بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا

          234- قوله: (بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِيِّ صلعم لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ إِلَّا أَخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا مُعَاذُ...) الحديث. [خ¦5967]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ يَدُلُّ على حكمين: (أحدهما): الإعلام بحقِّ الله تعالى على عباده، و هو أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا، و(الآخر): الإخبار(1) أيضًا أنَّ حقَّ عباده سبحانه(2) إذا فعلوا ذلك أن لا يعذِّبهم. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يقال: ما الفرق بين حقِّه جلَّ جلاله وحقِّ العباد؟
          فالجواب: أمَّا حقُّهُ سبحانه فهو واجب لوجوه:
          منها: لذاته الجليلة.
          ومنها: لأمره ╡ بذلك.
          ومنها: لِمَا لَهُ ╡ علينا مِن النِّعم والإحسان التي(3) لا يحصى عدُّه.
          وأمَّا حقُّ العباد عليه ╡ إذا فعلوا ذلك فحقُّ تفضُّلٍ منه عليهم لا وجوب عليه لازم، فإنَّه جلَّ جلاله لا(4)حقَّ عليه لأحدٍ لازم، هذا مذهب أهل السُّنَّة.
          والذي تعطيه الأدلة الشرعية والعقلية خلافًا للقدَرية التي هي مجوس هذه الأمَّة، لأنَّهم يقولون بزعمهم: إنَّ على الله حقًّا واجبًا(5) أنَّ مَن عبَدَه أن(6) لا يعذبه، وكيف يكون لعبد على مولاه / حقٌّ لازم وهو كله له؟ هذا ينفيه العقل.
          وقد أوحى الله ╡ إلى موسى ◙ أنْ «بشِّر العاصين وحذِّر الطائعين، قال: إلهي، وكيف أفعل ذلك؟ قال: بشّرِ العاصين أنَّ رحمتي وَسِعَت كلَّ شيءٍ وحذِّر الطائعين إن أقمت عليهم عدلي هَلَكوا(7)» مَن ذا الذي يطيق عدلَه؟ و كيف يكون لأحد خلاص إذا أقيم عليه؟ ثمَّ كيف يكون للطائع حقُّ وجوب عليه(8) سبحانه؟! وتوفيقه سبحانه ╡ إيَّاه للطاعة نعمة عليه يستوجب الشكرَ عليها: {بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] والمحروم أعمى البصيرة لا يرى إلا مِن حيث حرمانه.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ: على تواضعه ◙ ، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن إرداف معاذ خلفه.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على جواز ركوب اثنين وأكثر على الدابة إذا طاقت ذلك، يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن ركوب معاذ خلفه ◙ . و قد جاء أنَّه صلعم ركب وجعل(9) الحسن والحسين معه أحدهما أمامه والآخر خلفه.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ(10) على مَن يكره ذلك ويعيبه على أهل المناصب، و الحُجَّة عليه فِعل(11) خير البَرِيَّة صلعم.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ نداء الشخص باسمه أرفع ما نودي، / به يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِن قوله صلعم : (يَا مُعَاذ) ولوكان النِّداء بغير الاسم أرفع لكان صلعم يفعلُه. نعَمْ إنَّ الكنى إذا كانت على الوجه المشروع جائزة، وبين(12) الجائز والأرفع فَرق بَيِّن.
          وَفِيْهِ دَلِيْلٌ على أنَّ نداء الشخص باسمه قبل إلقائك العلم إليه: مِن أدب العلم، وإن لم يكن معكما ثالث، وفي ندائك إياه قبلُ مِن الفائدة إحضارُ ذهنه إليك ليعي ما تُلقيه إليه، لأنَّ الأذهان قد يطرقها فِكرة فتكون بها مشغولة فلا تعي كلَّ ما يلقى إليها.
          وفي تكراره ◙ نداءه ثلاثًا تأكيدٌ في حضور ذهنه، وإشعارٌ بأنَّ الذي يُلقى إليه له بال، لأنَّه ◙ كانت سنَّته أنَّ كلَّ شيء له بال أعاده ثلاثًا.
          و يؤخذ مِن إبطائه ◙ بين النداءَيْنِ أنَّ مِن سُنَّة إلقاءِ العلوم الوقارَ والتؤدة(13).
          وهنا بحث وهو(14): لِمَ زاد في الثالثة: (ابْنَ جَبَل)؟
          فالجواب: إنما هي إشارة إلى أنَّ هذه الثالثة آخر النداء، فاسمع ما يُلقى إليك لأنَّ زيادة(15)(ابْنَ جَبَل) هو الكمال في التعريف، و إذا كمل الشيء فقد تمَّ، ويزيد ذلك المعنى بيانًا قوله ◙ آخر الحديث: (يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَل وَهَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ العِبَادِ عَلَى اللهِ إِذَا فَعَلُوهُ) فإنَّ نداءه ◙ له آخرُ واحدة فناداه بأكمل المعرفة.
          وفيما أبديناه دليل على ما أعطاه الله ╡ مِن الفصاحة / والإعجاز في كلامه ◙ الذي لا تقدر أن ترى فيه زيادة إلا ولها فوائد جَمَّة.
