بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: بينما أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي

          281- قوله صلعم : (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، رَأَيْتُ النَّاسَ يُعْرَضُونَ عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ...) الحديثَ(1). [خ¦7008]
          ظاهر الحديث يدلُّ على فضل عُمَر ☺ في الدِّين وَعلوِّ منزلته فيه. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: ما معنى النَّاس المعرَضون؟ هَل على العموم، أو عَلى الخصوص؟ وما معنى (الدِّين) هنا؟.
          أمَّا قولنا: هَل(2) يعني(3) بـ (النَّاس) العموم أو الخصوص؟ فالظاهر أنَّ المراد به الخصوص، لأنَّه لا يمكن أن يكون المراد العموم؛ لأنَّه إذا كَان ذلك دخل تحته الكفَّار(4)، ولا يمكن ذلك، لأنَّ كل مَن رآه كانت عليهم قُمص، منها ما يبلغ الثُّدِيَّ _وهو أقلُّهم_ حتَّى إلى الَّذي يجرُّ قميصه وهو أعلاهم، ثمَّ تأوَّل ذلك صلعم بالدِّين. والكفَّار لا يدخلون في هذا، لأنَّه ليس لهم مِن(5) الدِّين ما يبلغ لا للثُّدِيِّ ولا إلى غيره، فهو لفظ عامٌّ والمعنيُّ به الخصوص، وهم أهل الإيمان والإسلام.
          وبقي الاحتمال: هل المراد بذلك جنس المؤمنين مِن أمَّته ◙ وغيرهم، أو المراد بذلك أمَّته صلعم، أو المراد بذلك ناسٌ مِن أمَّته ◙ لا جميع الأمَّة؟ محتمل(6) لكلٍّ ذلك(7)، والآخر هُو الأظهر(8)، والله أعلم.
          وأمَّا قولنا: مَا معنى (الدِّين) هنا(9)؟ فهو مَا أخبر الله ╡ (10) به في كتابه بقوله(11) / تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [آل عمران:19] الَّذي هو اتِّباع الأمر واجتناب النَّهي، وكان عمر ☺ في ذلك كَما هو المشهور عنه في علمِه وزهدِه وفضلِه.
          وفي هذا دليل على ما ذكرناه في كثير مِن الأحاديث قبلُ(12): أنَّ الطَّريق إلى الله ╡ باتِّباع أمره واجتناب نهيه، وبه يكون طريق السُّلوك، ورفعة الأحوال لأهل الأحوال، وغيرُ ذلك لا شيء، وإن ظهر لصاحبه شيء مِن خرق العادات فذلك مِن طريق الإملاء لَه والاستدراج. وفيه دليلٌ لِمَا يقوله أهل علم العبارة(13) «الرؤيا: اِقلِبْ تَجِدْ(14)» يعنون: أنَّ الأمور التي تكون مكروهةً في اليقظة إذا رُئيت في النَّوم فهي(15) حسنة، يعني في بعض النَّاس وَبعض الأحوال، يُؤخذ ذلك مِن قوله صلعم في قميص عمر الَّذي رآه يجرُّه أنَّه تأوَّل فيه: حُسْنَ دينه، وَهذه الحالة في اليقظة محرَّمة لقوله صلعم : «إِزْرَةُ المؤمِنِ إلى نِصْفِ ساقِهِ، فإنْ زادَ إلى الكَعْبَين ومَا فَوقَ(16) ذلكَ فَفِي النَّار».
          ويترتَّب عَلى تأويل سيِّدنا صلعم بأن جعل القميص يدلُّ عَلى الدِّين أنَّه كلُّ ما يرى في النَّوم مِن حسن أو ضدِّه في القميص يكون ذلك في دِينِ لابِسه، فهذه قاعدة في علم العبارة، وكذلك كلُّ مَا جاء عنه ◙ مِن(17) تفسير رؤيا مِن المرائي(18) أنَّ ذلك قاعدة مِن قواعد علم العبارة، لأنَّه صلعم دليلُ الخير كلِّه.
