بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لو دعيت إلى ذراع أو كراع لأجبت

          108-قوله صلعم : (لَوْ دُعِيتُ إِلَى ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ(1)...) الحديث. [خ¦2568]
          ظاهر الحديث(2) يدلُّ على ثلاثة أحكامٍ:
          أحدها: حُسن خُلُقه صلعم وتواضعُه.
          الثَّاني: قبول الهدية وإن قلَّت.
          الثَّالث: الإجابة على(3) الطعام.
          والحكم فيه على(4) وجهين؛ لأنَّهم اختلفوا في الكُراع، فقيل: هو كُراع الشَّاة وهو أقلُّ الأشياء عند(5) العرب، وقيل: كراع: موضع وهو بعيد مِن المدينة، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: بيان(6) أنَّ قبول الهديَّة مِن السُّنَّة، وليس اليد الآخذة / للهديَّة بمفضولة على اليد العاطية، ولا العاطية(7) هي الأعلى؛ لأنَّ(8) مَن اتب السُّنَّة في شيءٍ مِن الأشياء(9) فهو أعلى بلا خلاف في ذلك(10)؛ لأنَّه قد قال في الحديث قبل: «يا حَكِيْم(11) اليَدُ العُلْيَا خَيْرٌ مِنَ اليَدِ السُّفْلَى»، وقال: العليا هي المعطية، وقال هنا: (وَلَوْ(12) أُهْدِيَ إِلَيَّ ذراعٌ أو(13) كُرَاعٌ لقَبِلْتُ)، والفرق بينهما أنَّ حكيمًا طلب، فيكون أبدًا يد الطَّالب هي السفلى، ويد سيدنا صلعم لم تطلب، والذي أُهْدِي له(14) إنَّما هو إلى الله، فمِن الله أخذ سيدنا صلعم، والخبر الذي جاء بالهديَّة؛ لأنَّه طلب منه القبول إلى ما يوصله إلى الله، فيد(15) الطَّالب أبدًا صغرى، كما قيل لحكيم قبلُ. وقد أشرنا إلى شيءٍ(16) من هذا هناك، لكن هذا هو موضعه بالنَّصِّ(17).
          وفيه مِن الفقه أنَّه ما(18) كان لله لا يُحتقر وإن قلَّ بخلاف أهل الدُّنيا، فإنَّهم ينظرون في الهدايا بينهم لحظوظ النفوس قدر الهادي(19) والمـُهدى له(20)، ومولانا جلَّ جلاله قال: {فَمَنْ(21) يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة:7]، وقال: {إِنْ تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن:17]، وساوى(22) في ذلك بين القليل والكثير، فجاءت السُّنَّة مع الكتاب على حدٍّ واحدٍ: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء:82]، وكذلك إن كان الموضع الذي يُدعى إليه بعيدًا، فإنَّه إذا أجاب لذلك كان الأجر أعظم(23)، لكثرة الخطا / التي فيه وهي كلُّها لله، وكلَّما(24) كثرت الخطا لله كثر الأجر كما قال ◙ في حقِّ المساجد: «أَكْثَرُكُم أَجْرًا أَبْعَدُكم دَارًا» وذلك(25) لكثرة الخطا إليها.
          وهذا_أعني قبول الهدية_ ليس على العموم؛ لأنَّ الهدايا منها ما يكون من أجل الله، كالذي يهب إلى سيدنا صلعم (26)، ومنها ما يكون في حقِّ الصُّحبة أو للمكافأة(27) وهي على صفة أخرى.
          وقد قال عليٌّ ☺: الهبات ثلاث(28): فَهِبة للصُّحبة فذلك(29) وجه صاحبك، ولا جزاء لك عند الله(30)، وهِبَة للثَّواب فهي بيع مِن البيوع، وهِبَة لله فتلك التي(31) ثوابها على الله تعالى.
          لكن اليوم وإن كانت لله فيحتاج إلى(32) أن ينظر في(33) كسب(34) الواهب مِن أجل الحرام الذي كثر وداخل بعض(35) الأموال، وأمَّا ذلك الزَّمان فالمال كلُّه طيِّب فلم يحتج(36) إلى تفرقة(37) في ذلك، والأمر اليوم كما لا خفاء فيه.
          وقد قال(38) بعض العلماء وهو رزين: ما أوقع النَّاسَ في المحذورات إلَّا أنَّهم يحملون اليومَ الأسماء التي كانت أولًا على وجهٍ جائز، وهي اليوم على غير ذلك، فيحمِلونها(39) على ذلك الحسن الذي(40) سمع عنها وليس كذلك، بل ينبغي أن ينظر في الأمور وما حدث فيها، ولذلك قال عمر بن عبد العزيز: (يحدث(41) للنَّاس أحكام بقدر(42) ما أحدثوا مِن الفجور)، ولم يرد هذا(43) السَّيد تبديل أحكام الشَّريعة؛ لأنَّه لا قائل بذلك وإنَّما أراد مثل هذا النَّوع الذي أشرنا إليه.
