بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة

          199- قوله: (بَعَثَ النَّبي صلعم سَرِيَّةً، فَاسْتَعْمَلَ عليها رَجُلًا(1) مِنَ الأَنْصَارِ...) الحديث. [خ¦4340]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ لا طاعة للآمر على مَن أُمِّرَ عليه إلَّا فيما فيه طاعةٌ، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ مِن السنَّة أنْ لا تخرج سريَّة حتَّى يكون عليها أمير(2)، يؤخذ ذلك مِن قوله: (واسْتَعْمَلَ رَجُلًا مِنَ الأَنْصَارِ، وَأَمَرَهُمْ(3) أَنْ يُطِيعُوهُ).
          وفيه دليلٌ: على أنَّه لا تتمُّ الإِمْرَةُ(4) لمن أَمَّره الإمام حتَّى يفصح لمن أمرَّه عليهم بالطَّاعة له، يؤخذ ذلك مِن قوله: (وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ).
          وفيه دليلٌ: على جواز الكلام للأمير(5) والأمير(6) في حال الغضب، لكن لا يُنَفِّذُ منه(7) المأمور به إلَّا ما وافق لسان العلم، ويردُّ ما عدا ذلك، يؤخذ ذلك مِن أنَّ أمير هذه السَّريَّة تكلَّم في حين غضبه بأشياء، فبلغ جميع ذلك للنَّبيِّ صلعم فمنع منها ما خالف لسان العلم وسكت عن(8) الباقي، وسكوته ╕ دالٌّ على جوازه، فإنَّ كلام الأمير(9) ذكر فيه ما هو حقٌّ وهو قوله: (أَلَيْسَ أَمَرَكُمُ النَّبي صلعم (10) / أَنْ تُطِيعُونِي؟) وهذا قولٌ حقٌّ فما ضرَّه الغضب، ثمَّ أمر بشيءٍ مِن قبيل الجائز، وهو جمع الحطب ووقد النَّار، والجائز لا يؤثر فيه الغضب، لأنَّه باقٍ على حاله مِن الجواز، ثمَّ أمرهم بدخول النَّار وهو ممنوع شرعًا، فهذا هو الذي منع النَّبي صلعم مِن جميع قوله وهو ممنوعٌ في كلِّ حال.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ الغضب يغطِّي على ذوي(11) الأحلام الحقَّ في بعض الأمور، لأنَّ هذا الأمير(12) الذي أمَّره النَّبي صلعم على السَّريَّة لم يؤمِّره حتَّى كان فيه دينٌ زائدٌ وفضلٌ، ولولا ما لحقه مِن الغضب ما لحقَه ما أمر جمعًا مِن المسلمين أنْ يحرقوا أنفسهم.
          ولذلك قال صلعم : «إذا(13) غضبتَ فاسكت»، لأنَّ كلَّ متكلِّم في حال الغضب، وإن قال حقَّا فلا بدَّ له مِن شيءٍ ما(14) يقع فيه، وقد جاء مِن طريق آخر أنَّ الغضب مِن الشَّيطان، فمَن أصابه فليتوضأ فإنَّه يذهب عنه.
          وقد روي مثل هذا عن معاوية ☺ حين قال له بعض النَّاس(15) وهو على المنبر: أعطِ النَّاس عطاياهم، فإنَّ المال ليس مِن كسبك ولا مِن كسب أبيك ولا مِن غزْل(16) أمك، فقال: على رِسْلِكم، فنزل ودخل منزله، فخرج(17) وعليه أثر الماء، فقال(18): أمَّا بعد فإنَّه لَمَّا قال الرَّجل مقالته أغضبني، وإنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول وذكر الحديث الذي ذكرناه آنفًا، وقد زال عنِّي الغضب وصدقَ الرَّجل ليس المال مِن كسبي ولا مِن كسب أبي، ولا مِن(19) غَزْل / أمي، وإذا كان في غدٍّ تأخذون عطاياكم.
