بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على مائة امرأة

          131-قوله(1): (عَنْ رَسُولِ اللهِ صلعم قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ ♂: لَأَطُوفَنَّ(2) اللَّيْلَةَ عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ أَوْ تِسْعٍ وَتِسْعين امرأة كُلُّهُنَّ يَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ، فُرْسَانًا أَجْمَعين(3)...) الحديث. [خ¦2819]
          ظاهر / الحديث يدلُّ على أنَّ أمور الغيب لا يجوز القطع عليها في نجاح(4) ما يُرجى منها، إلَّا مع الاستثناء، والكلام عليه من وجوه:
          الأوَّل: جواز ذكر النِّساء، وذكر الطَّواف عليهنَّ بين الأصدقاء والأصحاب، وكذلك أيضًا ذكر ما يُعزم عليه مِن أفعال الطَّاعات بينهم؛ لأنَّ في الإخبار لهم بذلك(5) تنبيهًا لهم على المبادرة لمثله، وإن كان لم يطلب منهم لكن هذا إنَّما يكون بحسب النيَّات؛ لأنَّ ذكر سليمان ◙ الطَّواف على نسائه بين أصحابه فيه ذلك المعنى على ما سيأتي بيانه بعدُ.
          وفيه دليلٌ على جواز ذكر أفعال الدُّنيا بل(6) إنَّها طاعة إذا أُرِيد بها الآخرة، أو تكون(7) سببًا لأمرٍ أُخروِيٍّ(8)؛ لأنَّ سليمان ◙ ذكر النِّكاح، وهو دنيويٌّ(9)، لِمَا يترتَّب عليه كما ذكر.
          وقوله: (عَلَى مِائَةِ امْرَأَةٍ _أَوْ تِسْعٍ(10) وَتِسْعِينَ_) هذا شكٌّ من راوي الحديث في أيِّهما قال ◙ .
          الثَّاني: فيه دليلٌ على عظيم(11) قدرة الله ╡ ، ومعجزةٌ لسليمان ◙ ، إذ البشر عاجز(12) عن الطَّواف على مائة امرأة في ليلةٍ واحدةٍ، فأظهر(13) الله ╡ قدرته بأن أعطى لسليمان ◙ (14) القوَّة على ذلك، فكان فيها(15) معجزةٌ، وإظهار قدرة، وإبداءُ حكمة، ردًا على مَن(16) ربط الأشياء بالعوائد، فيقول: لا يكون كذا إلَّا مِن كذا، ولا يتولَّد كذا إلَّا مِن كذا، فألقى(17) الله ╡ في صُلْبِ سليمان ◙ ماء مئة / رجل، وكان له ثلاث مئة زوجة وألف سُرِّيَّة، ليظهر(18) خرق العادة، وأنَّها ليست من اللازم.
          لكن هذا أمر قد يسبق(19) إلى بعض(20) الأذهان تفضيل سليمان ◙ على النَّبيِّ صلعم، إذ النَّبيُّ صلعم لم يُعْطَ إلَّا(21) ماءَ أربعين رجلًا، ولم يكن له غير عشر نسوة، فظاهر هذا التَّفضيل، وليس كذلك وإنَّما هو بالعكس، وإن كان الاثنان أنبياء عظماء، لكن للنَّبيِّ(22) صلعم مرتبةٌ(23) في الأفضليَّة لا يساويه(24) فيها غيره.
          بيان ما ذكرناه مِن الأفضليَّة هو أنَّ سليمان ◙ تمنَّى أن يكون(25) مَلِكًا، فقال: {وَهَبْ(26) لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص:35]، فأُعطي الْمُلْكَ على ما قد(27) عُلِم، وأعطاه(28) هذه القوَّة في الجِماع(29)، لكي يتمَّ له الْمُلْك على خرق العادة مِن كلِّ الجهات؛ لأنَّ الملوك أبدًا يتخذون مِن النِّساء بقدر ما أُحلَّ لهم، ويتَّخذون(30) مِن السُّريَّات بقدر ما يستطيعون عليه(31)، وأعطى الله ╡ لسليمان ◙ تلك الخصوصيَّة حتَّى يمتاز بها عنهم، فكان نساؤه مِن جنس مُلكِه الذي لا ينبغي لأحد مِن بعده كما طلب.
