بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس

          122-قولها(1): سمعت رسول الله صلعم يقول: ((لَيْسَ الْكَذَّابُ الَّذِي(2) يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا(3)...)) الحديث. [خ¦2692]
          ظاهر الحديث يدلُّ على جواز تعمُّد الكذب، إذا كان مآله إلى الخير(4).
          وقوله ╕: (فَيَنْمِي(5) خَيْرًا أَوْ يَقُولُ خَيْرًا) معناه: أن تكون نفسُ الكِذْبة لفظَ خير، أو تكون تلك الكذبة تَنمي(6) إلى خير، لكن يعارض هذا رؤيا النَّبي صلعم في منامه(7) للكذَّاب، وهو يعذَّب بالكَلُّوب مِن الحديد على ما ذكر في الحديث أول كتاب، والجمع بينهما _والله أعلم_ هو أنَّ العذاب على الكذب(8) عامٌّ فيه كلُّه(9)، وما جاء في غيره فهو تخصيص(10) للعامِّ مثل هذا الحديث(11) الذي نحن بسبيله وغيره مما نص عليه(12)، لكن نحتاج هنا(13) إلى تقسيم الكذب مِن حيث هو كذب، وبيان كل قسم منه وما الحكم(14) فيه؟ وذلك أنَّ الكذب على خمسة أقسام: فكذبٌ واجبٌ، وآخرُ مندوبٌ، والثَّالثُ مباحٌ، والرَّابعُ مكروهٌ، والخامسُ حرامٌ.
          فأمَّا الواجبُ: / فهو(15) مثل ما إذا علمت مستقرَّ شخص، وسألك عنه مَن يريد قتله ظلمًا وعدوانًا، وعلمت ذلك(16) بيقين، فيتعيَّن عليك الكذب إذ ذاك، وليس(17) بكذب شرعًا، وإنَّما هو(18) كذب لغة على ما نقله الفقهاء.
          وأمَّا المندوبُ: فهو مثل الكذب في الحرب، لقوله ╕: «الحَرْبُ خَدْعَةٌ»، وهو مِن شيم الأبطال والشجعان(19)، وكذلك كلُّ كذب يَنْمي إلى خير، وهذا القسم هو(20) الذي يتناوله الحديث الذي نحن بسبيله؛ لأنَّ الخير مندوب إليه ابتداء وما آل إليه فهو مثله ما لم يخالطه شيءٌ فهو(21) ممنوعٌ شرعًا.
          وأمَّا المباحُ: فهو(22) مَن يعلم شيئًا، ثمَّ يُحدِّث ضدَّه(23) ناسيًا أو مخطئًا، لقوله ╕: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيانُ».
          وأمَّا المكروهُ: فهو مثل كذب الرَّجل لامرأته، لِمَا جاء في الحديث أنَّ رجلًا سأل رسول الله صلعم : أأكذب لامرأتي(24)؟ فقال: «لا» فقال: أَعِدْها؟ فقال: «نعم»، ولأنَّ القصد بالكذب لها صلاح خاطرها، وذلك يحصل بالوعد ولا حاجة للكذب، والوعد ليس مِن شرطه وقوع الكذب(25)؛ لأنَّه محتملٌ أن يموت هو أو تموت هي أو يقعَ الفراق أو يفتح الله عليه فيفي بوعده لها.
          وباقي الكذب على عموم حديث الكلُّوب المعارض لِمَا نحن بسبيله، وقد جاء في الحديث (أنَّ الرَّجل إذا انفلتت منه دابَّته، فأراها المخلاة فتظنُّ أنَّ فيها العلف فتأتي فلا(26) تجد شيئًا، أنَّها تسمى كِذبة(27) يحاسب المرء عليها)، / هذا(28) مع أنَّ الشَّارع ◙ قد نهى عن إضاعةِ المال، وتركُ الدَّابة مهملة موجب(29) لإضاعتها(30)، فناهيك به في غيرها.
          ولأهل الصُّوفية(31) في الحديث دليلٌ لِمَا يفعلونه مِن المكر(32) بنفوسهم، فيوعدونها(33) ببعض شهواتها لكي تبلغهم ما يريدونه(34) مِن أفعال الطَّاعات، ثم بعد تبليغها لهم ما أرادوه لا يوفون(35) لها بما اشتهت عليهم إلَّا أن يأتيهم مِن غير تسبُّب فيه ولا عمل عليه؛ لأنَّ القاعدة عندهم ترك الشهوات، حتَّى لقد حكي عن بعض فضلائهم أنه: اشتهى شهوة مِن الشهوات(36) فكلَّف نفسَه أنواعًا مِن العبادات ونذَر لها أنَّها(37) إن فعلت ذلك أنالها(38) ما أرادت، ففعلت ما كلفها واجتهدت في خلاصه(39) ثم لَمَّا أن فرغت منه كلَّفها بشيء آخر، ثمَّ كذلك، ثمَّ كذلك(40) حتَّى سئمت النفس بالكلية فعاهدها أنَّها إن فعلت كذا وكذا مِن أفعال البر ليأتينَّها(41) بما أرادت على كل حال.