          وفيه بحث وَهو أن يُقال: ما معنى / الحكمة في أنْ جَعَلَ القميص دالَّاً عَلى الدِّين؟ هل ذلك تعبُّد أو لحكمة فتكون الفائدة بها أكثر(19)؟ فنقول _والله الموفِّق للصَّواب_: اعلم أنَّ كلَّ مَن اتَّصف بصفة ما(20): إمَّا بملازمته الشَّيء أو بدعوى(21) فيه، فكأنَّه ألبس نفسه تلك الصِّفة، وهو بصدد أن يخرج عنها ويتَّصف بغيرها، وَحواسُّه وذاته باقية على حالها، فلهذا شبَّهه ◙ بالقميص، فإنَّك إذا لبستَ القميص أنتَ بالخيار في أن تُبقيهِ على نفسك أو تزيلهُ عنك.
          ولتلك النِّسبة قال صلعم لعثمان ☺: «إنَّهم يَطْلُبُون مِنْكَ أن تخلع ثوباً كَسَاكَهُ(22) الله فلا تَفْعَلْ»، إشارة منه صلعم إلى مَا طلبوا(23) مِن عثمان ☺ مِن أن ينخلع(24) مِن الخلافة التي أعطاها الله له، وَكان أهلاً لها، وذلك عند قتلِهِ ☺. فلمَّا كان المسلمون ادَّعوا الإسلام، وقد ألبسوا أنفسهم هذه الحالة، ووجب عليهم _بحسبِ دعواهم_ أن يُكْمِلُوا تلك الصِّفة التي ادَّعوها، فمَن كمَّلها جاء ثوبُه كاملاً، ومَن أخلَّ بشيءٍ مِنها جاء ثوبه ناقصاً، وَكان نقص الثوب بحسب ما نَقَصَ ممَّا ادَّعاه مِن الإيمان والدُّخول فيه.
          وهنا(25) إشارة لأهل المرقَّعة، وَهي لأنَّه مَا حَسُنت(26) تلك المرقَّعة عَلى عمر ☺ التي(27) كانت في ثوبه ثلاثَ عشرةَ رقعة، إحداها مِن جِلْد(28)، إلا لحسن(29) ذلك الثَّوب الذي(30) تحتها، حتَّى كان يجرُّه / بحسب(31) مَا فَضَل مِن طول ذلك الثوب المبارك، فعاد بهاؤه وجماله على المرقَّعة، فجاءت كلُّها حسنة.
          ومما حُكي في هذا النوع أنَّ أحد الملوك بنى بيتاً وأراد أن يجلب لَه مِن(32) الدَّهانين مَن له المعرفة الجيدة، لأنْ يُصوِّروا فيه مِن التصاوير أبدع مَا يكون، فلمَّا حضروا بين يديه افترقوا عَلى(33) فرقتين: كلُّ فرقة تدَّعِي أنَّها أعرف مِن الأخرى، فقال لهم: تأخذ الفرقة الواحدة جانباً مِن البيت تنفرد به(34)، لا تدخلُ الأخرى مَعها، والفرقة الأخرى الجانب الثَّاني عَلى هذا الشرط. فقالت الفرقة الواحدة: بشرطِ أن يُجعل بيننا حجابٌ(35) حتَّى لا يروا منَّا أحداً، ولا نرى منهم أحداً، فإذا فرغنا ينظر الملِك مَن هو قائل الحقِّ منَّا(36) فيما ادَّعاه.
          فأَمَرَ بذلك، فكانت الفرقة الواحدة تطلب مِن أنواع الأدْهان أشياء عديدة، وَلا تبالي بمن(37) يدخل عليها لئنْ يرى مما يظهر(38) مِن صنعتها، وكانت الأخرى لا تطلب مِن الأدهان وَلا مِن أنواع ما يُصبغ(39) به شيئاً وَلا تترك أحداً يدخل عليها، واشتغلت بصقالة الحيطان ودَلكها، فلمَّا فرغ أهل الدِّهان(40) قيل للآخرين: وأنتم فرغتم؟ قالوا: نعم. قيل لهم: فأزيلوا السِّتر بينكم(41). فقالوا: لا نزيله إلَّا بحضرة الملِك كما اشترطنا أوَّلاً.
          فلمَّا حضر الملِك ونظر إلى حُسن ما فعَله أهل الدِّهان(42) والصِّبغ أعجبه، فأزالوا الستر الذي كان بينهم، فلحُسن(43) صفاء الحيطان / وبياضها وَكثرة صقالها(44) انعكست تلك الصُّور التي فُعلت في الجانب الثاني وتمثَّلت في هَذا الجانب الآخر. فأَعجَب ذلك الملِك ومَن كان(45) معه و استحسنوه، فسألَهَم عن فعلهم ذلك فأشاروا إليه أن(46) قالوا: إنَّما نحن مَع النَّقاء والصَّفاء.
