بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى

          187- قوله صلعم : (لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ...) الحديث. [خ¦3436]
          ظاهر الحديث الإخبار بكلام(1) أولئك الثلاثة في المهد فيمن تقدَّم مِن الأمم، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ فيه دليلًا(2) على أنَّ أفضل العبادات بِرُّ الوالدين، يؤخذ ذلك مِن كون جُرَيْجٍ ما شغله عن إجابة أمِّه إلا شُغله بالعبادة مع(3) ذلك عوقب بذلك الهوان.
          وفيه دليل: على إجابة دعاء الوالدين، يؤخذ ذلك مِن ابتلائه بما دعت عليه أمُّه لَمَّا لم يجبها(4).
          وفيه دليل: على أنَّ صاحب الخدمة إنْ جرى منه أمر يرفق(5) به ولا يكون عقابه(6) مثل غيره، يؤخذ ذلك مِن كون أمِّ / جُرَيج لم ينطلق على لسانها في(7) الدُّعاء بالعقاب إلا برؤية وجوه المومسات، ولولا اللطف(8) به لنطقت(9) في الدُّعاء بوقوع الفاحشة أو سلبِ الإيمان أو الضرب(10) أو القتل إلى غير ذلك.
          وفيه دليل: على أنَّ صاحب الصدق في معاملته مع الله تعالى إن ابتُلِي يُلطَف به، ويُجعَل عاقبته خيرًا ولا تضرُّه الفتن(11)، يؤخذ ذلك مِن كون المولود نطق(12) ببراءته.
          وفيه دليل: على إجابة مولانا سبحانه وتعالى المضطرَّ إذا دعاه(13)، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لمَّا اضطر جريج إليه ╡ في تبرئته ممَّا رُمي به أنطق ╡ له المولودَ(14) بما يدلُّ على ذلك.
          وفيه دليل: على أنَّ صاحب الصدق مع الله تعالى لا تضرُّه الفتن وإن جرت عليه لا تزيده إلا ترفيعًا(15) وخيرًا، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا تعرضت تلك المرأة إلى جريج، والنساء أكبر الفتن على الرِّجال، وقد قال صلعم : «ما تركت بعدي فتنةً هي(16) أضرُّ على الرِّجال مِن النِّساء» عُصم منها ثمَّ ادَّعت عليه حتى هدَّمت صومعته لم يضره ذلك، وجعل الله ╡ له خير مخرج حتى رغبوا أنْ يبنوا له صومعته(17) مِن ذهب، وما ذاك إلا لَمَّا كَبُر قدره عندهم.
          وفيه دليل: على أنَّ(18) النِّساء في بني إسرائيل كنَّ يُصَدَّقن فيما يَدَّعِين على الرِّجال مِن الوطء، ويُلحَق به الولد بغير بيِّنة، ولولا ذلك ما كان يحتاج إلى تبرئته بكلام(19) الطفل، / فإنَّه لو كان في شريعتنا حُدَّت له ثمَّانين حَدَّ الفِرْيَة(20) ولم تُصَدَّق(21) عليه، وقد جاء(22) عن بني إسرائيل أنَّ ذلك(23) كان شأنهم حتى إنَّ الباغية(24) منهم إذا حملت ادَّعت به على مَن شاءت ممن تعرف، وتُلحِق(25) به الولد وتقول له: يا فلان كان(26) بيني وبينك كذا وكذا في اليوم(27) الفلاني ومنك هذا المولود فيَقْبَل قولَها ويُلحِقُه(28) بِنَفسِه.
          وفيه دليل: على أنَّ صاحب الصدق مع مولاه عند الضرورة يطلبُ(29) النصرَ(30) مِن مولاه بخرق العادة بصدقٍ وإدلال على فضله تعالى، وأنَّ الله ╡ يفعل معه ذلك، يؤخذ ذلك مِن إتيان جُرَيْج بعد الركعتين الصبيَّ(31) يسأله مَنْ(32) أبوه؟ فأنطق الله ╡ له المولود لكونه قَصَدَه موقِنًا بقوة(33) الرجاء في فضله تعالى، وقد أوحى الله ╡ في الزبور لداود ◙ : ((قل لبني إسرائيل من ذا الذي سألني فلم أُعْطه؟)).
