بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر

          190- قوله صلعم : (لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ الذِينَ مِن قَبْلِكُمْ...) الحديث. [خ¦3456]
          ظاهر الحديث يدل على اتِّباع هذه الأمَّة سنَنَ اليهود والنصارى، والكلام عليه من وجوه:
          منها: أنْ يقال: ما معنى اتباعهم؟ وفيما(1) يكون الشبه مِن سَنَنِهم؟ هل(2) على العموم أو في بعضها؟ وإن كان في بعضها فما هو؟ وما معنى شبرًا بشبر وذراعًا بذراع؟
          فأمَّا الجواب عن الأوَّل فقد يكون (سنَنَهم) بمعنى طريقهم، لأنَّ السُّنَّة بمعنى الطريقة كقوله تعالى: {سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ(3)} [غافر:85] أي: الطريقة التي عادته ╡ لا يخلفها لهم ولا فيهم.
          وأمَّا الجواب على (سنن مَن قبلكم) هل على العموم في جميع طريقهم(4) أو على الخصوص؟ احتمل لكن الظاهر العموم بدليل الحديث نفسه بقوله(5) ◙ : (حَتَّى لَوْ(6) سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ) وأمَّا مِن خارج فقد جاءت أحاديث كثيرة تبيِّن ذلك، فإنَّ مِن طرق(7) مَن تقدَّم اختلافهم(8) كما أخبر بذلك صلعم في أمَّته، وهو قوله صلعم : «افترقت بنو إسرائيل على اثنين وسبعين(9) فرقة، وستفترق(10) أمَّتي على ثلاثة(11) وسبعين فرقة، كلُّها في النار إلا واحدة».
          ومنها أنَّهم بدَّلوا الأحكام، وقد أخبر صلعم بذلك في / أمَّته حيث قال صلعم : «ويعود الحكم مَغرَمًا»، وقال ◙ : «تُحَلُّ عُرى(12) الإسلام(13) عُروةً عُروةً، كلَّما حلُّوا عروة تشبَّثوا بالتي تليها(14) فأوَّل عروة يحلُّونها(15) الأحكام، وآخر عُروة يحلُّونها الصلاة»، أو كما قال صلعم.
          ومنها التحاسد بينهم، وقد أخبر صلعم بذلك عن(16) أمَّته بقوله ◙ : «يأتي في آخر الزمان أقوام أصدقاء العلانية أعداء السريرة» وما كان فيهم مِن نقص الكيل(17) والربا وعمل قوم لوط والكذب والمناكر فقد ظهرت في هذه الأمَّة، وما كان مِن التكالب على الدنيا والفساد في الأرض فقد ظهر أيضًا، وما كان فيهم مِن الارتداد بعد الهدى قد أخبر به(18) صلعم أنه سيكون في هذه الأمَّة، وهو قوله ╕ عند ذكر(19) الفتن: «يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا ويمسي كافرًا(20) ويصبح مؤمنًا يبيع دينه بعَرَض مِن(21) الدنيا» ولو لم تكن فيهم إلا رِدَّة الدَّجَّال لكانت كافية وهي واقعة حقًا.
          وكلُّ ما كان فيهم ممَّا يشبه هذه(22) إذا تَتَبَّعْتَها تراها قد ظهرت، أو قد أخبر عنها الصادق صلعم فهي ستظهر لا محالة أعاذنا الله مِن الجميع(23) بجاهه عند الله صلعم (24).
          وما كان مِن المسخ(25) فيهم فقد أخبر الصادق(26) صلعم أنَّه في هذه(27) الأمَّة إلَّا أنَّه في القلوب فببركته صلعم أنه(28) ستر على أمَّته تشوُّه(29) الصورة الظاهرة وبقي في القلوب، / كما أخبر به ◙ ، فترى الشخص صورته باقية وهو قد مسخ قلبه صورة كلب، وهم أصحاب(30) الشُّرط والجنادرة وشبههم، تراهم طول يومهم يروِّعون النَّاس ويعيِّطون في وجوههم. ومنهم مَن يمسخ قلبه صورة خنزير وهم أهل القذارة والبلادة، فهكذا تتبع بنظرك صفة كلِّ شخص في خلقه، تستدلُّ بذلك على مَسخ قلبه ما هو.
