بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة أفأصلها ؟

          158-قولها: (قَدِمَتْ(1) عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ(2)...) الحديث. [خ¦3183]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى جواز صِلة الولد لأُمِّه الكافرة، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأَوَّل: هل الحديث(3) مقصور على الصِّلَة للأم لا غير؟ أو الصلة جائزة على العموم للمشركين كلهم(4)؟
          ظاهر صيغة الحديث في الأم، لكن يؤخذ تعدِّيه لغير الأم مِن غير هذا الحديث وهو قَوْلُهُ ╕: «في كُلِّ كَبِدٍ حَرَّى أَجْرٌ».
          الوجه الثَّاني قولها: ((5)قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي) يَرد عليه سؤالان:
          (أحدهما): أن يقال(6) لِمَ قالت: (قَدِمَتْ) ولم تقل: (جاءت) وما أشبهها مِن الصيغ؟
          (الثَّاني): أن يُقَال: لمَ قالت: (عَلَيَّ) ولم تقل: (إليَّ)، إذْ إنَّهم لا يخصصون الألفاظ بالذكر دون غيرها إلا لمعنى مفيد على ما تقرَّر(7).
          والجواب عن الأَوَّل: أنَّها لو أتت بغيرها مِن الصيغ لاحتمل اللَّفظ أن تريد أنها جاءت مِن سفر أو غيره، و(قَدِمَت) ليس فيه احتمال غير القدوم مِن السفر، لأنَّك إذا قلت: فلان / قدم، أو فلان قدم على فلان، ولم تذكر مِن أي موضع كان قدومه، علم(8) أنَّك أردت أنَّه أتى مِن السفر، ولو قلت: فلان جاء أو فلان جاء إلى فلان(9) لم يُفْهَم عنك ما أردت بمجيئه هل(10) مِن سفر أو غيره حتَّى تبيِّنه، فخصصت تلك الصيغة دون غيرها رفعًا للاحتمال.
          والجواب عن السؤال الثَّاني: أنَّ القادم مِن السفر لا بدَّ وأن يكون معه رَحْلٌ، فيحتاج أن يحطَّه(11) بموضع فأتت بِقَوْلِهِا: (عَلَيَّ) لأنَّه ظرف لتبيِّن(12) أين كان نزول أمها حين قدومها، ولو أتت بغيرها مِن الصيغ لم تقم مقامها في ذلك المعنى.
          الوجه الثَّالث مِن البحث المتقدم: قولها: (فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ، إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللهِ صلعم).
          فيه دليل على أنَّ المهادنة بين المسلمين والمشركين جائزة، وهي جائزة(13) بشرط أن لا يكون على المسلمين فيه حَيف ولا يعطون شيئًا لهم، لأنَّ النَّبيَّ صلعم قد(14) صالحهم بنصِّ هذا الحديث، ولم يصالحهم ╕ قطُّ بشيء على المسلمين فيه حيف، ولا أعطاهم شيئًا قَطُّ، وقد قال ╕: «الإِسْلَامُ يَعْلُو ولَا يُعْلَى عَلَيْهِ» فعلى هذا فإذا كثر العدو بموضع حتَّى لا يقدر على قتاله فالخروج مِن الموضع إذ ذاك [أَوْلى] ولا سبيل إلى الإذعان إليهم في شيء ما لا بالمال ولا بالخدمة، وقد قال تعالى: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [الأعراف:128].
          الوجه الرَّابع: قولها: (وَمُدَّتِهِمْ) تعني: مدة المهادنة، وإنَّما أتت بذلك لتبيِّن أنَّ قدوم أُمِّها عليها(15) لم يكن حين العهد، وإنَّما كان(16) في أثناء(17) مُدَّته.