          وفيه دليل: على أنَّ(34) صاحب الصدق مع الله تعالى عند النوازل لا يجزع ولا يفزع بل يَقوى يقينهُ لثقته بمولاه ╡ ، يؤخذ ذلك مِن كون جُرَيْج لمَّا فُعِل به ما فُعِل(35) لم يَهُلْه(36) قولهم ولا فعلُهم، وقرعَ بابَ مولاه وهو يجرُّ ذيول(37) فخر قوة رجائه في كشف ما به ابتلاه، فأسرع ╡ له بلطفه الجميل يُنطِقُ الطفلَ بكشفِ غُمَّتِهِ ((أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء)) ولذلك قال موسى ◙ حين قال له قومه: {إنَّا لَمُدْرَكُونَ. قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي...(38)} [الشعراء:61- 62] / لقوة رجائه في مولاه، ففلَقَ له ╡ (39) مِن حينه البحرَ تصديقًا لدعواه(40) لأنَّه جلَّ ثناؤه يقول: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي كافيه { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا } [النساء:87].
          وفيه دليل: على أنَّ حقيقة النصر في جميع الأمور إنَّما هي بفضل الله ╡ لا تتوقَّف على سببِ حكمةٍ ولا غيرِها، فتارة تكون مغطاة بأثر الحكمة، وتارة تكون بيد القدرة بارزة لا مغطاة بحكمة كمثل ما نحن بسبيله في قصة عيسى ◙ ومَن ذكر معه في الحديث، فجاء النصر لأمِّ عيسى ◙ ولجريج بإبراز قدرة القادر لا غير.
          وفيه دليل: على أنَّ خرق العادة تكون للأنبياء(41)(42) ولغيرهم، وقد تقدَّم الكلام على الفرق بينهما في ذلك، يؤخذ ذلك ممَّا جرى لعيسى ◙ مِن خرق العادة وهو مِن الأنبياء والرسل، وخرق العادة التي جرت لجريج وجرت للمرأة التي ليست مِن الأنبياء ولا مِن العبَّاد، أعني أنَّ خرق العادة كانت على صفة واحدة لكنَّها في حقِّ الأنبياء تسمَّى معجزة وفي حقِّ الأولياء كرامة.
          وفيه دليل: على أنَّ مِن أدب السُّنَّة الكناية عن الأمور الفاحشة، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (أَتَتْهُ امرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى) والمعنى: طلبت منه إيقاع الفاحشة فكنَى صلعم عن ذلك بقوله (فَكَلَّمَتْهُ).
          وفيه دليل: على أنَّ مِن أدب السنِّة إظهار أهل الخير وإن كانوا قد ماتوا، والسترُ على أهل المخالفات، يؤخذ ذلك مِن كونه صلعم سمَّى العابد باسمه لتشتهر(43) فضيلته، ولم يذكر / اسم المرأة سَترًا عليها، فحاله صلعم يصدِّق مقالَه، لأنَّ مِن مقاله ╕: «المؤمن يحبُّ لأخيه المؤمن ما يحبُّ لنفسه» وكلٌّ منَّا يريد أنْ تُستر عليه(44) زلَّاته، ويحبُّ أنْ يكون قدوة لأهل الخير، وقد نصَّ الكتاب العزيز على ذلك بقوله ╡ : {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74] ولا يكون إمامًا يُؤتَمُّ به في الخير حتى يكون مشهورًا به، فكذلك فعلَ صلعم هنا أشهرَ صاحبَ الخير وسترَ على صاحب الشر، وكذلك في قوله (فَأَتَتْ رَاعِيًا) ولم يسمِّه باسمه مِن أجل الستر عليه.