          وقد يبقى متحيرًا لا مسخ في قلبه إلا أنَّ قلبه قد مات، وقد أخبر بذلك الصادق صلعم بأنَّه: «يأتي زمان يموت فيه قلب المرء كما يموت بدنه» أو كما قال ╕، لأنَّ القلب إذا لم تبقَ فيه تلك الحرارة الغريزية حتى يفقه مصالحه فهو ميت، وقد(31) يكون موته حقيقيًا والله أعلم، والقدرة صالحة أنْ يكون حسيًا أو يكون معنويًا، فإنَّه إذا لم ينتفع بقلبه في النوع الذي أريد منه وتوالت عليه الشهوات حتى لا يرى إلا هي فذلك موت، لأنَّ الفائدة التي في حياة القلب(32) معدومة عنده، ولذلك شبَّه صلعم الذاكر لربه بالحيِّ والغافل بالميت.
          واحتمل أنْ يكون موته حِسِّيًا كيف شاء القادر سبحانه وتعالى، كما يَيْبَسُ عضو من أعضاء الشخص مثل يده أو رجله أو غيرهما مِن الجوارح وباقي بدنه صحيح والقدرة(33) صالحة.
          ومِن سَنَن مَنْ قبلَنا(34) أنهم بدَّلوا(35) بعض كتبهم كما أخبر الله عزَّ(36) وجلَّ عنهم، / بقوله(37) تعالى: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ(38)} [النساء:46] وقد أخبر ╡ عن هذه الأمَّة بمثل هذا في قوله تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] والآي والأحاديث في هذا كثيرة، فيكون فائدة الإخبار بهذا الحديث التحرُّز(39) عن مثل هذا نُصحًا مِنه صلعم لأمته(40) واختصارًا في اللفظ وإبلاغًا في الإنذار، لأنَّ الآي والأحاديث في هذا كثيرة كما قدمنا وكثير(41) مِن النَّاس لا يعرفها، وإن عرفها لا يقدر أنْ يُحصِيَها، فجاء هذا الحديث مِن أبدع(42) البلاغة في الإنذار والتحذير عن كلِّ ما تضمَّنته(43) الآي والأحاديث، فجزاه الله عنا أفضل ما جزى نبيًا عن أمَّته، وجعلنا مِن صالحي أمَّته بمنِّه.
          وأمَّا قوله ╕: (شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ) فمعناه أنَّكم لا تتركون منها شيئًا إلا فعلتموه زيادة بيان كما ذكرناه آنفًا.
          وكذلك قوله ◙ (حَتَّى لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ) مبالغة في الاتِّباع.
          وفيه دليل: على الإخبار بالعامِّ والمراد به الخاصُّ، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الذِينَ مِن قَبْلِكُم) وهو عام، ولم يَرِد ممَّن قبلنا إلا قومًا مخصوصين وهم اليهود والنصارى.
          وفيه دليل: على مراجعة العالِم إذا بقي في كلامه على السامع احتمال، يؤخذ ذلك مِن قول الصحابة رضوان الله عليهم له صلعم : (الْيَهُودَ / وَالنَّصَارَى(44)؟) سؤال استرشاد(45) وتثبُّت، فإنَّ حسن السؤال نصف العلم، فاستفهموا لزوال(46) الاحتمال.
          وفيه دليل: على جواز مخاطبة البعض بلفظ الكل، يؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (لتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ الذِينَ مِنْ قَبْلِكُم) وهو ◙ يخاطب الحاضرين وهم البعض مِن أمَّته وخطابه ◙ لجميع(47) الأمَّة.
          وفيه دليل: على جواز أنْ يضاف للشخص ما يفعله مَن هو مشترك معه في وصفٍ ما مِن الأوصاف، وإن كان المخاطب ليس فيه مِن ذلك الفعل شيء(48)، يؤخذ ذلك مِن خطابه صلعم لهؤلاء السادة، وهم بالقطع ليس فيهم مِن هذه الأوصاف _التي ظهرت بعدهم ولا مِن التي لم تظهر لنا(49) بعدُ_ شَيء(50)، فلما كان اسم (الأُمَّة) يقع عليهم خاطبهم بذلك مِن أجل متضمَّن الاسم.
          وفيه دليل: على أنَّ مِن حسن الكلام الاختصار(51) في اللفظ إذا فهم المعنى يؤخذ ذلك من جوابه صلعم لهم حين قالوا: (الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟)، قال: (فَمَنْ؟) ولم يزد على ذلك شيئًا، لأنَّهم فهموا بهذه الإشارة أنَّه ╕ لم يُرِد غيرهم واختصر بها طول(52) الكلام والتطويل وفي ذلك مِن الحسن كلُّ بديع.
