بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: اقرؤوا القرآن ما ائتلفت قلوبكم فإذا...

          204- قوله صلعم : (اقْرَؤُوا الْقُرْآنَ مَا ائْتَلَفَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُكُمْ...) الحديث. [خ¦5060]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنْ لا يقرأ القرآن إلا بجمع القلب على قراءته، وإذا كان القلب مخالفًا لِمَا أنت تتلوه فلا تَتْلُه، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يقال: هل هذا الأمر هنا على الوجوب أو على الندب؟ وما حدُّ ائتلاف القلب المجزئ في ذلك؟ وهل هذا أيضًا عامٌّ فيما هو(1) قراءة القرآن فيه واجب ومندوب أوْ ليس(2)؟
          فأمَّا قولنا(3): هل الأمر على الوجوب أو(4) الندب؟ فاللفظ محتمل لكن أقل ما يكون ندبًا.
          وفيه دليل على أنَّ الإعظام لجناب الرُّبوبية هو أرفع العبادات، يؤخذ ذلك مِن طلبه ╕ حضور القلب عند التلاوة واجتماعه على / ذلك، وهذه حالة الإعظام والإجلال، وقد نصَّ ╕ على ذلك بقوله: «إنَّ الله لا يقبل عمل امرىء حتى يكون قلبه مع جوارحه»، فعلى هذا الحديث ومخرجه أبو داود(5)، فيكون الأمر هنا على الوجوب.
          ويترتَّب(6) عليه مِن الفقه أنَّ(7) الأجور التي جاءت لمن يتلو الكتاب العزيز أنَّها ما(8) تصحُّ إلا لمن يتلوه على هذه الصِّفة.
          ويبقى البحث: هل مَن يتلوه على غير هذه الصفة هل(9) يكون مأثومًا(10) أو ليس(11)؟ لقوله ╕: (فَإِذَا اخْتَلَفْتُمْ فَقُومُوا عَنْهُ) فإنْ حُمل هذا الأمر الثَّاني على الوجوب فيكون مأثومًا، وإن حملناه على الندب فيكون مكروهًا وهو أقل الوجوه، والظَّاهر في الموضع عدم الإثم، وذلك راجع إلى ما نفصِّلُه بعد إنْ شاء الله تعالى.
          فنقول وبالله التَّوفيق: هل(12) ذلك النهي يتناول مَن قصد ذلك ومَن لم يقصده، أعني أنَّه يقرأ وهو يقصد التفكُّر في شيء آخر، والذي لم يقصده هو الذي يدخل بنيَّة القراءة ثمَّ تطرأ(13) على قلبه الغفلة والخروج إلى الفكر(14) في شيء آخر يستدرجه العدو في ذلك أو النفس.
          أمَّا الذي يدخل بنيَّة أنَّه يقرأ ويتفكَّر(15) في شيء آخر، فلا شك أنَّ ذلك مكروه مِن الفعل، مثاله إذا كان إنسان يكلِّمُك فتردُّ ظهرك(16) إليه وهو يخاطبك(17)، فهذه هي تلك الحالة وليس هذا مِن الأدب ويخاف عليه مِن العقاب(18).
          وأمَّا الذي يدخل بنيَّة الأدب في التلاوة وتعرِض له الغفلة أو الفكرة(19) فلا يخلو إمَّا أنْ يدفع ذلك أو يتمادى(20) معه، فإن دفعه فيرجى أنَّه لا يضرُّه لقول الله سبحانه وتعالى: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ(21) مِنَ الشَّيطان تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201 / وقد قال أهل التوفيق: إنَّما نحن مكلَّفون بدفع الخواطر السوء، لا بأن لا تقع(22).
          ويؤيِّد ما قالوه قول سيِّدنا صلعم حين قال له الصحابة(23) ♥: «إنَّا نجد في نفوسنا(24) ما يتعاظم أحدنا أنْ يتكلَّم به، قال: أوجدتموه؟ قالوا: نعم، قال: ذلك صريح الإيمان»، ولم(25) يعن بقوله صلعم : «ذلك صريح الإيمان»(26) في دفع ذلك(27) الشيء وتَعاظُمِ أنْ يُتكلَّم به، فإن تمادى مع تلك(28) الخواطر فلا يخلو أنْ يكون تماديه بغفلة ونسيان أو تعمد(29)، فإن(30) كان بغفلة ونسيان(31) فيرجع عند استفاقته لذلك، ويرجى أنْ لا شيء عليه لقوله صلعم : «رُفع عن أمَّتي الخطأ والنِّسيان»، وإن كان تماديه بالقصد(32) والذِّكْر فهو كالذي دخل بالنيَّة الفاسدة(33) سواء.
