بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: رأيت النبي يقرأ وهو على ناقته

          203-قوله: (رَأَيْتُ النَّبي(1) صلعم وَهُوَ عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ وَهِيَ تَسِيرُ بِهِ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ...) الحديث. [خ¦5047]
          ظاهر الحديث: (وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ)(2) يدلُّ على جواز قراءة القرآن للراكب وهو يسير. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها قوله: (عَلَى نَاقَتِهِ أَوْ جَمَلِهِ) شكٌّ مِن الراوي، وفيه دليل على صدقهم وتحرِّيهم في النقل(3) وكذلك قوله: (سُورَةَ الْفَتْحِ أَوْ مِنْ سُورَةِ الْفَتْحِ).
          وقوله: (قِرَاءَةً لَيِّنَةً) أي فيها ترسُّل وتطويل، وهي(4) أحسن أنواع التلاوة وهو النوع الذي يمكن معه التدبُّر، وقد جاء في صفة قراءته صلعم : لو شئت أنْ تعدَّ حروفها لعددتها(5)، وهي حالة تدلُّ على الوقار والهيبة لِمَا هو يتلو(6).
          وأمَّا قوله: (يُرَجِّع) ليس هو كترجيع الغناء، وإنَّما هو ترجيع وتحسين، وتجمُّل للتلاوة، وقيل: الترجيع: ترديد القراءة، وقيل: هو تقارب(7) ضروب الحركات(8) في الصوت.
          وفي صحيح البخاري: «كيف كان ترجيعه؟ فقال: أأأ ثلاث مرات(9)» وهذا إنَّما حصل منه صلعم لأنَّه كان راكبًا فجعلت الناقة تحركه فيحصل هذا مِن صَوتِهِ، وقد جاء في حديث آخر أنَّه كان لا يرجِّع، قيل: لعلَّه لم يكن راكبًا فلم يلجأ إلى الترجيع وليس ذلك كترجيع الغناء.
          ويبيِّن ذلك قوله ╕: «حسِّنوا(10) القرآن بأصواتكم(11)» ذكر فيه غير واحد مِن العلماء أنَّ معناه: زيِّنوا أو حسِّنوا(12) أصواتكم بالقرآن، وفي بعض طرقه: «زيِّنوا أصواتكم بالقرآن»، والمعنى اشغَلوا أصواتكم بالقرآن، والهجوا بقراءته واتخذوه شعارًا وزينة، وليس ذلك على تطريب الصوت.
          وقال آخرون: لا حاجةَ إلى القلب، وإنَّما معنى الحديث: الحثُّ على الترتيل الذي أمر به في قوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل:4] فكانت(13) الزينة للمرتِّل لا للقرآن، كما يقال: ويل للشِّعر مِن رواة السَّوء فهو راجع إلى الراوي لا إلى الشِّعر، فهو حثٌّ على ما يُزَيِّن مِن الترتيل(14) والتدبُّر ومراعاة الإعراب. وقيل: أراد بالقرآن القراءة، أي: زيِّنوا قراءتكم بأصواتكم.
          وقوله ╕: «ليس مِنَّا مَن لم يتغَنَّ بالقرآن» قيل: في ذلك معانٍ، فمِن جملة معانيه: أنَّه يجعله هِجِّيراهُ وتسلية نفسه(15) وذكر لسانه في كل حالاته كما كانت العرب تفعل ذلك في الشعر(16) والحُداء(17) في قطع مسافاتها وحروبها، فيجد القارئ مِن الطرب والأنس(18) وانشراح النفس بتلاوة القرآن كما يجد(19) أهل الغناء بغنائهم.
          ولا(20) يفهم مِن ترجيعه ╕ / أنْ يكون كترجيع الغِناء، لأنَّه صلعم قد نهى عن ذلك بقوله ╕: «اقرؤوا القرآن بلُحون العرب وأصواتِها، ولا تقرؤوه بألحان العشاق(21)، وإيَّاكم ولُحونَ أهلِ العِشقِ(22)، ولحونَ أهل الكِتَابين(23)، وسيأتي بعدي زمان فيه أقوامٌ يقرؤونه بألحان العشاق، ويرجِّعونه(24) كترجيعِ الغناء والنَّوح، لا يجاوز(25) حناجرَهم، مفتونةٌ(26) قلُوبُهم وقلوبُ مَن أعجبهم(27) شأنهم».
          واللُّحون: جمع لَحْن، وهو التطريب وترجيع الصوت، وهذه القراءة المنهيُّ عنها لا يمكن معها فهمٌ ولا تدبُّرٌ، وهي منافية للخشوع وهذه الصفة ليست المقصودة مِن التلاوة، فما بان فيها لو لم ينهَ هو صلعم عنها لكانت مِن جهة النظر ممنوعة، فكيف بعد النهي(28).