          فإذا كان هَذا في الجماد فكيف يكون في الغير؟ لكن بشرط أن يكون أهل المعرفة عَلى طريقه(47) ☺ حالاً لا دعوى، ومِن هذا البَاب وقع الفرق بين النَّاس، واللَّبيب فطِن.
          تنبيه(48): يا هذا: ثوبَ دينِك فأجِدَّه(49)، وثيابَكَ فأَخْلِقْهَا، وَلا تَعْكِسِ الأمرَ فَتَنْعَكِس، فما للزُّورِ فائدةٌ إلَّا زيادة في التَّوبيخ والخمول.


[1] في (ب): ((عن أبي سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلعم : بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرَضون عليَّ وعليهم قمص منها ما يبلغ الثديَّ ومنها ما دون ذلك، ومرَّ عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه. قالوا: ما أولته يا رسول الله؟ قال: الدين)).
[2] في (م): ((أما هل قولنا)). كذا في (ت).
[3] قوله: ((هل يعني)) ليس في (ج).
[4] في (ج): ((دخل الجنة والكفار)).
[5] في (ج): ((في)).
[6] في (ج) و(ب): ((يحتمل)). وبعدها في ت): ((لكل ذاك)).
[7] في (ت): ((ذاك)).
[8] في (ب): ((والآخر أظهر)). وزاد في المطبوع: ((بدليل قوله في غير هذا الحديث مَا ذكر فيه مِن فضل أبي بكر ☺ وغيره مِن الخلفاء ♥، ولم يذكر لهم هنا مثالاً، فدلَّ بذلك أنَّهم ناسٌ من المؤمنين، لا جميع أُمَّته ولا جميع جنس المؤمنين)).
[9] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((ما يعني هنا بالدين)).
[10] في (ب): ((ما أخبر عزَّ)).
[11] في (ج): ((قوله)).
[12] في (ت): ((قيل)).
[13] زاد في (ج): ((لأن))، وزاد في (ب): ((أن)).
[14] في (م): ((تخير)) والمثبت من (ج) و(ب). في (ت) صورتها: ((بحر)).
[15] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((هي)).
[16] في (ب): ((فإلى الكعبين وما تحت)).
[17] في (ج): ((فمن)).
[18] في (ج): ((الرائي)).
[19] في (ج) و(ت): ((أكبر)).
[20] قوله: ((ما)) ليس في (ب).
[21] في (ج): ((بدعواه)).
[22] في (ب): ((لبَّسكه)).
[23] في (ب): ((طلبوه)).
[24] في (ب): ((☺ وأن يتخلى)). وفي (المطبوع): ((يتخلَّع)).
[25] في (ج): ((وهي)).
[26] في (ج): ((لأنها حسنت)). و في (ب): ((وهي أنه ما حسنت)).
[27] في (ج): ((الذي)).
[28] قوله :((ثلاث عشرة رقعة، إحداها مِن جلد)) زيادة من (ج) على النسخ الأخرى.
[29] في (ج): ((بحسن)).
[30] زاد في (ج) و(ت): ((كان)).
[31] في (ت): ((بحسن)).
[32] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[33] قوله: ((على)) ليس في (ج).
[34] زاد في (م): ((الأخرى))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[35] في (ب): ((أن تجعل بينننا حجاباً)).
[36] في (م): ((منها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] قوله: ((بمن)) ليس في (ج).
[38] في (ج): ((فيما تظهر)). و في (ب): ((ما يظهر)).
[39] في (ت): ((يسبغ)). و في (ب): ((يصنع)).
[40] في (ب): ((الأدهان)).
[41] في (ب): ((عنكم)).
[42] في (ب): ((الأدهان)).
[43] في (ت): ((فبحسن)).
[44] في (ت) و(ب): ((صقالتها)).
[45] قوله: ((كان)) ليس في (ب).
[46] في (ب): ((وأشاروا إليه بأن)).
[47] في (ج): ((طريقته)). في (ت): ((أهل المرقعة على طريقه)). و في (ب): ((أهل المرقعة على طريقته)).
[48] قوله: ((تنبيه)) ليس في (ج).
[49] في (ب): ((فاجدده)).