          وجواب معاذ له صلعم بقوله(16): (لَبَّيْكَ رَسُولَ الله وسَعْدَيكَ) مِن الجواب الخاصِّ به صلعم بدليل أنَّه لم يكن الصحابة يفعلون ذلك بينهم، ولا هو صلعم فعل ذلك معهم، فدلَّ على أنَّ ذلك مِن الخاص به ◙ ، وقد نصَّ العلماء على جواب الرجل لمن ناداه بقوله: (لبَّيك) أنَّه مِن السَّفه(17)، لأنَّ هذه لفظة جعلت مِن جملة شعائر الحج، وكلُّ ما جُعِل مِن شعائر الدِّين فينبغي توقيره وتعظيمه فإنَّ الله تعالى يقول: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]
          وقد صار(18) بعض النَّاس اليوم يجاوبون بها بعضهم بعضًا، ويجعلون ذلك مِن الأدب والنُّبل، وما ذاك إلا لقِلَّة التقوى وعدم معرفة السُّنة! هيهات كيف يتأدَّب مِن لا يعرف(19) الأدب؟
          وفي قول معاذ: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) دليل على أنَّ مِن أدب العلم أن يُرَدَّ إلى أهله.
          وفي قول سيِّدنا صلعم : (هَلْ تَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى عِبَادِهِ؟) دليل على إلقاء العالم المسائلَ(20) على تلامذته، وحينئذ يبيِّن لهم ذلك لأنَّ في ذلك، مِن الفائدة إحضار الذهن لقبول العلم، وفي تعليمه صلعم معاذًا مِن غير سؤال منه له صلعم دليل لمن / يقول: إنَّ للعالم أن يعلِّم دون أن يُسأل، لأنَّ هذه مسألة اختلاف(21) بين العلماء.
          وفي فصله ◙ بالمَشْيِ(22) ساعةً بين المسألتين دليل على أنَّ النُّجحَ في تحصيل العلوم التفرقةُ بين المسائل، وفي ذلك مِن الحكمة أنَّ المسألة إذا تباعدت مِن الأخرى يبقى الخاطر معمورًا بالأولى(23) حتى ترسخ فيه ثمَّ تأتي الثانية كذلك والتي بعدها كذلك إلى غاية ما يتناهى الحكم.
          وقد أخبرني بعض مشايخي وكان ممن أُجمِع على فضله أنَّه حين اشتغاله على شيخه كان بعض الطلبة الذين يشتغلون معه على الشيخ، وكان فيه خير وكان يشتغل بالسبب أنَّه إذا حضر المجلس ووعى مسألة واحدة قام وخرج إلى دكَّانه فأقلق ذلك بعضَ الطلبة فسألوه(24) عن ذلك، فقال لهم: إذا وعيت مسألة واحدة بقيت يومي كله في الدكَّان أردِّدها على خاطري فتثبت لي، وإذا سمعت منها عدةً كلُّ واحدة تُنسيني صاحبتها، فبلَّغوا خبره إلى(25) الشيخ فأعجبه ذلك، وقال للغير ممَّن تكلَّموا: حاسبوا أنفسكم على كثرة سماعكم للمسائل على مسألة واحدة في اليوم، فلم يقدروا على ذلك.
          فسبحان مَن وَفَّق أهل السعادة إلى اتِّباع السنة في الفعل وإن جهلوها بالعلم، لأنَّ توفيق هذا المبارك الذي ذكرنا هداية مِن الحقِّ(26) ليس إلا، وقد نصَّ أهل التوفيق على أنَّ قِلَّة / العمل مع الدوام خير مِن كثرته مع الانقطاع، وقد قال صلعم : «أحبُّ العمل إلى الله أَدْوَمُه، وإنْ قَلَّ» والكلام على قوله صلعم : (أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا) قد تقدَّم الكلام عليه(27) في حديث البيعة أوَّلَ الكتاب بما فيه شفاء.


[1] في (ج): ((والإخبار)) والمثبت من (م).
[2] زاد في (م): ((عليه)).
[3] في (م): ((الذي)).
[4] قوله: ((لا)) ليس في (ج) والمثبت من (م).
[5] في (م) و (ج): ((حق واجب)) ولعل المثبت هو الصواب.
[6] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[7] قوله: ((هلكوا)) ليس في (ج) والمثبت من (م).
[8] قوله: ((عليه)) ليس في (ج) والمثبت من (م).
[9] زاد في (م): ((معه)).
[10] في (م): ((رد)).
[11] في (ج): ((وهو)) والمثبت من (م).
[12] في (م): ((بين)).
[13] في (ج): ((بين النداءين أن مِن سنة إلقاء العلوم والوقار والتؤدة)) والمثبت من (م).
[14] قوله: ((وهو)) ليس في (م).
[15] في (م): ((زيادته)).
[16] في (م) و (ج): ((بقولك)).
[17] في (م): ((السنة)).
[18] في (ج): ((قال)) والمثبت من (م).
[19] قوله: ((يعرف)) ليس في (ج) والمثبت من (م).
[20] في (ج): ((للمسائل)) والمثبت من (م).
[21] في (ج): ((الخلاف)) والمثبت من (م).
[22] كلمة: ((بالمشي)) ليس في (ج).
[23] العبارة في (م): ((بقي الخاطر معمورا فالأولى)).
[24] العبارة في (م): ((بعض الطلبة الذين يشتغلون معه على الشيخ فسألوه)).
[25] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[26] زاد في (م): ((له)).
[27] في (م): ((عليه الكلام)) بتقديم وتأخير.