بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: إذا مات أحدكم فإنه يعرض عليه مقعده بالغداة والعشي

          166- قوله صلعم : (إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ...) الحديث. [خ¦3240]
          ظاهر الحديث الإخبار أنَّه(1) مَن مات منَّا يُعْرَضُ عليه مقعده أي: موضعه بالغداة والعشي مِن الجنَّة أو النار.
          والكلام عليه مِن وجوه:
          (منها) قوله ╕: (أَحَدُكُمْ)(2) هل يعني مِن(3) جنس بني آدم كلهم المؤمن وغيره أو يعني المؤمنين؟ احتمل الوجهين معًا، لكن الأظهر أنَّه للجنس جميعًا بدليل قوله تعالى في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر:46].
          وفيه بحث، وهو أن يقال: كيف / قال ╕: (بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ) وليس في الآخرة ليل ولا نهار؟ والجواب _والله أعلم_ أن يكون المراد قدرَ ما بين الغداة والعشي في هذه الدار، كما قال تعالى: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] قال العلماء: قدرَ ما بين الغداة والعشيِّ في دار الدنيا.
          وفيه بحث آخر وهو أن يقال: ما معنى يُعرَضون هل هو بمعنى الدخول؟ أو بمعنى الرؤية؟
          احتمل الوجهين معًا، لأنَّهم يقولون: عَرَضتُ العُودَ على النَّار أي: أدخلته فيها، ويقولون: عَرَضتُ الشيءَ على الرجل أي(4): أريتُه إياه، ومنه قولهم: عُرِض القومُ على السلطان أي: أبصرَهم(5) وعُرِّفَ بهم، لكن الأظهر أنه مِن أريته بدليل قوله ╕ في حديث آخر: «إِنَّ الْمَيِّتَ إِذَا ماتَ فُتِحَتْ لهُ كُوَّةٌ إلى الجنةِ وكُوَّةٌ إلى النَّار، فإنْ كَانَ مُؤْمِنًا قيلَ لَهُ: منْ هَذَا عافاكَ اللهُ _يَعنُون النَّارَ_ وهذا وعَدَك اللهُ يا ولِيَّ الله _يَعْنُونَ الجنةَ_ ثم تُسَدُّ عنه الكُوَّة التي إلى النَّارِ وتبقى التي(6) إلى الجنةِ وإن كان غيرَ مؤمن فبالضدِّ».
          وهنا أيضًا بحث آخر وهو من الذي يُعرَض عليه؟
          فعلى قول مَن يقول: إن الروح والنفس شيءٌ واحد يكون على الأرواح، وعلى قول مَن يقول(7): إن الروح خلاف النفس فيكون على الأرواح أو يكون على النفوس، أو على الأجساد أو على المجموع.
          احتُمِل، لكن الأظهر أنَّه على الأرواح(8)، وأنَّ الأبدان لا تعذَّب مع أرواحها مجتمعة(9) بعد سؤال القبر إلى يوم القيامة، بدليل ما جاء في / آل فرعون، وهو أنَّ أرواحهم في أجواف طيورٍ سُودٍ تعرض على النَّار غدوة وعشية.
          وقد ذكر بعض النَّاس الذين يقولون: إنَّ النفس شيء وإنَّ الروح شيء ثان: أنَّ النفس هي التي تبقى في القبر مع الجسد، وأنَّها مِن العالم الذي لا يفنى، وأنَّها هي التي تتنعَّم في القبر أو تُعَذَّب، وأنَّ الروح تلحقه ممَّا هو(10) فيه نسبة ما، وهو في موضعه مِن عِلِّيِّين أو مِن سِجِّينٍ، وأنَّه لا يكون عذابهما معًا إلا في يوم القيامة أو نعيمهما أيضًا والقدرة صالحة.
          وفيه بحث آخر، إذا قلنا: إنَّه للجنس(11) المؤمن وغيره، هل هو على العموم أو ليس؟
          الظاهر أنَّه ليس على العموم بدليل قوله تعالى في الشهداء: {أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] ويقول سيِّدنا صلعم فيهم: «إنَّ أَرْواحَهُمْ في حواصلِ طيرٍ خُضْرٍ تأكلُ مِنْ شَجَرِ الجنَّةِ وتَشْرَبُ مِنْ أنْهَارِهَا» فمَن هو دائم في الجنَّة فكيف يعرض عليها غدوةً وعشية؟ فيكون عامًّا فيما(12) عدا الشهداء، لكن يرد على هذا قوله ╕: «نَسَمَةُ المؤمنِ طائرٌ أبيضُ معلَّقٌ(13) في شجرِ الجنَّةِ حتَّى يَردَّها اللهُ تعالى إلى(14) أجْسَادِهَا يومَ القيامةِ» فمَن يكون في شجر الجنة فكيف(15) يعرض على مقعده بالغداة والعشي؟
          فالجواب:(16) أنَّه قد يكون(17) الجمع بينهما مِن وجوه:
          (منها) أنَّه قد أخبر صلعم عن الشهداء أنَّهم سبعة ما عدا القتل(18) في سبيل الله، ووصف ╕ الذين قُتِلوا في سبيل الله بأن أرواحهم في أجواف طيرٍ(19) خُضْرٍ، / فقد يكون باقي الشهداء السبعة أرواحُهم تُعلَّق في شجر الجنَّة(20)، ويكون الفرق بينهم وبين الذين قُتِلوا في الجهاد الأكلَ والشربَ لا غير، والفرق بينهم وبين غيرهم مِن المؤمنين دوامُ المقام في الجنَّة، وغيرهم مِن المؤمنين يعرَضون عليها غدوة وعشية، لأنَّ هذه الأخبار كلها صحاح والأخبار لا يدخلها نسخ.