          الوجه الخامس: قولها: (مَعَ أَبِيهَا) يَرِد عليه سؤال، / وهو أن يُقال ما فائدة ذكرها للأب؟
          والجواب عنه: أنَّها إنَّما قالت ذلك لتزيل ما يتخيل هناك مِن فقر أمها وحاجتها، لأنَّها قالت في آخر الحديث: (وَهِيَ رَاغِبَةٌ) والرغبة تحتمل أن تكون مِن المحبَّة، وتحتمل أن تكون طلبًا للإحسان مِن أجل الفاقة، وهذا الاحتمال الأخير يلحق به مِن النقص للموصوف(18) به ما لا يخفى، فأتت بذكر أبيها(19) معها لتبيِّن أنَّها لم تطلب هذه الرغبة التي أشرنا إليها أخيرًا، وإنَّما أرادت الأُولى، لأنَّ المرء إذا جاء مع مَن يكفله ليس بفقير.
          الوجه السَّادس: قولها: (فَاسْتَفْتَتْ(20) رَسُولَ اللهِ صلعم) الكلام على هذا الفصل مِن وجوه:
          (الأَوَّل): التعلُّم(21) والسؤال قبل العمل، لأنَّها لم تَصِل أمَّها(22) حتَّى استفتت النَّبيَّ صلعم فسألت وتعلَّمت، وحينئذ عملت.
          (الثّاني): أنَّ الأمر إذا كان العمل به مستصحَبًا ثم عارضته(23) عِلَّة، فالتوقُّف إذ ذاك حتَّى يتبيَّن بلسان العلم هل يقع بها المنع أو يبقى على بابه(24)؟ لأنَّ الصلة للوالدين تتردَّد بين الواجب والمندوب بحسب اختلاف الأحوال، فلمَّا(25) أن عارض ذلك عِلَّة الكفر لم تُقْدِم على(26) العمل حتَّى تَبيَّنَ(27) لها الأمرُ على لسان العلم باستفتائها للنَّبيِّ(28) صلعم.
          (الثالث): إنَّ الأصل الدِّين، وهو المُعَوَّل(29) عليه مع الأقارب والأجانب، لأنَّه(30) يُعْلَم بالضرورة أنَّ(31) الولد يحبُّ والديه المحبَّة الكليَّة، لكن لم تنظر لأمها حين أقبلت عليها في شيء حتَّى سألت هل / ذلك لها سائغ في الدِّين أم لا؟ فقدَّمت الدِّين على أحبِّ الأشياء إليها وهو المراد بِقَوْلِهِ تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ(32)} [التوبة:24] فهؤلاء ♥ مِمَّن فهموا هذه الآية وعمِلوا بمقتضاها.
          (الرَّابع): فيه دليل لأهل الصُّوفَةِ(33) في كونهم يؤخِّرون الأعمال في بعض الأوقات حتَّى يصحِّحوا النية، لأنَّها لم تعمل هذه القُربة(34) لأجل ما عارضها حتَّى استفتت النَّبيَّ(35) صلعم لأنْ تُخْلِص النيَّةَ بغير شبهة ولا ارتياب، اتباعًا لقوله صلعم : «خَيْرُ العَمَلِ مَا تَقَدَّمَتْهُ(36) النِّيَّةُ».
          الخامس: لقائل أن يقول: لمَ قالت: (فاستفتيتُ)(37)، ولم تقل: (سألتُ) كما قيل عن غيرها في غير هذا الحديث؟ والجواب عنه: أنَّ الاستفتاء أخصُّ مِن السؤال، لأنَّه لا يُطْلِق (مستفتيًا) إلا على مَن له معرفة بالحُكم، وبقي عليه(38) بعض إشكال في واردٍ وَرَدَ أو إشكال عَرَض، ويُطْلِقُ عليه (سائلًا) إذا لم يكن له معرفة بالحكم ولا بطرف منه(39)، ولأجل هذا قال صلعم (40): «اسْتَفْتِ نفسَكَ وإِنْ أَفْتوكَ» ولا يسوغ أن يقال سَلْ نفسك(41)، لأنَّ الاستفتاء تحقيق أحد أمرين:(42) أن تعلم أيُّهما الأصلح(43) بك لمعرفتك بجزئيات أمرك أكثر مِن غيرك، ولا يفهم ذلك مِن قولك سَل نفسك.