          ويترتَّب على ذلك مِن الفقه أنَّه إذا علمتَ مِن أحد فِعلَ شرٍّ أنْ تخبر عن ذلك الفعل ولا تسمِّي صاحبه، وأنَّ ذلك ليس بغيبة، وقد ذكر ذلك بعض العلماء إلا أنْ يكون صاحب بدعة، فيتعيَّن(45) عليك شهرته، لأنَّ ذلك مِن باب النصح للمسلمين.
          وفيه دليل: على أنَّ صاحب المعاصي لا حرمة له، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا نَسبت المرأة الفاحشةَ إلى جُرَيْج لم تبقَ له عندهم حرمة وهدموا صومعته وسبُّوه.
          وفيه دليل: على أنَّ المؤمن عند المحن: الصلاةُ جُنَّته، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا فعلوا به ما فعلوا لم يجاوبهم، وتوضأ وأقبل يصلِّي، فأُلهِم(46) لطريقِ الخلاص، وقد قيل: إنَّ الصلاة كهف المؤمن.
          وفيه دليل: على أنَّ أبناء الدنيا وقوفهم مع الخيال الظاهر، وأن أصحاب الاطلاع وقوفهم مع حقيقة الباطن، يؤخذ / ذلك مِن أنَّ أمَّ الصبي التي كانت ترضعه لَمَّا رأت صاحب الشارة(47) تمنَّتْ أنْ يكون ابنها مثله، ولما مُنَّ على الطفل بمعرفة الباطن استعاذ منه، كما أخبر سبحانه وتعالى عن قارون بقوله تعالى: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ(48) قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ. وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:79- 80].
          وفيه دليل: على أنَّ نفوس أهل الدنيا تعاف سوء(49) الحال فيها، وأنَّ أهل الاطِّلاع والتحقيق لا يبالون بذلك إذا كانت السريرةُ حسنة، يؤخذ ذلك مِن كون أم المولود لمَّا رأت سوءَ حال الأَمَة استعاذت بالله مِن أنْ يكون لولدها مثل حالها، ولَمَّا أُعطيَ الصبيُّ الاطلاع على حسن حال باطنها(50) تمنَّى أنْ يكون مثلَها، وكذلك قصة يوسف ◙ مع أخيه لَمَّا اجتمع معه فقال له: نجلس معك ولا نقدر أنْ نفارقك، فقال له: لا يمكن ذلك حتى تصبر بأن تقرَّ على نفسك في الظاهر باسم السرقة، فهان عليه قبح(51) ما نسب إليه في الظاهر لحسن(52) ما أمَّله في الباطن، فجُعِل الصُّواعُ(53) في حِمْله وكان مِن شأنهم ما قَصَّهُ الله ╡ (54) في التنزيل، وقد قيل: في حبِّكَ خلعتُ العِذار(55)،فلا أبالي ما ارتكبتُ فيه من الأخطار(56).
          وفيه دليل: على أنَّ(57) البشرية طبعت على إيثار الأولاد بالخير على نفوسها، يؤخذ ذلك مِن أنَّ المرأة ما طلبت الخير إلا / لابنها، ولا طلبت دفع(58) الشِّر إلا عنه ولم(59) تبالِ بنفسها.
          وفيه دليل: على أنَّ مِن السُّنَّة التشبُّه بأهل الخير، يؤخذ ذلك مِن كون سيِّدنا صلعم لَمَّا أخبر عن رجوع المولود بمَصِّ ثدي أمَّه أخذ صلعم يمصُّ أصْبَعَه تشبُّهًا به، لأنَّه مِن أهل الخير بدليل أنَّ الله تعالى قد أطْلَعَهُ مع صِغَرِهِ(60) على حقيقة غيب ذينِك الشخصين وأنطقه به واختار لنفسه ما هو الأقرب إلى الله تعالى، فتشبَّه(61) صلعم بذلك الطفل لكون حاله يدلُّ على أنَّه مِن أهل الخير إرشادًا لنا إلى ذلك، وقد قيل:
...............                      إنَّ التشبُّهَ بالكِرامِ فَلَاحُ
          وفيه دليل: على فضل أهل الصوفة، يؤخذ ذلك مِن كونهم آثروا جانب الحقِّ ولم يبالوا بظواهر الأمور، وما(62) لقوا في ذات الله تعالى كمثل صهيب وبلال(63) كونهم مسرورين بذلك، وكما أخبر مولانا سبحانه عن امرأة فرعون، وقد قيل(64): طريق الخير فارتكب، وتشبَّه بأهلها، ولا تعدل(65) عن ذلك فتهلك، فطريق(66) القوم خير كله، والتشبُّهُ بالكِرام فَلَاح كله.


