بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يقال لأهل الجنة خلود لا موت

          270- قوله صلعم : (يُقَالُ / لِأَهْلِ الجَنَّةِ: خُلُودٌ لَا(1) مَوْتَ...) الحديثَ(2). [خ¦6545]
          ظاهر الحديث يدلُّ على حُكْمَين:
          أحدهما: الإعلام بدوام خلود أهل الجنَّة، وتأبيدهم فيها دواماً لا انقضاء(3) له، دون موت يلحقهم فيها. يشهد لذلك مِن الكتاب العزيز قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان:56].
          والحكم الثاني: الإخبار بدوام خلود أهل النَّار في النَّار خُلوداً لا انقضاء له، وَلا موت(4) يَلْحَقُهم فيها. يَشهد لذلك مِن الكتاب العزيز قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} [البقرة:162] والكلام عليه مِن وجوه(5):
          منها أن يُقال: مَا الحكمة في أنْ أخبر بالخلود؟ وَما الحكمة في أنْ أخبر بوصفين، وكلُّ واحد منهما يدلُّ على ما يدل عليه الآخر(6)، لأنَّ الخلود(7) يدلُّ على عدم الموت، وعدم الموت يدلُّ على الخلود؟.
          والجواب: أنَّ في الإخبار لأهل النَّعيم بدوامه زيادة في نعيمهم، ورفعاً لتشويشٍ(8) ممكنٍ وقوعُه مِن خوف سلب ما هُم فيه، فيُضَاعَفُ(9) بتحقيق ذلك السُّرورُ عليهم. ومثل ذلك(10) أهلُ الشَّقاوة والعذاب: تضاعفت(11) الأحزان عليهم، واشتدَّ أَلَمُ العذاب عليهم، لعلمهم بدوامه تضاعفت(12) الحسرات والآلام.
          والجواب عَن الثَّاني هو(13): أنَّ فيه لأهل السُّرور تأكيداً في الإخبار، حتَّى لا يبقى فيه احتمال بوجه(14) مِن الوجوه، ويحصل / لهم بذلك أكبر النَّعيم، وهو القطع بدوام نعم المنعم عليهم بلا تعبٍ يلحقهم ولا ألمٍ بوجه مِن الوجوه(15) المحتملة بحسب ما عهدوا(16) في هذه الدار، لأنَّ نعيمها _وإن دامَ لأحد_ فالموت يقطعه، فأُخبِروا أنَّ ذلك النَّعيم بخلاف هذا، لأنَّ دَوامه لا ينقضي، ولا لهم فيها موت يقطعه.
          ومثل ذلك في ضدِّه أهل دار الشَّقاء، لأنْ يحصل لهم العلم أنَّ عذاب تلك الدار دائم، وأنَّه ليس كعذاب هذه الدار، لأنَّ عذابها _وإنْ دام_ فالموت قاطعه، كما قال السَّحرة لفرعون: {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72] وهي منقطعة، فلا نبالي بعذابك، افعلْ ما بدا لك. هذا بلسان الحال الذي هو أبلغ مِن لسان المقال، وأنَّه ليس هنا موت يقطع لكم مَا أنتم فيه(17)، فأيقنوا بدوام عقاب الله لهم(18) ونقمه.
          ثمَّ مع هذا القدر مِن التَّحقيق في الإخبار لم يكفهم ذلك حتَّى زيدوا بأن «يُؤْتَى بالموتِ في(19) مثلِ كَبْشٍ(20)، ويُنادى لأهلِ الدَّارَين جميعاً: هل تَعْرِفُون هذا؟ فكلُّهم يقرُّون(21) أنَّهم يَعْرِفُونه، فيُذبح عندَ ذلك بين الجنَّة والنَّار»، وكلٌّ(22) مِن أهل الدَّارين(23) يعاينونه حتَّى يرجع لهم إذ ذاك(24) العلم بما قيل لهم(25) مِن الخلود وعدم الموت عين يقين، فينقطع إذ ذاك رجاء أهل النَّار مِن رَحمة أرحم الراحمين، ويرجع لأهل الجنَّة بدوام نعم الله عليهم ورَحمته لهم عين يقين.
          وفي هذا الحديث تضمُّن(26) الإخبار الحثَّ عَلى الأعمال الموجبة لدار الخير والإحسان، والنَّهيَ والتَّحذير عَن(27) الأعمال التي تُوْجِب / الحيرة(28) والهوان، وهو حقيقةُ فقه الحديث، وفائدته العظمى لمن فهم، وإلَّا كان حُجَّة عليه لا له {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ}[فاطر:37].
          جعلنا الله ممَّن ذُكِّر فوعى، وسبقت له الرَّحمة بدار الرضى، لا ربَّ سواه، وهو الولي الحميد.


[1] في (م) و(ت): ((بلا)) والمثبت من (ج).
[2] في (ب): ((عن أبي هريرة قال رسول الله صلعم : يقال لأهل الجنة يا أهل الجنة خلود لا موت، ولأهل النار خلود لا موت)).
[3] في (ج): ((انفصال)).
[4] في (ت): ((موتاً)).
[5] في (ت) و(ب): ((وجهين)).
[6] في (م): ((واحد منها يدل عليه الآخر)) والمثبت من (ج) و(ب).
[7] قوله: ((يدلُّ على ما يدل عليه الآخر، لأنَّ الخلود)) ليس في (ت).
[8] في (م) و(ت): ((ورفع التشويش))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[9] في (ج): ((فتضاعف)).
[10] في (ج): ((هذا)).
[11] في (ج): ((تضاعف))، وفي (ب): ((بتضاعف)).
[12] قوله: ((الأحزان عليهم، واشتدَّ أَلَمُ العذاب عليهم، لعلمهم بدوامه تضاعفت)) ليس في (ب).
[13] في (ب): ((وهو)).
[14] قوله: ((بوجه)) ليس في (ب).
[15] قوله: ((ويحصل لهم بذلك أكبر النَّعيم، وهو القطع بدوام نعم المنعم عليهم بلا تعب يلحقهم، ولا ألم بوجه من الوجوه)) ليس في (ج) و(ب).
[16] في (ج): ((عدوا)).
[17] في (ب): ((عليه)).
[18] في (ب): ((بدوام عذاب الله عليهم)).
[19] في (ج) و(ت): ((في)).
[20] في (م): ((بالموت فهو مثل كبش أملح)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] في (ج): ((يقولون)).
[22] في (ب): ((فكل)).
[23] في (م): ((الدار)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] قوله: ((إذ ذاك)) زيادة من (م) على النسخ الأخرى.
[25] قوله: ((لهم)) ليس في (ب).
[26] في (ج): ((يضمن)).
[27] في (ج): ((من)).
[28] في (م): ((توجب دار الحياة))، وفي باقي النسخ: ((توجب دار الحيرة)) والمثبت هو الصواب، وهو موافق للمطبوع. وقوله: ((والهوان)) ليس في (ب).