          والنَّبي صلعم لمَّا أن خُيِّر هل(32) يكون نبيًّا ملكًا، أبى ذلك(33)، واختار أن يكون نبيًّا عبدًا، فأُعطيه(34) مِن الخصوصيَّة ذلك القدر، لكونه ◙ رضي بالفقر والعبوديَّة فأعطي الزَّائد بخرق العادة في النَّوع الذي اختار، وهو الفقر والعبوديَّة، فكان ◙ / يربط(35) على بطنه ثلاثة أحجار مِن شدَّة الجوع والمجاهدة، وهو على حاله في هذا الشَّأن _أعني: في الجماع_ لم ينقصه شيء(36)، والنَّاس أبدًا إذا أخذهم الجوع والمجاهدة لا يستطيعون على ذلك، وقد قال ◙ (إنَّ الصَّوم له وِجاءٌ) وكان(37) الصَّوم لغيره وِجاءً، وفي حقِّ نفسه المكرَّمة لا ينقصه شيءٌ فهو أبلغ في الكرامة وأظهر في(38) المعجزة.
          الثَّالث: طواف سليمان ◙ على مئة امرأة في ليلةٍ واحدةٍ، يحتمل معنيين:
          (أحدهما): أن يكون الليل في ذلك الزَّمان طويلًا متناهيًا في الطُّول، حتَّى كان يتأتَّى له فيه(39) مِن أجل طوله(40) أن جامع(41) مئة امرأة مع طهوره وتهجُّده ونومه، فإن(42) حملناه على هذا الوجه، فيكون قول النَّبي صلعم : «لَا تَقُومُ السَّاعَةَ حَتَّى يَتَقَارَبَ الزَّمَانُ» على ظاهر لفظه ينقص مِن طول الأيام والليالي(43)، وليس الحمل على هذا الوجه بالقويِّ؛ لأنَّه إذا كان كذلك قلَّ أن يكون اليوم يبقى مِن طول الزَّمان شيءٌ.
          وأمَّا المعنى الثَّاني وهو الأظهر: هو أن يكون الله ╡ أظهر له في ذلك خرق العادة، فيُجامع ويتطهَّر وينام ويقوم، والليل في الطُّول على ما هو اليوم، مثل ما أظهر ╡ مِن خرق العادة لأبيه(44) داود ◙ مِن(45) قراءة الزَّبور، وكان يقرأه بقدر ما تُسْرَج له دابته.
          وهذا قد يوجد اليوم(46) كثيرًا(47) في الأولياء والصَّالحين، يفعلون بالليل والنَّهار(48) / أفعالًا لو اجتمع عليها أضعافهم لَمَا قَدَروا عليها، يشهد لذلك ما حُكي عن بعض الفضلاء أنَّه كان يأتي أهله بليل، ثمَّ يتطهَّر، ثمَّ يقوم بربع القرآن، ثمَّ كذلك، ثم كذلك، إلى أن يختم القرآن قبل طلوع الفجر، فلو اجتمع في هذا الفعل(49) اثنان يقتسمانه(50) بينهم، واشتدَّوا إليه ليلهم(51)، قلَّ أن يقدرا عليه، مع أنَّ هذا السَّيد الذي فعل هذا الفعل قد(52) لا يخلو مِن النَّوم، إذ هو مِن(53) ضرورة البشر.
