بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: ادع لي رجالًا وادع لي من لقيت

          211-قوله صلعم : (اذْكُرُوا(1) اسْمَ اللهِ وَلْيَأْكُلْ كُلُّ(2) رَجُلٍ ممَّا يَلِيهِ...) الحديث(3). [خ¦5163]
          ظاهر الحديث الأمرُ بذكر الله تعالى / عند الأكل، والأمرُ أيضًا بأنْ يأكل كلُّ رجلٍ مما يليه. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنْ يقال(4): هل هذان الأمران على حدٍّ(5) سواء في الوجوب أو الندب أو(6) لا؟
          ومنها: هل(7) قوله: (اسْمَ اللهِ)(8) هو اسم مخصوص؟ أو أي اسم ذكر مِن أسماء الله ╡ أجزأه(9)؟
          وهل مِن شرط الاسم أنْ يكون متَّصلًا بالأكل أم لا؟ وهل أيضًا قوله(10) صلعم : (ممَّا يَلِيهِ)(11) في كلِّ الأطعمة، فيكون(12) الأمر عامًا في جميع أنواع الأطعمة أو ليس(13)؟ وإذا كانت أطعمة مختلفة هل يجزئ فيها تسمية واحدة أو لكلِّ طعام تسمية؟ وهل هذا الأمر يتناول الرِّجال دون غيرهم أو هو للرجال وغيرهم على حدٍّ سواء؟
          فأمَّا قولنا: هل الأمران على حدٍّ سواء في الوجوب أو الندب؟
          فليسا(14) على حدٍّ سواء في الطلب، لأنَّ التسمية على(15) الطعام عند الأكل سُنَّة، والأمر(16) بأن يأكل ممَّا يليه مندوب إليه، والتسمية على الطعام مما شرع في هذه الأمَّة المحمدية بمقتضى هذا الحديث وأحاديث كثيرة، وهو مِن السُنَّة الإبراهيمية، وقد(17) قال ╡ : {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78] وذُكِر عن الخليل صلعم أنَّه جاءه مَلَكان على صورة ضيوف يخبرانه لِمَ اتَّخذ الله خليلًا؟ فقدَّم(18) إليهما الطعام فتوقَّفا عن(19) أكله، فقال لهما: كُلا، فقالا: لا نأكل إلا بالثَّمن، فقال: ثمَنُه / أنْ تسمِّيا الله تعالى عند ابتدائه وتحمداه عند فراغه، فنظر أحدهما إلى الآخر وقال: يحقُّ أنْ يُتَّخذَ(20) خليلًا.
          وقد قال سيِّدنا صلعم بعدما أمر(21) بالتسمية عند الأكل والشرب فيمَن(22) لم يسمِّ: «أكل الشَّيطان معه وشرب معه» قال تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيطان لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38].
          وأمَّا قولنا: هل هذا الاسم الذي يذكر على الطعام أو الشراب هو(23) اسم مخصوص أو أي اسم ذكر مِن أسمائه سبحانه وتعالى أجزأ؟
          ظاهر اللفظ لا(24) يعطي تخصيصًا، فأيُّ اسم ذكر(25) مِن أسمائه سبحانه أجزأ(26)، وأمَّا الذي جرى الاستعمال به فذلك: ((بِسْمِ الله)) ومَن زاد ((الرحمن الرحيم)) فهذه جملة أسماء فقد أتى بما أُمِر به وزيادة، والزيادة مِن الخير خير، ولم أرَ أحدًا(27) ينكر ذلك إلا عند الذبح، لأنَّك تذكر الرحمة وتذيق البهيمة العذاب، وليس ذلك مِن خُلُق الإيمان لأنَّ الله ╡ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:2- 3].
          ولا تعتقد أيضًا أنَّ ذكر ((الرحمن الرحيم)) في التسمية على الطعام ممَّا أمرت به فتزيد(28) في الدِّين ما ليس فيه، وهو لا يجوز، فإن زدتها تبرُّكًا فلا بأسَ، لأنَّه لولا(29) رحمته ╡ ما أطعمك وسقاك، لاسيما مع المخالفة لأمره وارتكاب نهيه، فما بقي ما به مَنَّ(30) عليك مِن ذلك إلا مِن طريق الرحمة والفضل، والتزامها أيضًا بدعة، وإنَّما الشأن إنْ أردت اتِّباع السُّنَّة أنْ تقول كما(31) جاء عنه صلعم أنَّه كان عند الأكل يقول: «بسمِ الله، اللهُمَّ بارِك لنا فيما رزقتنا»، وحينئذ تأكل فتحصل لك بركة الاسم الأعظم وبركة السُّنَّة / المحمدية.