          ولأهل الطَّريق في مثل هذا السَّبقُ العظيم، فما ذكر عن بعضهم أنَّه كان له غلام وعمل الغلام على أنْ يُغضِبه، فبقي(20) يروم ذلك زمانًا مهما عمل شيئًا يوجب الغضبَ عليه حَلُمَ عنه وعفى، فلمَّا كان يومًا قال له: ائتني بالدَّابة مسرعًا لضرورة لي، فأبطأ عليه(21)، فمشى بنفسه إلى حيث كانت الدَّابة، فإذا بالغلام قد عرقبها وهي ملقاة بالأرض، والغلام قاعد ينظر إليها، فسأله: مَن فعل هذا؟ قال له: أنا، قال له: وما حملك على هذا؟ قال أردت أنْ أغضبك فإنَّك منذ(22) اشتريتني أروم ذلك منك وما(23) قدرت عليه، فقال له: إنَّي إنْ(24) شاء الله أُغِضب مَن أغواك، اذهب فأنت حرٌّ لله.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ المنجِّي مِن النَّار هو الإيمان، يؤخذ ذلك مِن قولهم: (فَرَرْنَا إِلَى النبيِّ صلعم مِنَ(25) النَّار)، فإنَّ الفرار إلى النَّبي صلعم فرارٌ إلى الله تعالى، والله ╡ يقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللهِ} [الذاريات:50] والفرار إليه سبحانه هو اتِّباع أمره واجتناب نهيه.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ الطَّاعة للأمير لا تنفع صاحبها إلَّا إذا كانت موافقة لِلِسان العلم، وإلَّا هي معصيةٌ، يؤخذ ذلك مِن أنَّ بعض أهل تلك السَّريَّة أرادوا أنْ يدخلوا النَّار اتِّباعًا لأمر أميرهم، يقصدون بذلك القُربة إلى الله سبحانه، ثمَّ أخبر رسول الله صلعم لَمَّا بلغه الأمر أنَّهم لو دخلوها ما خرجوا منها، / فدلَّ ذلك أنَّها(26) لو كانت لكانت مِن الكبائر.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ مِن السنَّة ردُّ أخيك المسلم عن ما يضرُّه بالقوَّة إذا لم يقبل منك بالقول، يؤخذ ذلك مِن كون الذين أرادوا أنْ يدخلوا النَّار، ولم يسمعوا مِن قول إخوانهم: (فَرَرْنَا(27) إِلَى النبي صلعم مِنَ النَّار) حبسوهم بالقهر حتَّى خمدت النَّار، يقوِّي ذلك قوله صلعم : «اُنصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا» فنصر الظَّالم أنْ تردَّه عن الظُّلم بأيِّ وجه قدرت.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ أهل الفضل ليس المعصوم منهم إلَّا مَن شاء الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن أنَّ فضل أولئك النَّاس كلِّهم لا شكَّ فيه(28)، وقد غلط بعضهم بأن ظنَّ أنَّ(29) دخول تلك النَّار اتِّباعًا لأمر أميرهم طاعة ولم يكن كذلك.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ الجمع مِن هذه الأمَّة لا يجتمعون على غلطٍ، يؤخذ ذلك مِن كون تلك السَّريَّة انقسموا قسمين: منهم مِن هان عليه دخول النَّار وظنَّه طاعة، ومنهم مَن لم يظهر له ذلك فكان خلافهم سببًا لرحمة الجميع.
          وفيه دليلٌ: لمن يقول اختِلاف(30) العلماء رحمة، وقد قال صلعم : «لن تجتمع أمَّتي على ضلالة(31)».
          وفيه دليلٌ: على أنَّ مَن كان صادقًا مع الله تعالى لا يقع إلَّا في خير وإن قصد شرَّا أو أراده(32)، فإنَّ الله يصرفه عنه(33)، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا كان الذين أرادوا أنْ يدخلوا النَّار وظنُّوا أنَّه طاعةٌ لله تعالى، فبصدقهم مع الله جعل الله إخوانهم / حبسوهم عن ذلك حتَّى نجوا مِن هذا الأمر العظيم.
          ومِن كلام أهل التَّحقيق: مَن صدق مع الله وَقَاهُ الله، ومَن توكَّل على الله كفاه الله وهداه(34)، جعلنا الله منهم(35) لا ربَّ سواه.


[1] في (ج) و (م): ((واستعمل رجلا)).
[2] في (ج) صورتها: ((أمين)).
[3] قوله: ((وأمرهم)) ليس في (ج).
[4] في (م): ((الأمر)).
[5] في (ج): ((الأمير)).
[6] في (م): ((والامر)).
[7] في (ج): ((من)).
[8] في (ج): ((على)).
[9] في (ج) و (م): ((الآمر)).
[10] في (ج): ((أليس النَّبِيُّ صلعم أمركم)).
[11] في (م): ((يعطي ذوي)).
[12] في (م): ((الآمر)).
[13] قوله: ((إذا)) ليس في (م).
[14] قوله: ((ما)) ليس في (ج).
[15] قوله: ((الناس)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (ج): ((كسب)).
[17] في (ج): ((وخرج)).
[18] في (ج): ((وقال)).
[19] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[20] في (ج): ((وبقي)).
[21] في (ج): ((عنه)).
[22] في (ج): ((قد))، و في (م): ((مذ)).
[23] في (ج): ((ما)).
[24] قوله: ((إن)) ليس في (ج).
[25] في (ج): ((إلى)).
[26] زاد في (ط): ((أن)) والمثبت من (م).
[27] في (ج): ((فرار إلى الله...إخوانهم فررنا)) ليس في (ج).
[28] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[29] قوله: ((ظن أن)) ليس في (ج).
[30] في (ج) صورتها: ((اختلا من)).
[31] في (ج): ((ضلال))، وقوله: ((وفيه دليل.... على ضلالة)) ليس في (م).
[32] في (م): ((إرادة)).
[33] زاد في (م): ((وفيه دليل على أن من كان صادقا مع الله تعالى لا يقع إلا في خير لمن يقول اختلاف العلماء رحمة وقد قال صلعم لم تجتمع أمتي على ضلالة)).
[34] في (ج): ((مع الله تعالى ومن توكل عليه كفاه وهداه)) وفي (م): ((وهذا)).
[35] زاد في (ج) و (م): ((بمنه)).