بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من لا يرحم لا يرحم.

          242-قوله صلعم : (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ)(1). [خ¦6013]
          ظاهر الحديث أنَّ رحمة الله لا ينالها إلَّا مَن تكون فيه رحمة، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: قوله: (لَا يُرْحَمُ) مَا معناه؟ هل المراد لا يُرحم أبداً، أو أنَّه ليس مِن طريق الحُكم بالعدل سببٌ يُوجِب له بالوعدِ الحقِّ رحمةً؟ احتمل الوجهين معاً بحسب التَّأويل في قوله ◙ : (مَنْ لَا يَرْحَمُ) عَلى ما يُذكر بعد. وهل(2) المراد بقوله: (مَنْ لَا يَرْحَمُ) لا يَرْحَم غيره، إمَّا بإحسان أو بما يكون في مثله مِن تَسلٍّ أو تَعزٍّ أو إرشاد إلى غير ذلك مِن وجوه المَسرَّات؟ أو يريد بقوله: (مَنْ لَا يَرْحَمُ لَا يُرْحَمُ) أي لا تكون(3) فيه رحمة الإيمان / التي هي(4) دالَّة عليه، فلا يُرحم لخلوِّه مِن الإيمان؟
          أو يكون المراد: مَن لا يرحَمُ نفسه بامتثال أوامر الله تعالى واجتناب نواهيه لا يُرحم، لأنَّه ليس له عهد عند الله تعالى يُوجِب ذلك؟
          أو يكون المراد: لا يُرْحَم(5) الرَّحمة التي ليس فيها ضَيم ولا شيء مِن شوائب التشويشات إلَّا مَن كان راحماً على الإطلاق لنفسه وَلغيره وفي إيمانه كَما قال ╡ في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} [البقرة:218] أي: يحقُّ لهم الرجاء لِمَا أتوا بموجباته _فإنْ رَجوا بغير عمل فليس ذلك رجاء، وإنَّما يسمِّيه العلماء تمنِّياً(6). والتَّمني عندهم مطيَّةُ الهلاك_ وكقوله(7) ╡ : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ(8)...} إلى قوله: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156-157].
          أو يكون المراد: إنَّ أهل المبالغة في الرحمة يتجاوز الله تعالى بفضله عنهم ويرحمهم كما جاء(9): «تَجَاوزوا عن الكريم، فإنَّ اللهَ آخذٌ بيدِهِ كلَّما عَثَر». وقد جاء: «أنَّ يومَ القيامةِ يُنَادي منادٍ: مَنْ له على اللهِ حَقٌّ(10) فلْيقم. فيقوم العافون عَن النَّاس، فيُؤمر بهم إلى الجنَّة مِن غير حِسَاب».
          واحتمل أن تكون الرَّحمة هنا بمعنى الحسنات(11) والأجور، فإنَّه لا يُؤجر ويُحْسَن إليه إلَّا مَن فعل رحمة، أي: عملاً يوجب له ثواباً، كقوله ◙ : «إنَّ اللهَ لا يملُّ حتَّى تملُّوا» أي: إنَّ الله لا يملُّ الإحسان وحُسن الجزاء حتَّى تملُّوا(12) مِن العمل.
          واحتمل أن يكون المراد: لا ينظر إليه بعين رحمةٍ(13) إلَّا مَن / وُفِّق إلى الرَّحمة وجُعلت في قلبه، فتكون دالَّةً عَلى الرَّحمة له، ومَن لم يجعل في قلبه رحمة كان ذلك(14) دليلاً عَلى عدم الرَّحمة له في الآخرة، وإن كان هذا(15) على عمل خير في الظاهر، لأنَّ تلك العلامة لم يجدها. وقد جاء عنه صلعم ما يبيِّن هذا المعنى وهو قوله ◙ : «اطلبوا الرِّقَّة في ثلاث: في الذِّكر والتلاوة والصَّلاة. فإن وجدتُمُوها وإلَّا فاعلَمُوا أنَّ البابَ مُغْلَقٌ» أو كما قال ◙ . والرِّقَّة لا تكونُ إلَّا مع الرحمة، وقد قال صلعم لأعرابي: «ما لكَ؟ أَنَزَعَ(16) الله الرحمةَ مِن قلبك؟ إنَّ اللهَ لا يَرْحَمُ مِن عباده إلَّا(17) الرُّحماء» أو كما قال صلعم.
          وقد قال صلعم في القاسي القلب: «بَعِيدٌ مِن الله»، وقد قال صلعم (18): «ألا أخبرُكُم(19) بمن يُحرَّم على النَّار وتُحرَّم عليه النَّار؟ على(20) كلِّ قريبٍ هيِّنٍ سهلٍ» أو كما قال صلعم، وَهذه الأدلَّة كلُّها إنَّما هي لمن جُعلت الرَّحمة في قلبه.