          وأمَّا هل مِن شرط التسمية أنْ تكون متصلة بالأكل أم لا؟ فظاهر الحديث(32) يعطي ذلك، لأنَّه أتى بالواو التي لا تعطي(33) رتبة، والنقل مِن سلفٍ إلى خلفٍ على أنَّ العمل على اتصالها(34) إلا إنْ كان نسيانًا فلا يؤاخَذ به لقوله ╕: «رُفِع عن أمَّتي الخطأ والنسيان(35)»، إلا أنَّه قد أحكمت السُّنَّة في الذي ينسى التسمية عند أوَّل أكله أو شربه إذا ذكر أنْ يقول عند ذلك(36): «بسم الله أوَّله وآخره»، فإنَّه قد روي أنَّ شخصًا أكل بحضرة النَّبي صلعم ونسي التسمية، فلمَّا ذُكِّر قال كما قدمنا، فتبسم النَّبي(37) صلعم وقال: «رأيتُ الشَّيطان(38) أكل معه أوَّلًا، فلمَّا قال: بسم الله أوَّله وآخره قاء الشَّيطان كلَّ ما أكل(39)».
          وأمَّا قوله ╕: (وَلْيَأْكُلْ كُلُّ(40) رَجُلٍ ممَّا يَلِيهِ) هل هو في كلِّ الطعام أيَّ نوع كان؟ فظاهر(41) اللفظ يقتضي العموم لكن قد قال العلماء: إنَّ ذلك في الثَّريد وما أشبهه(42) لأنَّه كله(43) سواء، وأمَّا إذا كان الطعام غير الثَّريد(44) وفيه أنواع مختلفة فلك أنْ تجيل يدك(45) حيث تريد، لكن يكون ذلك(46) بأدبٍ مع(47) الإخوان، لأنَّ الأدب مِن السنَّة.
          وأمَّا إنْ كان الطعام شيئًا(48) يابسًا مثل التمر والفواكه فَلَكَ الخيار أنْ تأخذ من حيث(49) شئتَ، وإن كان مائعًا فلا يخلو أنْ يكون على صفة واحدة أم لا، فإن كان على صفة واحدة(50) فحكمه حكم الثَّريد تأكل ممَّا يليك لا غير(51)، وإن كان فيه اختلاف فلك أنْ تجيل يدك فيه إلا أنَّه بأدب(52)، وقد جاء أنَّه قُدِّم / له صلعم لحمٌ فيه دُبَّاء(53) فجعل ╕ يَتتبَّع(54) الدُّبَّاء في القصعة.
          وأمَّا قولنا: إنْ كان الطعام يختلف به أو(55) يؤتى بطعام بعد طعام هل يجزئ فيه تسميةٌ واحدة أم لا؟
          فلا يخلو أنْ يكون تعايِنُه وتعلَمُه، ويكون الأكل متصلًا بعضه ببعض أم لا، فإن كنتَ تعايِنُه وتعلمه ويكون الأكل متصلًا(56) فتسميةٌ واحدة تجزئ ما لم تعيِّن نوعًا واحدًا مِن ذلك تُفردُهُ مِن(57) غيره، كما تفعل عند رميك على الطَّير إذا كانوا جماعة، أو الظِّباء إنْ عَيَّنْتَ الجميع، فأي شيء أخذت منها تناولتْهُ تسميتُك، وإن قصدتَ واحدًا بعينه وأخذتَ غيره لم(58) تتناولهُ التسمية.
          وقد نصَّ الفقهاء(59) أنَّك إذا دخلت حديقة وفيها أنواع مِن الثمَّار، ونويت عند دخولك أنْ تأكل مِن كلِّ ثمَّرة لقيتَ، وسمَّيتَ بهذه النية أجزأتك التسمية عن كلِّ ما تأكل في تلك الحديقة في وقتك ذلك، وإن(60) كانت أشجارها متباعدة بعضها عن(61) بعض، وذلك يقتضي تعيين الأكل أيضًا، وإن أنت لم تسمِّ عند دخولك إلا على الثَّمرة التي لقيتَ ولم تُعيِّنْ غيرَها فتؤمر إذا انتقلت(62) إلى غيرها أنْ تُسمِّي عليها.
          وأمَّا قولنا: هل هذا الأمر خاصٌّ بالرجال لا غير؟ أو الرِّجالُ(63) مواجهون بالخطاب وهو يتناول(64) الكلَّ؟
          فالجواب: أنْ نقول: ليس في الدِّين تخصيص لبعض دون بعض، بل الشأن اشتراك(65) الكل في جميع الأوامر إلا ما دلَّ دليل على تخصيصه(66)، ولا دليل هنا على التخصيص فهو عامٌّ في الكل.
          وفي هذا الحديث / وأشباهه دليل على بذل جهده صلعم في النُّصح والتعليم.