          وقد حُكي من هذا المعنى كثير عن بعض أهل الصُّوفية(54)، فإذا كان هذا(55) موجودًا في كرامات الأولياء، فكيف به(56) في معجزات الأنبياء ‰؟ فإذا حملناه على هذا الوجه، فيكون قول النَّبي صلعم : «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَتَقَاربَ الزَّمَانُ» محمولًا على هذا(57) المعنى، وليس على ظاهر لفظه، وقد زدنا هذا وضوحًا في الكلام على ذلك(58) الحديث في موضعه مِن الكتاب(59).
          الرَّابع: قوله: (كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِفَارِسٍ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللهِ) فيه دليلٌ على إنواء الخير والتَّسبُّب فيه، بشرط أن يكون ذلك التَّسبب(60) يصدر عنه في جري العادة في تلك الطَّاعة التي تُنوى أو تكون(61) من بعض المحتملات(62) التي تصدر عن ذلك الفعل؛ لأنَّ سليمان ◙ علَّق وجدان الفرسان بالوَطْءِ، والوطء قد يكون منه حَملٌ وقد لا يكون، وإن كان فقد يكون بالإناث دون الرِّجال، وقد يكون بهما معًا(63)، وعلى أن يكون الحمل كلُّه بالرجال قد يكونوا ممن يُطيقون / الحرب ويُحسنون(64) الرُّكوب، وقد يكونون بغير ذلك إلى غير ذلك مِن الوجوه المحتملات.
          فإفرادُ أحدِ الوجوه عن المحتملات(65) كلِّها _وهو: أن يأتي(66) الكل بأولاد ذكور كلُّهم يجاهد(67) في سبيل الله_ تقويةُ(68) رجاءٍ منه ◙ وإبلاغٌ في حُسن النيَّة؛ لأنه قد تقرَّر أنَّ: (نيَّة المؤمن أبلغ مِن عمله)، فهو ينوي ما استطاع أن يعقد النيَّة عليه، فإن قَدِر عليه فَبِها ونِعْمَت، وإن عجز فقد حصل له أجر النيَّة، وقد قال النَّبي صلعم : «الأعمالُ بالنِّيَّاتِ، ولكل ِّامْرِئ ما نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ ورسولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى اللهِ ورسولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيْبُهَا أو امْرَأةٍ يَتَزَوَّجُها فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»، وكذلك فيما نحن بسبيله سواء مَن أتى أهله لشهوته(69) كان له ذلك، ومَن أتاهنَّ لإدخال السُّرور عليهن ولكي يوصل لهن حقًّا واجبًا لهنَّ(70) عليه، ولكي يولد له مولود في الإسلام فيكثر(71) المسلمون بنكاحه، فله بحسب ما احتوت عليه نيَّته.
          ومنه قول عمر ☺: ((إنِّي لأتزوَّج النِّساء وما لي إليهنَّ حاجة، وأطؤهنَّ وما لي إليهنَّ شهوة(72)))، فقيل(73) له: ولِمَ يا أمير المؤمنين؟ قال: ((رجاءَ أن يُخرج الله مِن(74) ظهري مَن يَكْثُر(75) به محمَّد صلعم الأُمم يوم القيامة))، وإنَّما قال عمر ☺ هذا لكي يُقتدَى به فيه(76)؛ لأنَّ انعقاد النيَّة على هذا الحال مِن أفعال البرِّ، وإظهار أفعال البرِّ مع القدرة(77) على إخفائها رياء، لكن لَمَّا(78) أن عارضه مصلحة دينيَّة أعظم له في الأجر مِن / الإخفاء، صرَّح بذلك.
          ومِن هذا الباب كان إخبار سليمان ◙ ، ليبيِّن(79) لمن حضره ما هو المقصود مِن الجماع؟ ولأي شيء يُرَاد؟ فعلى هذا فينبغي(80) للمرء أن يُحسن نيَّته ما استطاع، ويُبالغ في ذلك جهده ثمَّ بعد إبلاغ الجهد، يستسلم لله حين الفعل، فإن أراد ╡ إمضاء ذلك أمدَّه بالعون حتَّى يحصل للمرء ما نوى، وإن أراد غير ذلك(81) فقد حصل له(82) أجر النيَّة.