          واحتمل أن يكون المراد بالرَّحمة هنا الصَّدقة، فيكون المراد بقوله: (لَا يُرْحَمُ) أي: لا يُدفع عنه البلاء، مثل ما حُكي عن(21) قصَّة القصَّار مِن بني إسرائيل الَّذي كان يؤذي الناس، فَشَكَوهُ لنبيِّ ذلك الزَّمان، فأخبرهم أنَّ الله ╡ يرسلُ عليه بلاءً في اليوم الفلاني. فلمَّا كان(22) ذلك اليوم خرج الرجل(23) على عادته للقصارة وأخرج معه رغيفين لغدائه، فلقيه(24) مسكين فسأله فأعطاه الرَّغيفين، فلمَّا كان عشيَّةَ / النهار وإذا به راجع ما به شيء، فقالوا لذلك النَّبيِّ صلَّى الله عليه(25) وعلى سيِّدنا وعلى جميعهم: أين الذي وعدتْنَا؟ فسألَهُ: ما فعلتَ اليوم؟ فأخبره بإعطائه الرَّغيفين، فأمر بحَلِّ رزمة ثيابه، فوجد فيها حيَّةً عظيمة ملجمةً بلجام مِن نار، وَقال(26) لهم: هذا البلاء الذي كان أُرْسِل عليه، وَهذا اللِّجام(27) هِي الصَّدقة التي تصدَّق بها حبسَتْها عنه. أو كَما جَرى. وَقد قال صلعم : «ادفعُوا البلاءَ بالصَّدقة».
          واحتمل أن يكون المراد الإرشاد لجميع مصانع المعروف، لقوله صلعم : «مَصانعُ المعروف تَقِي مَصارعَ السُّوءِ».
          واحتمل أن يكون المراد جميعَ الوجوه كلِّها، لأنَّ(28) على كلِّ واحد منها مِن السنَّة أدلَّة عديدة(29).
          ويترتَّب عَلى ذلك مِن الفقه أن يتفقَّد المرء نفسه في هذه الوجوه كلِّها، لعلَّه أن يكون ممَّن يرحم، وإن عسر عليه شيء منها فيلجأ(30) إلى المولى الكريم لعلَّه يمنُّ عليه بالرَّحمة وأسبابها، فهو منَّان كريم.
          جعلنا الله مِن أهلها بفضله في الدُّنيا والآخرة(31).


[1] في (ب): ((عن جابر با عبد الله عن النبي صلعم قال: من لا يرحم لا يرحم)).
[2] في (ج): ((وهو)).
[3] في (ج): ((لا يرحم.. أن لا يكون)).
[4] قوله: ((هي)) ليس في (ب).
[5] قوله: ((نفسه بامتثال أوامر الله تعالى... أو يكون المراد: لا يُرْحَم)) ليس في (ب).
[6] في (م) و(ت): ((تمن))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[7] في (م): (كقوله))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] زاد في (ب): ((ويؤتون الزكاة)).
[9] قوله: ((جاء)) ليس في (ب). وبعدها في (ج): ((فتجاوزوا)).
[10] في (ب): ((من له حق على الله)).
[11] في (ب): ((الحساب)).
[12] قوله: ((أي: إنَّ الله لا يملُّ الإحسان وحُسن الجزاء حتَّى تملُّوا)) ليس في (ب).
[13] في (ب): ((الرحمة)).
[14] قوله: ((ذلك)) ليس في (ب).
[15] في (ج) و(ت): ((هنا)). و في (ب): ((هذه)).
[16] في (ب): ((نزع)).
[17] قوله :((إلا)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[18] قوله :((في القاسي القلب: ((بعيد من الله. وقد قال صلعم)) ليس في (م) والمثبت من (ج) و(ت).
[19] قوله: ((في القاسي القلب:... ألا أخبرُكُم)) ليس في (ب).
[20] قوله: ((على)) ليس في (ب).
[21] في (ج) و(ت): ((في)).
[22] زاد في (ج) و(ت): ((في)).
[23] قوله: ((الرجل)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] في (ج): ((لقيه)).
[25] زاد في (ب): ((وسلم)).
[26] في (ت): ((قال))، وفي (ب): ((فقال)).
[27] في (ج): ((إلجام)).
[28] في (ج): ((ولأن))، وقوله بعدها: ((على)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] قوله: ((عديدة)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى. و في (ب): ((أدلة من السنة عديدة)).
[30] في (ج): ((فليلجأ))، وفي (ت): ((فلجأ))، وبعدها في (ب): ((إلى مولاه)).
[31] زاد في (م): ((بمنِّه وفضله وكرمه)) والمثبت من النسخ الأخرى.