          وفيه دليلٌ على / قبول الهديَّة ولا يثيب عليها(44)، وقد جاء أنَّه ◙ كان يثيب على الهديَ ة في الحديث بعد هذا، فيسوغ الجمع بأن تقول(45): الثَّواب على الهديَّة(46) سنةٌ، وترك الثَّواب سنَّة، فيكون ذلك توسعة منه صلعم، ومما يبيِّن ذلك قوله ╕: «فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَادْعُ اللهُ حَتَّى تَعْلَمَ(47) أَنَّكَ قَدْ كَافَأْتَهُ(48)» وقال ◙ في مقدار الدُّعاء في ذلك(49): «مَنْ وَالَاكَ مَعْرُوفًا فَقُلْتَ لَهُ: جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، فَقَدْ أَطْنَبْتَ في الجَزَاءِ».
          وهنا بحث وهو أن يقال:(50) لِمَ أخبر ◙ هنا عن نفسه المكرَّمة، ولم يقدر(51) الحكم باللفظ العامّ؟ فكان يقول: من أهدي إليه كُراع أو ذراع فليقبل(52)؟
          فالجواب عن ذلك(53): لو قاله لكان يقع في النفوس أنَّ هذه من الصَّدقة التي يجوز للغنيِّ أخذها وأكلها(54)، فقد كان يتورع فيها بعض النَّاس، فلمَّا كانت الصَّدقة حرامًا(55) عليه صلعم، وأخبر عن نفسه المكرَّمة أنَّه يقبلها، فَعُلِمَ بالقطع أنَّها ليست مِن الصَّدقة بنسبة أصلًا ولا فرعًا، وإنَّما هو مالٌ حلالٌ مَحْضٌ لا شُبْهَ فيه(56)؛ لأنَّه ◙ لا يفعل(57) فيما يخصُّه إلَّا أعلى الأمور وأزكاها، وقد قال العلماء في(58) معنى قوله جلَّ جلاله: {إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، إنَّه الفتوح إذا كان على(59) وجهه.
          وأمَّا قوله ╕: «لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ ذِرَاعٌ أَوْ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ(60)» فسوَّى(61) بين القبول للذِّراع والكُراع، فإنَّ الحكمة في ذلك: أنَّ أحبَّ الأعضاء إليه / مِن الشَّاة كان الذِّراع، وأنَّ الكراع عندهم لا بال له، فكأنَّه ◙ يقول: لو أهدي إليَّ ما أحبُّه وما لا(62) أحبُّه لقبلته؛ لأنَّ القَبول هنا هو(63) كما تقدَّم مِن أجل(64) الله، فما يكون(65) مِن أجل الله فلا ينظر فيه إلى ما تحبُّه النَّفس أو لا تحبُّه؛ لأنَّ المعاملة في ذلك مع الله، وقد يكون الأجر في قبوله للذي(66) لا تشتهيه النَّفس أكثر؛ لأنَّه يَتَمحَّض فيه العمل لله(67) خالصًا.
          ويؤخذ منه الكلام في الممكنات وتقعيد(68) الحكم على ما يمكن وقوعه منها يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (لَوْ أُهْدِيَ)؛ لأنَّه ذَكَرَ ممكنًا وقد(69) يقع؛ لأنَّ الفائدة فيه تقعيد الحكم وبيانه، لا وقوع نفس الشَّيء المحتمل، وقد قال أهل العلم بصنعة(70) الفرائض(71): إذا أردت معرفة علم(72) الفرائض، فَأَمِتْ(73) جيرانَك وأصحابك، والفائدة في ذلك، لأنَّك عالم بمَن يبقى بعدهم، فتعلم مَن يَرِث ومَن يُحجب، ولا يطرأ عليهم بسبب ذلك موتًا(74).
          وقوله ╕: (لَقَبِلْتُهُ) اللام هنا زائدة، والمعنى قبلتُ، فإنَّ العرب كثيرًا ما يزيدون الحروف في أوَّل الكلام والجُمل(75).
          وفيه دليلٌ للمحقِّقين مِن أهل(76) الصُّوفية؛ لأنَّهم(77) يقولون: إنَّ الفقير إذا كان صادقًا مع الله لم يأخذ شيئًا إلَّا مِن الله للوجه الذي قدَّمناه، ولأنَّهم لا يمشون في تصرفاتهم إلَّا على الكتاب والسُّنَّة بخلاف ما يعتقده بعض النَّاس فيهم، وذلك لجهلهم بطريقتهم الفضلى(78).


[1] في (ج): ((كراع أو ذراع)).
[2] في (ج) و(م) و (ل): ((ظاهره)).
[3] في (ل): ((إلى)).
[4] قوله: ((على)) ليس في (ج).
[5] في (م): ((على)).
[6] قوله: ((بيان)) ليس في (ج) و(م).
[7] في (ج): ((المعطية ولا المعطية))، وفي (م): ((العليا والمعطية)).
[8] في (ج) و(م) و (ل): ((لأنه)).
[9] قوله: ((من الأشياء)) ليس في (ج) و(م).