          ولأجل هذا المعنى أخذ أهل الصُّوفية(83) في المبالغة في إنواء الخير مِن حيث هو خير، لا يردُّهم عن ذلك شيءٌ، حتَّى لقد حُكي عن بعض فضلائهم أنَّه كان مريضًا، فدخل عليه بعض إخوانه، فقال لهم: انووا بنا حجًّا، انووا بنا رباطًا، وعدَّد(84) لهم أنواعًا مِن أفعال البرِّ، فقالوا له(85): كيف وأنت على هذا الحال؟ فقال: إن عشنا وفَيْنا، وإن مِتنا حصل لنا أجر النيَّة.
          ولأجل حسن نيَّاتهم وتتبعها على هذا المعنى، كان بعض فضلائهم إذا أتى الجِماع الذي هو أعظم ما يكون مِن الملذوذات، يأتيه وهو معتبِر(86) في الحكمة في ذلك الفعل على ما هو عليه وما ينتج عنه(87)، فلو كان إتيانه للشَّهوة لَمَا صدر الاعتبار في ذلك الحال.
          فإذا(88) كان هذا حالهم في النِّكاح الذي هو أعظم الملذوذات يرجع(89) لهم بحسن نيَّاتهم مما يتقربون به، فكيف بهم في غيره مِن التَّصرفات؟ لكن بقي على هذا الفصل سؤال: وهو أن يقال قد تقرَّر أنَّ العلماء أفضل مِن غيرهم لقوله ╕: «مَا طَلَبُ العِلْمِ في / الجِهَادِ إلَّا كَبَزْقَةٍ في بحرٍ(90)» وقد قرَّرتم أنَّ سليمان ◙ إنَّما أراد إعظام النيَّة، فكان الأَولى على تلك القاعدة أن ينوي بهم أن يكونوا علماء؟
          والجواب عنه(91): أنَّ العلماء جُعِلوا لتقرير الأحكام وبيانها، والفرسان جعلوا لنصرة الدِّين وإعلاء الكلمة(92)، فطلب سليمان ◙ ما هو المثبت للأصل، مع أنَّه لا ينافي أن يكون الفارس عالمًا بوجه(93).
          الوجه الخامس(94): قوله: (فَقَالَ لَهُ(95) صَاحِبُهُ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ(96))
          فيه دليلٌ على أنَّ(97) الإرشاد لأهل الفضل بالتَّأدب والاحترام؛ لأنَّ سليمان ◙ لَمَّا أن(98) نسي الاستثناء فيما أراد فعله، لم يأمره صاحبه بالاستثناء، وإنَّما تكلَّم بذلك(99)، لكي يتنبَّه(100) سليمان ◙ للاستثناء فيستثني؛ لأنَّ الأمر لهم فيه شيءٌ ما ِمن قلَّة الاحترام، وإنَّما سكت سليمان ◙ عن الاستثناء، لكونه نسي ولم يسمع صاحبَه حين استثنى، وأمَّا لو سمع أو لو لم ينسَ لاستثنى؛ لأنَّ الاستثناء مِن باب تأدُّب العبوديَّة مع الربوبيَّة، والأنبياء ‰ أعلى النَّاس في ذلك الشَّأن، ولكن لَمَّا(101) أن أراد الله ╡ غير ما إليه قصد أو أنساه(102) أن يعلَّق ذلك بالمشيئة.
          السَّادس(103): فيه دليلٌ على إنكار(104) المفضول على الفاضل(105)، وترك الهيبة له مع وجود الحقِّ(106)؛ لأنَّ سليمان ◙ أفضل أهل زمانه؛ لأنَّه رسول والرُّسل أفضل أهل(107) زمانهم، لكن لَمَّا(108) نَسِي الاستثناء لم يكن صاحبه / ليسكت(109) له على ذلك.