[1] في (ج): ((بالكلام)) وفي (م): ((وكلام)).
[2] في (ط): ((دليل)) والمثبت من (ج) و (م).
[3] في (م): ((ومع)).
[4] زاد في (ج): ((دعاءها)).
[5] في (م): ((يوفق)).
[6] في (م): ((عقباه)).
[7] قوله: ((في)) ليس في (ج).
[8] في (ج) صورتها: ((المؤمنات والولا اللطيف)).
[9] زاد في (ج): ((به)).
[10] في (ج): ((والضرب)).
[11] قوله: ((ولا تضره الفتن)) ليس في (ج) و (م).
[12] في (ج) و (م): ((انطلق)).
[13] في (ج): ((إذ دعا)).
[14] في (ج): ((فأنطق سبحانه المولود)).
[15] في (م): ((ترقيا)).
[16] في (ج): ((مني)) ولعلها تصحيف.
[17] في (ج): ((صومعة)).
[18] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[19] في (ج) و (م): ((بكلام)). كالاصل.
[20] في (ج): ((العزيمة)).
[21] في (ج): ((يصدق)).
[22] في (ج): ((حكي)).
[23] في (ج): ((ذاك)).
[24] في (ج) صورتها: ((الاغتة)) ولعله تصحيف.
[25] في (ج): ((ويلحق)).
[26] قوله: ((كان)) ليس في (ج).
[27] في (ج): ((وبينك كذا في المكان)).
[28] في (ج): ((يلحقه)).
[29] في (م): ((فطلب)).
[30] في (ج): ((النظر)).
[31] في (م): ((للصبي)).
[32] في (ج): ((للصبي يسأله ومن)).
[33] في (ج): ((وجوه)).
[34] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[35] قوله: ((ما فعل)) ليس في (م).
[36] في (ج): ((يهوله)).
[37] في (ج): ((مولا ولا يجر ديون)).
[38] زاد في (ج): ((سيهدين)).
[39] في (ج): ((ففلق ╡ له)).
[40] في (م): ((لدعاه)).
[41] في (ج): ((الأنبياء)).
[42] زاد في (م): ((في ذلك)).
[43] في (م): ((لتشهد)).
[44] في (ج): ((يستر على)).
[45] زاد في (م): ((...)) كلمة مكانها طمس كأنها ذلك.
[46] في (ج): ((قبلهم)).
[47] في (ج): ((إشارة)).
[48] في (ج): ((بزينته)).
[49] قوله: ((سوء)) ليس في (ج).
[50] في (م): ((حسن حالها وباطنها)).
[51] في (ج): ((فقبح)).
[52] في (ج): ((بحسن)).
[53] في (ط) و(ج): ((الصاع)) والمثبت من (م).
[54] في (ج): ((ما قصه ╡)).
[55] في (ج) و (م): ((عذاري)).
[56] في (ج): ((الأخصار)).
[57] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[58] في (ج): ((رفع)).
[59] في (م): ((ولا)).
[60] في (ج): ((صغر سنه)).
[61] في (م): ((فتشبهه)).
[62] في (ج): ((ولا)).
[63] زاد في (ج) و (م): ((مع)).
[64] في النسخ: ((وقد قال))، وزاد في (ج): ((من)).
[65] في (ج): ((ولا تعد)).
[66] في (ج): ((وطريق)).