          ومما يشبه ذلك الذي يكون يعمل شغلًا وهو يقرأ، فإن(34) كان(35) قلبه مجتمعًا على القراءة فلا يضرُّه عمل ذلك الشغل(36) لأنَّ يده فيه عارية وقلبه مشغول بعبادته، وذلك بشرط أنْ يكون الشغل ممَّا ليس فيه قذارة ولا نجاسة، ويكون المحلُّ طاهرًا ولا يكون فيه لغط ولا شيء مكروه. وإن كان قلبه(37) متعلقًا بالشغل فممنوع له القراءة، والمنع على أحد الوجوه المتقدِّم ذكرها.
          وأمَّا ما حَدُّ(38) تألُّف القلب المجزئ في ذلك؟ فأقلُّه أنْ تسمع / بقلبك ما تتلوه بلسانك، كأنَّك تسمع(39) لغيرك يقرأ عليك(40)، وأعلاه أنْ تتفكَّر(41) في معناه حتى تفهم معنى(42) ما أنت(43) تتلوه، ويكسوك مِن كل معنى يرِدُ عليك حالًا يناسبه(44) تأسِّيًا بالنَّبي صلعم في تهجُّده، كان إذا مرَّت به آية رحمةٍ سألَ، وإذا مرَّت به آيةُ عذابٍ استعاذَ، وإذا مرَّت به آيةُ تنزيهٍ سبَّح، وإذا مرَّ(45) به مَثَلٌ تَدَبَّرَ واعتبَرَ، فمِن كلِّ آية(46) يتلوها تصدرُ عنه ╕ حال يناسبها.
          وأما قولنا: هل هذا على عمومه فيما هو قراءة القرآن فيه واجب، أو مندوب كالصلاة الواجبة مثلًا وصلاة النافلة، أو(47) التلاوة في غير صلاة؟ فالاحتمال(48) واقع، لكن الأظهر أنَّه في صلاة الفرض أشدُّ لا سيما مع(49) الحديث الذي أخرجه أبو داود، وهو(50) أنَّه صلعم «صلَّى صلاةً وأسقطَ مِن قراءة السورة التي قرأ فيها بعضَ آياتٍ، فلمَّا سلَّم سأل(51) بعضَ الصحابة: هل أسقطتُ مِن هذه السورة شيئًا؟ فقال: لا أعلم، ثمَّ(52) آخر كذلك فأمَّا في الثَّاني أو الثَّالث، قال: هنا أُبيٌّ؟، قالوا: نعم، قال: هُوَ لَها، فجثا بين يديه فسأله: هل أسقطتُ مِن هذه السورة شيئًا؟، فقال(53): نعم آية كذا وكذا، قال له: لِمَ لا فتحتَ عليَّ؟، قال: ظننت أنَّها نُسخت، فقال صلعم : يُقرأ كتابُ الله بين أظهركم ولا تعلموا ما قُرِىء وما لم يُقرأ، هكذا كان بنو إسرائيل، حتى أزال الله الخشية مِن قلوبهم، إنَّ الله لا يقبل عمل امرىءٍ حتى يكون قلبه مع جوارحه»، / أو كما قال صلعم.
          وقد قال صلعم : «ليسَ للمرءِ من صَلاتِهِ إلا ما عَقَلَ منها»(54)، فيكون المعنى هنا والله أعلم، كما قال مالك ☺ حين سئل عن الركعتين بعد الطواف: أفرض(55) هي أم لا؟ فقال: (هي مِن جنس الطواف، فإن كان فرضًا فهي فرض، وإن كان ندبًا فهي ندب).
          وفيه دليل لأهل الصوفة الذين يجعلون الحرمة آكد أحوالهم، حتى إنَّه ذُكر عن بعضهم أنَّه دخل المسجد وقعد فَوَجِعَتْهُ رِجلُه(56)، فجاء أنْ يمدَّها ثمَّ قبضها واستغفر الله تعالى، فقال له بعض أصحابه: يا سيِّدنا(57)، ليس في هذا شيء، فقال: لك ليس فيه شيء وأمَّا أنا فلا يمكنني(58) ذلك أخاف على نفسي مِن العقاب.