          السَّابع(110): قوله ╕: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ╡ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ(111)).
          فيه دليلٌ على أنَّ نَجْح السَّعي(112) المقطوع به أن يجمع المرء فيه بين الحقيقة وأدب الشَّريعة، فإذا فعل ذلك نجح سعيه لا محالة؛ لأنَّه ◙ الصَّادق بغير يمين، فكيف باليمين؟ ولأنَّ سليمان ◙ لَمَّا أن نسي الاستثناء وهو(113) الحقيقة وقد حصَّل أدبَ الشَّريعة، وهو ما نوى من الخير والتَّسبُّبَ فيه وهو النِّكاح مع قوَّة الرجاء في أحد المحتملات، كما ذكرنا ولم يتم(114) السَّعي لأجل نقص تعلُّق الأمر بالحقيقة، فعلى هذا فيحتاج المرء أن يحضر أدب الشَّريعة في الحال والماضي والمستقبل، مع تحقيق التَّعلق بالوحدانيَّة والتَّوكل عليها، والاعتماد على الفضل والمنِّ إن أراد نجح(115) سعيه.
          وقد نبَّه ╡ على هذه الأحوال الثَّلاثة(116) في كتابه، فقال في الماضي: {وَقُلْ(117) عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا} [الكهف:24]، وقال في الحال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وقال في المستقبل:{وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا. إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ...} [الكهف:23- 24]، فهذه الأحوال الثَّلاثة(118) مِن طريق الاعتقاد، ومِن طريق(119) التَّصرُّف في المحسوس على مقتضى الشَّريعة في الأمر الذي(120) يكون التَّصرُّف فيه بصدق وتصديق، فمن وُفِّق(121) لذلك فقد كَمُلَتْ له دائرة السَّعادة، ونجح سعيه في الدُّنيا والآخرة فيما أراد بمقتضى(122) الآي وقَسَم الشَّارع ◙ ، جعلنا الله ممن وُفِّق / لذلك بمنِّه.
          الثَّامن(123): قوله: (فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ إِلَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ رَجُلٍ) ما الحكمة في ذلك؟ ولِمْ لا يمنع الحمل مِن الكلِّ؟ ولَمَّا كان الواحد كان يكون أنثى أو يكون رجلًا كاملًا وقوله صلعم : (لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ)؟
          والجواب عن الحمل لِمَ كان كذلك؟ إن قلنا: إرادة إلهيَّة لا مجال للعقل فيها فلا بحث، وإن نظرنا لقوله صلعم : (لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ(124))، ونظرنا إلى كرامات الرُّسل والأنبياء ‰ على الله ╡ ، بان لنا مِن مجموع ذلك مِن حكمة الحكيم وجه ما(125)، فلكراماتهم عند الله تعالى يزينهم(126) مولاهم بالأدب العجيب والبرِّ مع ذلك في ضمنه، ليكون دالًا على علوِّ منزلتهم فلو لم يقع الحمل مرَّةً واحدةً من الكلِّ، لكان يدخل على سليمان ◙ مِن ذلك تشويش مِن وجهين:
          الأوَّل: أن يقول: لعلَّ وقع لي عند الإخبار في النيَّة [شائبة]] ما وهم من ذلك معصومون، فلحقه(127) الخوف خيفة أن يكون قد رُفعت عنه العصمة، وهذا تشويشٌ كبيرٌ(128)، أو يقول: لعلَّ وقع منِّي في ايقاع النِّكاح استعجال حتَّى لم يأتِ على الوجه الذي قد أحكمته حكمة الحكيم، أن يكون معه الحمل، فيكون الخوف هنا لأن تكون صفة البشريَّة غلبت على تصرُّفه، وهذا في حقِّهم أيضًا ممنوعٌ، فجاء الحمل نفا هذا، ولو جاءت بأنثى لكان هذا دليلٌ يفرع(129) / مَن ليس في مقامهم لأنَّه ضدُّ ما عزم عليه، وتلك العزيمة طاعة وضدُّها دال على عدم القبول.