          فلمَّا أن رأت منه العهد قويَ رجاؤها في(42) الوفاء، فاجتهدت فيما كلَّفها مِن الطاعات(43) حتَّى أتَمَّتْها على ما شرط عليها، ثم بقي بعد ذلك مترددًا لا يدري ما يفعل في أمره فلم يقدر أن يُنيلَها شهوتَها فتغلبه بعد سنين في مجاهداتها(44) ولم يقدر أن يتركها كذلك لئلا تسأم وتكسل عن التعبد، فبينا(45) هو كذلك متردِّد في أمره لا يدري ما يفعل فإذا بأخٍ له يستأذن عليه فأذن له بالدخول / فإذا هو بتلك الشهوة على المراد فسأله عن ذلك فقال: اشتريته لآكله ثم جئت به إلى البيت فنمت وتركته فرأيت النَّبي صلعم في المنام(46) يقول لي: اذهبْ(47) بذلكَ الطعام إلى أخيك فلان فكله معه.
          فانظر كيف كان حالهم في شهوة واحدة أفضت بهم(48) إلى هذا الخير العظيم، فكيف بهم أن لو عددت عليهم الشهوات لكانوا يقتلونها(49) في أنواع التعبُّدات وهي لم تصل بعدُ إلى طرف مِن مرغوبها؟ فالوعد للنفس بمرغوبها كالوعد للزوجة بذلك سواء؛ لأن المقصود صلاحهما(50) ولأجل تقعيد حالهم على هذا الأسلوب كانت نفوسهم أبدًا لا تشتهي شيئًا حذرًا منها مِن إدخال المشاقِّ عليها؛ لأنَّها لا تطلب إلا الراحة في وقتها(51) وإن وقعت منهم(52) شهوة فنادر، حتَّى(53) إنَّ مَن وقع له منهم شهوة تسطر في الكتب(54) لندورها، فانظر الكذب للنفس ما أنمى مِن الخير وما أظهر ولو لم يكن فيه إلا أنَّها ترتدع عن الشهوات لكان ذلك كافيًا؛ لأنَّ ترك الشهوات هو المعبَّر عنه بقرع الباب، والله المستعان. /


[1] في (م): ((عن أم كلثوم بنت عقبة أنها)).
[2] في (ج) و(م) و (ل): ((بالذي)).
[3] قوله: ((فَيَنْمِي خَيْرًا، أَوْ يَقُولُ خَيْرًا)) زيادة من (م) على النسخ، و قوله بعدها: ((الحديث)) ليس في (م).
[4] في (م): ((كان حاله خير))، وفي (ل): ((خير)).
[5] في (ج) و(م) و (ل): ((ينمي)).
[6] في (ج): ((ينمي)).
[7] قوله: ((في منامه)) ليس في (م).
[8] في (م): ((الكذاب)).
[9] قوله: ((كله)) ليس في (ج).
[10] في (م): ((جاء في الغير تخصيص)).
[11] قوله: ((الحديث)) ليس في (ل).
[12] زاد في (ج): ((السلام)).
[13] في (م): ((لا نحتاج ها ههنا)).
[14] في (ل): ((الحكمة)).
[15] قوله: ((فهو)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (م): ((بذلك)).
[17] زاد في (م): ((هو)).
[18] قوله: ((هو)) ليس في (ل).
[19] قوله: ((والشجعان)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (م): ((هو القسم)).
[21] قوله: ((فهو)) ليس في (ج) و(م).
[22] في (م): ((والمباح هو)).
[23] في (ج) و (ل): ((بضده))، وفي (م): ((يتحدث بضده)).
[24] في (ج): ((الكذب لامرأته)).
[25] قوله: ((والوعد ليس من شرطه وقوع الكذب)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى، وفي (م) زيادة: ((وقوع يحتمل الكذب))، وبعدها في (ج): ((ولأنه)).
[26] في (م): ((ولا))، وبعدها في (ل): ((تجده)).
[27] في (م) و (ل): ((كذيبة)).
[28] قوله: ((هذا)) ليس في (ل).
[29] في (ل): ((توجب)).
[30] في (ج): ((لإضاعة المال)).
[31] في (ل): ((الصوفة)).
[32] قوله: ((من المكر)) ليس في (ج) و(م).
[33] في (ج) و(م): ((فيعدونها)).
[34] في (م): ((تريده)) وفي (ل): ((ما يريدون)).
[35] في (ج): ((لا يفون))، وفي (م): ((لا يقول)).
[36] قوله: ((من الشهوات)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] قوله: ((أنها)) ليس في (م).
[38] في (ج): ((أن لها)) وفي (ل): ((أتى لها)).
[39] في (م): ((خلاصها)).
[40] قوله: ((ثم كذلك)) ليس في (م) و (ل).
[41] في (ج): ((لا يأتينها))، وفي (م): ((ليأتيها)).
[42] في (م): ((منه)).
[43] قوله: ((من الطاعات)) ليس في (م).
[44] في (ج) و(م) و (ل): ((مجاهدتها)).
[45] في (م): ((فبينما)).
[46] في (ل): ((النوم)).
[47] في (ل): ((رح)).
[48] في (ج): ((لهم)).
[49] في (م): ((ليقتلونها)).
[50] في (ل): ((خلاصهما)).
[51] في (ج): ((للراحة في وقعها)).
[52] في (ج) و(م): ((لهم)).
[53] قوله: ((حتى)) ليس في (م).
[54] في (م): ((الكتاب)).