          وكان بعضهم يأخذ رجلَيه أثر فإذا نظر إليه يبكي ويستغفر، فسئل عن ذلك فقال: كان خرج له بها خُرَّاج(59) فغلبني شِدَّة الوجع حتى أرَقَيْتها(60) فشُفيتُ مِن حيني(61)، فجعلها مِن جملة الذنوب كونه لم يصبر ويرضَ بجري القضاء، لكن تلك(62) الحرمة والاحترام أوجبت لهم الحرمة والإكرام فَهَنَّأهُم مَنْ أعطاهم، وألحقنا بفضله بأعلاهم لا ربَّ سواه.


[1] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و (م).
[2] في (ج) و (م): ((أو لا)).
[3] في (ج): ((قوله)).
[4] زاد في (ج): ((على)).
[5] قوله: ((ومخرجه أبو داود)) ليس في (ج) و (م).
[6] في (ج) و (م): ((فيترتب)).
[7] زاد في (ج) و (م): ((أن)). كالأصل.
[8] في (ج): ((لا)).
[9] قوله: ((هل)) ليس في (ج) و (م).
[10] في (م): ((مأثورا)).
[11] في (ج) و (م): ((أو لا)).
[12] قوله: ((وبالله التوفيق هل)) ليس في (ط).
[13] في: (ج): ((نظر)) وفي (م): ((طرأ)).
[14] في (ج) و (م): ((الفكرة)).
[15] في (ج) و (م): ((ويفكر)).
[16] في (ج): ((ظهري)).
[17] في (ج) صورتها: ((تاطبك)).
[18] قوله: ((من العقاب)) ليس في (ج) و (م).
[19] في (ج): ((والفكرة)).
[20] في (ج): ((تمادى)).
[21] في (ج): ((طيف)).
[22] في (ج): ((يقع فيها)). وفي (المطبوع): ((إنما نحن مكلَّفون بدفع الخواطر السيئة بألا تقع)).
[23] في (م): ((أصحابه)).
[24] في (ج) و (م): ((أنفسنا)).
[25] قوله: ((ولم)) ليس في (م).
[26] قوله: ((ولم يعن بقوله صلعم : ذلك صريح الإيمان)) ليس في (ج).
[27] العبارة في (م): ((قالوا نعم قال ذلك صرح الإيمان يعني في ذلك)).
[28] في (م): ((ذلك)).
[29] في (ج) تحتمل: ((أو نقمة)).
[30] في (ج): ((فإذا)).
[31] قوله: ((أو تعمد فإن كان بغفلة ونسيان)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] في (ج): ((بالغفلة)).
[33] في (ج) و (م): ((دخل بالنية المتقدمة)).
[34] قوله: ((فإن)) ليس في (ج).
[35] في (ج): ((قال)).
[36] في (ج): ((للشغل)).
[37] في (ج): ((قلب)).
[38] في (م): ((وأما مأخذ)).
[39] في (ج): ((سمع)).
[40] قوله: ((عليك)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (م): ((يتفكر)).
[42] قوله: ((معنى)) ليس في (ج) و (م).
[43] صورتها في (م): ((أتت)).
[44] في (ج): ((تناسبه)).
[45] في (ج) و (م): ((مرت)).
[46] قوله: ((آية)) ليس في (ج).
[47] في (ج): ((و)).
[48] في (ج): ((والاحتمال)).
[49] في (م): ((في)).
[50] في (ج): ((هو)).
[51] قوله: ((سأل)) ليس في (م).
[52] في (ج): ((فقال)).
[53] في (ج): ((قال)).
[54] زاد في (ج) و (م): ((أو كما قال ◙)).
[55] في (ج): ((فرض)).
[56] في (ج): ((رجليه)).
[57] في (ج): ((يا سيدي)).
[58] في (ج): ((يمكني)).
[59] في (ج): ((كان خراج له بها)).
[60] في (ج): ((رقيتها)).
[61] العبارة في (م): ((فسئل عن ذلك فقال كان خراج له بها.... شدة الوجع حتى رقيتها فشقيت من حيني)).
[62] في (ج) و (م): ((القضاء فتلك)).