          الوجه السَّابع: قولها: (يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟) الرغبة قد تقدم الكلام على معناها / وهي على ضربين، وقد بَيَّنَّاهما، والصِّلة أيضًا قد ذكرناها وهي على ضربين، وهي هنا من القسم المندوب.
          الوجه الثَّامن: قولها (قَالَ: نَعَمْ صِلِيهَا) فيه دليل على أنَّ النَّبيَّ صلعم له أن يحكم باجتهاده وبما يرى مِن رأيه، لأنَّه ╕ أمرها(44) بالصلة لأمها مِن غير أن ينزل عليه وحي فيها، أعني الوحي بالواسطة، وأمَّا وحي الإلهام فكلُّ كلامه ╕ وتصرفه منه(45) لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3- 4].


[1] في (م): ((وأدخله في حفظ عنايته بمحمد وآله عن أسماء بنت أبي بكر قالت قدمت)).
[2] زاد في (م): ((إذ عاهدوا رسول الله صلعم ومدتهم مع ابيها فاستفتيت رسول الله صلعم فقلت يا رسول الله إن أمي قدمت علي وهي راغبة فأصلها قال نعم صليها)).
[3] في (م): ((الأول ظاهر الحديث)).
[4] في (م): ((على المشركين كلهم)).
[5] زاد في (م): ((لما)).
[6] قوله: ((أن يقال)) ليس في (م).
[7] في (ج): ((تقدم)).
[8] في (م): ((علمت)).
[9] قوله: ((إلى فلان)) ليس في (ج).
[10] زاد في (م): ((هو)).
[11] في (ج): ((يحصله)).
[12] في (م): ((علي أنه لا طرق لتبين)).
[13] قوله: ((وهي جائزة)) ليس في (م).
[14] قوله: ((قد)) ليس في (ج).
[15] في (م): ((عليه)).
[16] في (م): ((وإن كان)).
[17] في (ج): ((ابتداء)).
[18] في (ط): ((الموصوف)) والمثبت من النسخ الأخرى. وبعدها في (م): ((به مما)).
[19] في (م): ((بذكرها أبيها)).
[20] في (م): ((فاستفتيت)).
[21] في (ط) و (م): ((التعليم)) والمثبت من (ج).
[22] في (ج) و (م): ((لأمها)).
[23] في (م): ((مختصا ثم عارضه)).
[24] في (م): ((على ما به)).
[25] في (م): ((لما)).
[26] في (م): ((لها)).
[27] في (م): ((يتبين)).
[28] في (م): ((النبي)).
[29] في (ج): ((العموم)) وفي (م): ((المعمول)).
[30] في (م): ((أنه)).
[31] في (م): ((لأن)).
[32] قوله تعالى: ((فتربصوا حتَّى يأتي الله بأمره)) ليس في (ط) و (م) والمثبت من (ج).
[33] في (ط): ((الصوفية)).
[34] في (ط): ((القرينة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] في (م): ((رسول الله)).
[36] في (ج): ((قدمته))، وفي (م): ((ما تقدمه)).
[37] في (ج): ((فاستفتت)).
[38] قوله: ((عليه)) ليس في (م).
[39] في (ج): ((ولا بد طريق منه)).
[40] في النسخ: ((ولأجل هذا يقال)) والمثبت هو الصواب، ففي مسند أحمد ░17545▒ عن وابصة بن معبد ☺ أن النبي صلعم قال له : (جِئْتَ تَسْأَلُنِي عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ فَقَالَ: نَعَمْ فَجَمَعَ أَنَامِلَهُ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِهِنَّ فِي صَدْرِي وَيَقُولُ: يَا وَابِصَةُ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ وَاسْتَفْتِ نَفْسَكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ).
[41] في (م): ((ولا يقال سل نفسك)).
[42] في (م): ((الأمرين)).
[43] في (ج) و (م): ((أصلح)).
[44] في (م): ((من رأيه ◙ لأنه أمرها)).
[45] في (ج): ((عنه)).