          وكونه لم يكن تامَّ الخلقة(130)، مِن أجل ما نقص مِن الأسباب المبلغة لِمَا كان أراده، وهو قوله: إن شاء الله، فلمَّا كان الاستثناء وهو زبدة الأمر، لم يقع منه شيءٌ لم يقع مِن الزبدة المذكورة التي مِن أجلها كان النِّكاح شيء جزاء وفاقًا، فظهرت الإجابة بقدر الأسباب، وظهرت الحكمة بحقيقة فائدة الاستثناء، وظهر الأدب بحقيقة الربوبيَّة، فنسي هنا لتتبين(131) هذه الثَّلاثة الأحكام، كما قال سيدنا صلعم : «إنما أنسى أو أُنَسَّى لأَسُنَّ»، لأنَّهم السَّادة الكرام الذي على أيديهم أجرى الله ╡ خيراته للأنام(132).
          وأمَّا قوله ╕: (وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فُرْسَانًا أَجْمَعُونَ(133)) يمينه ◙ تأكيدٌ في الإبلاغ؛ لأنَّه هو الصَّادق بلا قسم فكيف بالقسم؟ وإخباره ◙ بأنَّه(134) (لو قال: إن شاء الله)، إثبات تحقيق(135) فائدة حكم الاستثناء في بلوغ آمال مَن استعملها، فيما يرجوه مِن الفائدة فيما يتسبَّب(136) فيه في(137) المستقبل أو الحال.
          وفيه مِن الفقه: أنَّ الأشياء لا تمشي إلَّا على ما شاءتها(138) حكمة الحكيم للرَّفيع(139) والوضيع، ومَن أراد أمرًا بخلاف ذلك لم يمشِ له ذلك، وفي ذلك زيادةٌ للرُّسل ‰ وتأكيدٌ(140) في حقِّهم؛ لأنَّهم الذين أُرسلوا بالحكمة(141) وهم أهل الحقيقة.
          ويترتَّب عليه مِن الفائدة(142) النَّظر في العلم بما يحتاج المرء إليه(143) / في عمله قبل الدُّخول فيه. والله الموفق للصواب(144).


[1] في (م): ((عن أبي هريرة)).
[2] في (ط): ((لأطوف)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] قوله: ((أَوْ تِسْعٍ وتسعين امرأة كُلُّهُنَّ...فرساناً أجمعين)) زيادة من (م) على النسخ. و قوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[4] في (ج) و(م) و (ل): ((نجح)).
[5] في (ج): ((في ذلك))، وقوله: ((بذلك)) ليس في (م).
[6] قوله: ((بل)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[7] في (ل): ((يكون)).
[8] في (ج) و (م): ((أخراوي)).
[9] في (ج) و (ل): ((دنياوي)).
[10] في (ج): ((وتسع)).
[11] في (ل): ((عظم)).
[12] في (ج): ((العاجز)).
[13] في (ل): ((فإظهار)).
[14] زاد في (م): ((من)).
[15] قوله: ((فيها)) ليس في (م).
[16] قوله: ((من)) ليس في (م).
[17] في (م): ((وألقى)).
[18] في (ل): ((لنظهر)).
[19] في (ج): ((الأمر قد سبق)).
[20] في (م): ((سبق لبعض)).
[21] في (ج) و(م): ((غير)).
[22] في (ج) و(م): ((النبي)).
[23] في (م): ((مرتبته)).
[24] في (م): ((لا تساويه)).
[25] زاد في الحاشية (ل): ((له)).
[26] في (ل): ((هب)).
[27] قوله: ((قد)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[28] في (ط): ((أعطيه)) وفي (ل): ((وأعطيه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((بالجماع)).
[30] في (ل): ((يحدثون من النسل بقدر ما أجل لهم ويتحدثون)).