          وفيه دليل: على التحذير عن حال(53) المجاهرين بالمناكر وليس ذكرهم بذلك على هذا الوجه بغيبة، يؤخذ ذلك مِن تحذيره ◙ / عن عيوب أهل الكتاب وفيهم مِن المسلمين المتَّبعين بمقتضى(54) شرعهم كثير، فلمَّا أظهروا المناكر لم يكن ذكرهم بها والتحذير عنها غِيبة، ومما يؤيِّد ذلك ويقويه قوله ◙ : «لا غِيبة في فاسق».
          وفيه دليل: على كثرة شَيْن العاصي(55)، يؤخذ ذلك مِن سوء الثناء عليهم وتحذيره صلعم عنهم وعن طريقهم(56) بعد موتهم، فشؤم المعصية أورثت سوء الثناء(57) كما أنَّ بركة الطاعة أورثت حسن الثناء في الحياة وبعد الموت ولذلك قال: إنَّ أهل الخير وإن ماتوا أحياءٌ بين الأنام، فإن ذِكرَهم بحسن الثناء أحيا لتلك الرِّمَم، يحبُّهم قلبي والدعاء لهم في كلِّ حين حسن.


[1] في (ج) و (م): ((وفيما ذا)).
[2] في (ط): ((سنتهم)) والمثبت من النسخ الأخرى، وبعدها في (ج): ((هل هو على)).
[3] قوله: ((في عباده)) ليست في (ج).
[4] في (ج) و (م): ((طرقهم)).
[5] في (ج): ((لقوله)).
[6] في (ج): ((إذا)).
[7] في (ج): ((طريق)).
[8] قوله: ((اختلافهم)) ليس في (ج).
[9] في (ج): ((وسبعون)).
[10] في (م): ((وستفرق)).
[11] في (ج) و (م): ((ثلاث)).
[12] في (ج): ((عن)).
[13] قوله: ((تحل عرى الإسلام)) ليس في (م).
[14] في (ج): ((يليها)).
[15] في (م): ((تحلوها)).
[16] في (ج) و (م): ((عن)). كالأصل.
[17] قوله: ((فيهم من نقص الكيل)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى. وبعدها في (م): ((والرياء)).
[18] قوله: ((به)) ليس في (ج) و (م).
[19] قوله: ((ذكر)) ليس في (ج).
[20] قوله: ((ويمسي كافرا)) ليس في (م).
[21] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[22] في (ج) و (م): ((هذه)).
[23] في (ج): ((من ذلك)).
[24] قوله: ((الجميع بجاهه عند الله صلعم)) ليس في (ج).
[25] صورتها في (م): ((المسيح)).
[26] قوله: ((الصادق)) ليس في (ج).
[27] في (م): ((فقد أخبر ◙ في هذه)).
[28] قوله: ((أنه)) ليس في (ج) و (م).
[29] في (م): ((شوه)).
[30] قوله: ((أصحاب)) ليس في (ج) و (م).
[31] زاد في (ج): ((لا)).
[32] في (ج) و (م): ((القلوب)).
[33] في (ج) و (م): ((القدرة)).
[34] في (ج): ((قولنا)).
[35] في (ج) صورتها: ((أبداوا)).
[36] في (ج): ((كما أخبر عز)).
[37] في (ج) و (م): ((بقوله)). كالاصل.
[38] في (م): ((من بعد مواضعه)).
[39] في (ج) صورتها: ((التحوز)).
[40] في (ج): ((عليه)).
[41] في (ج): ((فكثير)).
[42] في (م): ((إبداع)).
[43] في (ج): ((تضمنه)).
[44] في (ج): ((والنصار)).
[45] في (ج): ((إرشاد)).
[46] في (ج): ((الزوال)) وفي (م): ((بزوال)).
[47] في (ج): ((بجميع)).
[48] في (ج): ((شيئا)).
[49] في (ج): ((أنا)).
[50] في النسخ: ((شيئًا)) والمثبت هو الصواب وهو موافق للمطبوع.
[51] في (ج) و (م): ((الاختصار)). كالاصل.
[52] في (ج) و (م): ((طول)). كاالاصل.
[53] في (ج): ((ذلك)).
[54] في (ج): ((المتبعين المسلمين لمقتضى)) وفي (م): ((لمقتضى)).
[55] في (ج): ((المعاصي)).
[56] في (م): ((طريقتهم)).
[57] زاد في (ج): ((عليهم)).