          ويترتَّب على ذلك مِن الفقه فيما يخصُّنا أنَّ مِن علامة السعادة للشخص أنْ يكون معتنيًا(67) بمعرفة السُّنَّة في جميع تصرفه، والذي يكون كذلك هو دائمًا(68) في عِبادة في(69) كلِّ حركاته وسكناته، وهذا هو طريق أهل الفضل، حتى إنَّه ذُكر عن بعضهم أنَّه بقي سنين لم يأكل البطيخ فقيل له في ذلك، فقال: لم(70) يبلغني كيف السنَّة في أكله؟ فلا آكله حتى أعلم كيف ذلك، وكيف لا والله سبحانه يقول في حقِّه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران:31] والاتِّباعية الكاملة إنَّما تصحُّ بأن تكون عامَّةً في كل الأشياء، جعلنا الله مِن أهلها في الدارَين بمنِّه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليمًا(71).


[1] في (ج) صورتها: ((إذا كرر)).
[2] قوله: ((كل)) ليس في (ج).
[3] قوله: ((الحديث)) ليس في (ج) و (م).
[4] قوله: ((يقال)) في (م) ليست واضحة كأن شطب يقول وكتب يقال أو العكس.
[5] قوله: ((حد)) ليس في (ج).
[6] في (م): ((أم)).
[7] قوله: ((ومنها هل)) ليس في (ج)، وقوله: ((منها هل)) ليس في (م).
[8] زاد في (ج) و (م): ((هل)).
[9] في (ج) و (م): ((أجزأ)).
[10] في (ج): ((أم لا؟ وقوله)).
[11] زاد في (ج): ((هل)).
[12] في (ج): ((قيل)) وفي (م): ((بالأكل أم لا قوله مما يليه هل في كل الأطعمة فيكون)).
[13] قوله: ((أو ليس)) ليس في (ج) وفي (م): ((الأطعمة أم لا)).
[14] في (ط): ((فليستا)).
[15] في (ط): ((عند)).
[16] في (ج): ((سنة واجبة وأمر)).
[17] قوله: ((وقد)) بياض في (ج).
[18] في (ط): ((على صورة ضيوف، وهما قد قالا: تعالا نروا، بِمَا اتخذ الله إبراهيم خليلًا وقصدا الاختبار فقدم))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] في (ج): ((على)).
[20] في (ج): ((يحق لهذا أن يتخلى)).
[21] في (ج): ((أمره)).
[22] في (م): ((فمن)).
[23] قوله: ((هو)) ليس في (ج).
[24] قوله: ((لا)) ليس في (ج).
[25] قوله: ((ذكر)) ليس في (ج).
[26] قوله: ((ظاهر اللفظ لا يعطي تخصيصًا فأي اسم ذكر من أسمائه سبحانه أجزأ)) ليس في (م).
[27] في (ج): ((من)).
[28] في (ج): ((ما أمرت به تزيد)).
[29] صورتها في (م): ((أولا)).
[30] في (ج): ((ما من به)).
[31] في (ج): ((السنة تقول ما)).
[32] قوله: ((الحديث)) ليس في (ج).
[33] في (ج): ((يعطي)).
[34] في (ج): ((ايصالها)).
[35] في (ج) و (م): ((خطأها ونسيانها)).
[36] في (ج): ((شربه أنه إذا أكل أن يقول)) وفي (ط): ((شربه أنه إذا التهم أو ذكر أن يقول عند ذلك)) والمثبت من (م).
[37] قوله: ((النبي)) ليس في (ج).
[38] في (م): ((الشخص)).
[39] العبارة في (م): ((قاء الشّيطان أكل معه كل ما أكل معه)).
[40] قوله: ((كل)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (ج): ((ظاهر)).
[42] في (ج): ((إن ذلك وما أشبهه في الثريد)).
[43] في (م): ((كل)).
[44] في (ج) و (م): ((ذلك)).
[45] زاد في (م): ((يدك)) مكررا.
[46] قوله: ((يكون ذلك)) ليس في (ج).
[47] في (م): ((لكن تأدب مع)).
[48] قوله: ((شيئا)) ليس في (ج) و (م).
[49] في (ط) و(ج): ((تأخذ حيث)).
[50] قوله: ((أم لا فإن كان على صفة واحدة)) ليس في (م).
[51] قوله: ((لا غير)) ليس في (ج).
[52] في (م): ((تأدب)).
[53] في (م): ((وسلم فيه لحم ودباء)).
[54] في (ج): ((يتبع)).
[55] في (ج): ((أن)) وفي (م): ((أي)).
[56] في (ج): ((وتعلمه وللأكل متصل)).
[57] في (م): ((عن)).
[58] في (ج): ((فلم)).
[59] زاد في (ج): ((♥)).
[60] في (م): ((فإن)).
[61] في (ج) و (م): ((من)).
[62] في (ج) صورتها: ((انتقت)).
[63] في (م): ((والرجال)).
[64] في (م): ((متداول)).
[65] في (ج) و (م): ((بل اشترك)).
[66] في (ج): ((الدليل على تحقيقه)).
[67] في (ج): ((معنيًّا)).
[68] في (م): ((دائم)).
[69] في (ج): ((دائم في عبادة من)).
[70] قوله: ((لم)) ليس في (ج).
[71] في (ج): ((وآله من بعده)).