[31] قوله: ((عليه)) ليس في (م)، وبعدها في (ج) و(م) و (ل): ((فأعطى)).
[32] في (م): ((خير بين أن)).
[33] في (ج): ((أو ذلك)).
[34] في (م): ((فأعطاه)).
[35] في (ل): ((فكان يربط ◙)).
[36] في (م) و (ل): ((شيئاً)).
[37] في (ج) و(م): ((في الصوم أنه له وجاء فكان)) وفي (ل): ((فكان)).
[38] قوله: ((الكرامة وأظهر في)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] في (م): ((حتى يأتي له)).
[40] قوله: ((من أجل طوله)) ليس في (ل).
[41] في (ج) و(م) و (ل): ((يجامع)).
[42] في (م): ((وإن)).
[43] في (م): ((الليالي والأيام)).
[44] في (م): ((لنبيه)).
[45] في (م) و (ل): ((في)).
[46] قوله: ((اليوم)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[47] في (ج) و(م): ((كثير)).
[48] في (ل): ((وبالنهار)).
[49] قوله: ((في هذا الفعل)) ليس في (م).
[50] في (ل): ((يقتسمونه)).
[51] في (ج): ((وأسندا إليه ليلهما))، وفي (م): ((بينهما واشتدا إليه ليلهما)).
[52] قوله: ((قد)) ليس في (م).
[53] قوله: ((من)) ليس في (م).
[54] في (ل): ((الصوفة)).
[55] قوله: ((هذا)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[56] في (م): ((يكون)).
[57] قوله: ((هذا)) زيادة من (م) على النسخ.
[58] في (م): ((هذا)).
[59] قوله: ((في موضعه من الكتاب)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[60] في (ج) و(م) و (ل): ((السبب)).
[61] في (ج): ((التي ينوي أو يكون))، وفي (م): ((الذي ينوي أو يكون)) وفي (ل): ((أو يكون)).
[62] في (ج): ((المخيلات)).
[63] في (ل): ((جميعا)).
[64] في (م): ((ويطيقون)).
[65] قوله: ((فإفراد أحد الوجوه عن المحتملات)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[66] في (ط): ((تأتين)) وفي (ل): ((يأتين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[67] في (ج): ((بالأولاد ذكور كلهم يجاهدون))، وفي (م): ((كلهن يجاهدون)).
[68] في (ج) و (ل) : ((بقوته)).
[69] في (م): ((بشهوة)).
[70] في (ج) و(م): ((ومن أتاهم لإدخال السُّرور عليهم ولكي يوصل لهم حقًّا واجبًا لهم)).
[71] في (ل): ((فتكثر)).
[72] في (ط): ((إنِّي لأطأ النِّساء ومالي إليهنَّ شهوة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[73] في (ل): ((قول عمر إني لأطأ النساء ومالي إليهن شهوة فقيل)).
[74] في (ج): ((يخرج من)).
[75] في (ل): ((أن يخرج الله من ظهري ما يكثر))، وفي (ج) و(م): ((رجاء أن يخرج من ظهري من يكثر)).
[76] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[77] قوله: ((مع القدرة)) ليس في (م).
[78] قوله: ((لما)) ليس في (م).
[79] في (ج): ((ليتبين)).
[80] في (م): ((ينبغي)).
[81] زاد في (م): ((أمده بالعون))، و بعدها في (ل): ((وقد)).
[82] قوله: ((له)) ليس في (م).
[83] في (ل): ((الصوفة)).
[84] في (ل): ((وعد)).
[85] قوله: ((له)) ليس في (ج).
[86] في (م): ((متغير))، وقوله: ((بعدها)) ليس في (م).
[87] في (م): ((عليه)).
[88] في (م): ((فلما))، وقوله بعدها: ((هذا)) ليس في (م).
[89] في (م): ((الذي أعظم الملذوذات رجع)).