          واحتمل وجه(21) آخر وهو: أنَّ الأرواح هي التي تعلَّقُ في شجر الجنة، وأنَّ النفوس هي التي يُعرَض عليها مقعدها غدوة وعشية، واحتُمل أن تعلَّق الأرواح بشجر الجنَّة وليس يكون لها تصرُّف في الجنَّة إلا غدوة وعشية تنظر لمنازلها وتراها(22) فيزداد بذلك سرورها(23) والقدرة صالحة.
          ويبقى البحث في المخلِّط المسكين كيف حاله؟ فالله أعلم أنَّه قد يكون له نصيب مِن هذا، أو(24) نصيب مِن هذا، وقد تقدَّم الكلام عليه في حديث عذاب القبر بما فيه كفاية فأغنى عن إعادته.
          وفيه دليل: على عظيم(25) قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن هذا(26) الإخبار بهذا النبأ العظيم، وكيف هذا التصرُّف العجيب(27).
          ويترتَّب عليه مِن الفقه: الإيمان به والتفكر فيما نحن إليه صائرون والأهبة لذلك، ولذلك قال صلعم : «كَفَى بالموتِ وَاعِظًا» لأنَّه إذا فكر في الموت وفيما بعده مِن الأنباء وشِبْهِهَا حصل له فيه مِن الوعظ / ما فيه كفاية لمن له عقل أو ألقى(28) السمع وهو شهيد.
          ومما يشبه ما نحن بسبيله أنَّه رغب بعض الإخوان في(29) أخٍ له في الله مشتغلٍ بعبادة مولاه أن يقوم له بمعيشته، فأنعم له(30) في ذلك فأتاه بقَدَح سويق، فلمَّا أتاه غدوة ليأخذ القدح وجَدَه كما كان، فخاف أنَّه اتهمه مِن طريق الكسب فجعل يبيِّن له وجوه كسبه، فقال له: والله يا أخي ما مَرَّ ذلك ببالي ولكن كلما أخذتُ القدح لأشرب(31) تذكرت قوله تعالى: {يَتَجَرَّعُهُ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:17] فلم أقدر أن أشربه حتَّى أصبحت على حالي.
          فانظر رضي الله عنَّا بهِم كيف حالهم وفكرتهم؟ هؤلاء الذين فهموا عن الله وعن رسوله صلعم وليس غيرهم ممَّن ادعى الفهم فَهِمَ(32)، يا مَن مات،ليس كل مَن قاد الجيادَ يسوسها، ولا كلُّ مَن أجرى يقال له مُجْرٍ، كلَّا، بل هي دعاوى وحُجج عليه لا له، مَنَّ الله علينا بما به مَنَّ على أهل الخصوص(33) والتوفيق بفضله(34)، إنَّهُ على ما يشاء قدير(35).


[1] في (م): ((بأنه)).
[2] في النسخ: ((منكم)) والمثبت هو الصواب.
[3] في (ج): ((كل)).
[4] في (م): ((إذا)).
[5] في (ج): ((السلطان، وأبصرهم)).
[6] قوله: ((التي)) ليس في (ج).
[7] قوله: ((إن الروح والنفس شيءٌ واحد يكون على الأرواح وعلى قول من يقول)) ليس في (م).
[8] في (م): ((الروح)).
[9] في (م): ((مجتمعان)).
[10] في (ج): ((هي)) وفي (م): ((أو تتعذب وأن الروح لا تلحقه مما هي)).
[11] في (ج): ((بجنس)).
[12] في (م): ((فيها)).
[13] في (ج): ((يتعلق)) وفي (م): ((يعلو)).
[14] قوله: ((إلى)) ليس في (ج).
[15] في (م): ((كيف)).
[16] في (ج) و (م): ((والجواب)).
[17] في (ج) و (م): ((يمكن)).
[18] في (المطبوع): ((القتلى)).
[19] في (م): ((في سبيل الله فأجوافهم في أجواف طيور)).
[20] قوله: ((تُعلَّق في شجر الجنة)) ليس في (ج) وقوله: ((الجنة)) ليس في (م).
[21] قوله: ((وجه)) ليس في (ج) وفي (م): ((وجها)).
[22] صورتها في (م): ((ونزالها)).
[23] في (ج): ((سروراً)).
[24] في (ج) و (م): ((و)).
[25] في (م): ((عظم)).
[26] في (م): ((هذه)).
[27] في (ط): ((العجب)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[28] في (م): ((عقل وألقى)).
[29] في (ج) و (م): ((من)).
[30] قوله: ((له)) ليس في (م).
[31] في (م): ((لأن أشرب)).
[32] في (م) و (ج): ((كهم)).
[33] في (م): ((الحظوظ)).
[34] في (ج): ((بمنه)).
[35] قوله: ((إنه على ما يشاء قدير)) ليس في (ج) و (م).