[39] في (ط): ((الموجبات)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[40] في (ج): ((من سره أن لا يرى ما يسوء)) وفي (م): ((من سره أن لا يرى من يسوءه)).
[41] في (ج): ((مقصود)).
[42] في (ج) صورتها: ((حل)).
[43] قوله: ((ومنه وكرمه)) ليس في (ج) و (م).