[90] في (ط) و (ل): ((طلب العلم في الجهاد كبزقة في البحر)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[91] قوله: ((عنه)) ليس في (ج) و(م).
[92] في (ل): ((كلمته)).
[93] في (ج): ((بوجه)) زيادة من (ج) على النسخ.
[94] في النسخ: ((السادس)) والمثبت هو الصواب والله أعلم، وقوله: ((الوجه)) ليس في (ج).
[95] قوله: ((له)) ليس في (م).
[96] قوله: ((فَلَمْ يَقُلْ إِنْ شَاءَ اللهُ)) ليس في (م).
[97] قوله: ((أن)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[98] قوله: ((أن)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[99] زاد في (م) و (ل): ((حكاية)).
[100] في (ج) و (ل): ((ينتبه)).
[101] في (م): ((لكن ولما)).
[102] في (ج): ((إنساؤه))، وقوله: ((أو)) ليس في (م) و (ل).
[103] في النسخ: ((السابع)) والمثبت هو الصواب والله أعلم.
[104] في (ج): ((تبيين)) ويحتمل: ((تنبيه)) كما في (م).
[105] في (م): ((للفاضل)).
[106] قوله: ((وترك الهيبة له مع وجود الحقِّ)) ليس في (ج) و(م).
[107] قوله: ((أهل)) ليس في (م). وفي (ج) و (ل): ((والرسول أفضل أهل زمانه)).
[108] زاد في (م) و (ل): ((أن)).
[109] في (ل): ((لسكت))، وقوله بعدها: ((له)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[110] في النسخ: ((الثامن))، والمثبت هو الصواب والله أعلم.
[111] في (ل): ((أجمعين)).
[112] في (ج): ((الحق)).
[113] في (م): ((وهي)).
[114] في (ل): ((لم ينجح)).
[115] كذا في النسخ: ((نجح)).
[116] في (ط) و (ل): ((الثلاث)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[117] في (م) و (ل): ((قل)).
[118] في (ط) و (ل): ((الثلاث)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[119] قوله: ((الاعتقاد ومن طريق)) ليس في (ج).
[120] في (م): ((في التي)).
[121] في (ج): ((وقف))، وفي (م): ((وفق الله)).
[122] في (م): ((بتضمن)).
[123] في (ط) و (ل): ((التاسع)) والمثبت هو الصواب والله أعلم.
[124] في (ل): ((أجمعين)).
[125] قوله: ((ما)) ليس في (ل).
[126] في (ل): ((يربهم)).
[127] في (ل): ((فيلحقه)).
[128] في (ل): ((كثير)).
[129] في (ل): ((لهذا دليل يفزع)).
[130] في (ل): ((الخلق)).
[131] في (ل): ((لتبين)).
[132] قوله: ((الثَّامن: قوله: فَلَمْ يَحْمِلْ مِنْهُنَّ...أجرى الله ╡ خيراته للأنام)) ليس في (ج) و(م).
[133] قوله: ((فرساناً أجمعون)) ليس في (ج) و(م) و (ل).
[134] في (ج): ((لأنه)).
[135] في (م): ((إتيان لتحقيق)) و في (ج): ((لتحقيق)).
[136] في (ط) و(ل): ((يسبب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[137] في (ج): ((من)).
[138] في (ج) و(م): ((اقتضتها)).
[139] في (م): ((بالرفيع)) وفي (ل): ((للترفيع))، و بعدها في (ل): ((والوضع)).
[140] في (ل): ((وتأكد)).
[141] في (ل): ((للحكمة)).
[142] قوله: ((وتأكيدٌ في حقِّهم، لأنَّهم الذين أُرسلوا بالحكمة وهم أهل الحقيقة. ويترتَّب عليه من الفائدة)) ليس في (م).
[143] في (م): ((إليه المرء)).
[144] قوله: ((للصواب)) زيادة من (م) على النسخ، وفي (ل): ((قبل الدخول فيه وبالله التوفيق)).