[10] قوله: ((بلا خلاف في ذلك)) ليس في (ج) و(م).
[11] قوله: ((يا حكيم)) ليس في (ج) و(م).
[12] في (ج) و(م) و (ل): ((لو)).
[13] قوله: ((ذراع أو)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] قوله: ((له)) ليس في (ل).
[15] في (م): ((فتكون يد)).
[16] في (ج): ((وقد أشرنا إلى موضعه)).
[17] قوله: ((هو موضعه بالنص)) ليس في (ج).
[18] في (ط): ((لما)) والعبارة في (ل): ((موضعه بالنص ويترتب عليه من الفقه أنه ما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] في (ج) و(م): ((المهدي)).
[20] قوله: ((له)) ليس في (ل).
[21] في (ل): ((ومن)).
[22] في (ج): ((وسوَّى)).
[23] في (ج): ((الأعظم)).
[24] في (ط): ((ما)) وفي (ل): ((وما)).
[25] في (ج): ((وكذلك)).
[26] قوله: ((كالذي يهب إلى سيدنا صلعم)) ليس في (ج) و(م).
[27] في (م): ((للمكافآت)).
[28] في (م): ((ثلاثة)) وقوله: ((الهبات ثلاث)) ليس في (ل).
[29] في (ط): ((ولك))، وفي (ل): ((فلك))، وقوله: ((فذلك)) ليس في (م)، وبعدها في (م): ((لوجه))، والمثبت من (ج).
[30] قوله: ((ولا جزاء لك عند الله)) ليس في (ج) و(م).
[31] قوله: ((التي)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] قوله: ((إلى)) ليس في (ط) و (م) والمثبت من (ج).
[33] في (ج) و(م): ((إلى)).
[34] العبارة في (ل): ((فنحتاج أن ننظر إلى كسب)).
[35] قوله: ((بعض)) ليس في (ج) و(م) وفي (ل): ((ودخل بعض)).
[36] في (ل): ((نحتج)).
[37] في (م): ((تعرفه)).
[38] في (ل): ((فيه وقال)).
[39] في (ج): ((فتحمل)).
[40] في (ل): ((التي)).
[41] في (ج): ((حدث)).
[42] في (ج) و(م): ((على قدر)).
[43] قوله: ((هذا)) ليس في (ل).
[44] قوله: ((ولا يثيب عليها)) بياض في (ج).
[45] في (م): ((وممكن الجمع بأن نقول)) وفي (ل): ((نقول)).
[46] قوله: ((في الحديث بعد هذا، فيسوغ الجمع بأن تقول الثَّواب على الهديَّة)) ليس في (ج)، وبعدها في (ج): ((ولا سنة)).
[47] في (ل): ((يعلم)).
[48] في (ل): ((كافيته)).
[49] في (ج): ((فقال))، وقوله: ((في ذلك)) ليس في (م).
[50] قوله: ((أن يقال)) زيادة من (ج) على النسخ، وقوله بعدها: ((لم أخبر)) ليس في (ج).
[51] في (م): ((تقرر)).
[52] قوله: ((فكان يقول: من أهدي إليه كُراع أو ذراع فليقبل)) ليس في (ج) و(م).
[53] قوله: ((عن ذلك)) ليس في (ج)، وفي (م): ((فالجواب أنه)).
[54] في (ج): ((ولا أكلها)).
[55] في (ط) و(ل): ((فلما هي الصدقة حرام)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[56] العبارة في (ل): ((حلال بمحض لا شبهة فيه)).
[57] في (ج): ((لا يقبل)).
[58] قوله: ((في)) ليس في (ل).
[59] قوله: ((على)) ليس في (ج).
[60] قوله: ((لقبلت)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[61] العبارة في (ل): ((لو أهدي إلي كراع أو ذراع فسوى)).
[62] قوله: ((لا)) ليس في (ج) وفي (ل): ((أو ما لا)).
[63] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[64] قوله: ((أجل)) ليس في (م).
[65] في (م): ((وما كان))، و في (ج): ((وما يكون)).
[66] في (ج): ((الذي)).
[67] قوله: ((لله)) ليس في (ل).
[68] في (م): ((وتقييد)).
[69] في (ج) و(م) و (ل): ((قد)).
[70] قوله: ((بصنعة)) ليس في (ج)، وفي (ل): ((بصيغة)).
[71] في (م): ((أهل علم الفرائض)).
[72] قوله: ((علم)) ليس في (م).
[73] في (ج) و(م): ((فافرض موت)).
[74] في (ل): ((فتعلم من يرث ومن يحجب عليهم موت)).
[75] قوله: ((وقوله ╕: (لقبلته) اللام هنا زائدة، والمعنى قبلت، فإنَّ العرب كثيرًا ما يزيدون الحروف في أول الكلام والجمل)) ليس في (ج) و(م).
[76] قوله: ((أهل)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[77] في (م): ((الذين)) والعبارة في (ل): ((وفيه دليل من الصوفية لأنهم)).
[78] في (ج) و(م): ((بطريقهم العليا))، وفي (ل): ((بطريقهم الفضلى)).