          وفيه دليل: على إظهار التعبُّد عن الضرورة(29) وهي السُّنَّة، يؤخذ ذلك مِن قراءته ╕ وهو(30) يسير على ناقته، لأنَّه صلعم لَمَّا كان شأنه دوامَ التعبُّد، وجاءته(31) ضرورة السير، لم يترك القراءة التي كان ╕ يفعلها سرًّا(32)، لأنَّه في النوافل أفضل، ففِعلهُ الآن جهرًا أفضلُ مِن أجل تنفيذ هذه القاعدة، أو تقعيد هذه القاعدة الشرعية عنه أفضل.
          وفيه دليل لأهل الطريق الذين يقولون: إنَّ ترك العمل لأجل الناس شِرك.
          ويترتَّب عليه(33) مِن الفقه لأهل الأعمال أنَّ المندوب كله الأفضل فيه الإخفاء، ما لم يكن بمَوضِعٍ(34) لا يمكن فيه الإخفاء(35) كالجهاد وتدريس العلم وما أشبه(36) ذلك، فإذا(37) لم يقدر على الإخفاء فيه فإظهاره هو الأولى(38) لأنَّه إنْ لم يكن إظهار آل الأمر إلى الترك، وهو عين الخسارة(39).
          وفيه دليل على أنَّ / الجهر(40) في التلاوة أولى مِن طريق الأفضلية، يؤخذ ذلك مِن كونه صلعم جهر بها في هذا الموضع.
          وفيه دليل على أنَّه إذا تعارض في العبادة أمران أخذ بالأعلى، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا تعارض هنا لسيِّدنا(41) صلعم فضلُ الجهر بالقراءة، وفضلُ إخفاء العبادة آثر الجهر في التلاوة على إخفاء العبادة.
          لكن هنا تنبيه: ينبغي(42) عند الإظهار أنْ يزيل عن قلبه حبَّ الميل إلى المدح لأنَّ ذلك هو الداء العضال، وقد نصَّ أهل التوفيق على(43) أنَّ طلب المدح مفتاح فقر(44) الأبد، أعاذنا الله مِن ذلك(45) بمنِّه(46).


[1] في (ج) و (م): ((رأيت رسول الله)).
[2] قوله: ((وهو يقرأ سورة الفتح)) ليس في (ج) و (م).
[3] في (ج): ((وتحريرهم للنقل)).
[4] في (ج) و (م): ((وهو)).
[5] في (ج): ((أن أحد حروفها أحدرتها)) وفي (م): ((أعددتها)).
[6] في (م): ((متلو)).
[7] في (ج): ((وأما قوله يرجع فقيل الترجيع منهم ترديد القراءة وقيل هو تفاوت)) و في (م): ((وأما قوله يرجع فقيل الترجيع ترديد القراءة وقيل هو تقارب)).
[8] في (م): ((ضروبها لحركات)).
[9] في (ج): ((قول الله مرات)).
[10] في (ج): ((وقد قال ◙ زينوا)).
[11] العبارة في (م): ((كترجيع الغناء وقد قال ◙ زينوا القرآن بأصواتكم)).
[12] قوله: ((حسنوا)) ليس في (ج) و (م).
[13] في (م): ((فكان)).
[14] في (ج): ((هو حث على ما يزيد على الترتل)).
[15] في (ط): ((هجيراه وتسليته)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] قوله: ((وذكر لسانه على كل حالات كما كانت العرب تفعل ذلك في الشعر)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] في (ط) و(م): ((الحدر))، وفي (ج): ((والخدم)) ولعل المثبت هو الصواب، وهو مطابق للمطبوع.
[18] في (ج) و (م): ((القارئ من الأنس)).
[19] في (ج) و (م): ((يجده)).
[20] في (م): ((فلا)).
[21] قوله: ((ولا تقرؤوه بألحان العشاق)) ليس في (م) و (ج).
[22] قوله: ((ولحون أهل العشق)) ليس في (م).
[23] في المطبوع: ((الكتاب)).
[24] في المطبوع: ((ويرجعون القرآن)).
[25] في (ج): ((وسيأتي بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح ولا يجاوز)) و في (م): ((وسيأتي بعدي أقوام يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والترجيع لا يجاوز)).
[26] قوله: ((مفتونة)) في (م) ليست واضحة.
[27] في (م): ((الذين يعجبهم)). في (ج): ((من يعجبهم)).
[28] قوله: ((فما بان فيها لو لم ينه هو... ممنوعة، فكيف بعد النهي)) ليس في (ج) و (م).
[29] قوله: ((عن الضرورة)) ليس في (ج) و (م).
[30] قوله: ((وهو)) ليس في (ج).
[31] في (ج): ((وجاءت)).
[32] في (م) و (ج): ((يفعل سرا)).
[33] العبارة في (م) و (ج): ((جهرا أفضل من أجل تقعيد هذه القاعدة الشرعية ويترتب عليه)).
[34] في (م): ((موضعه)).
[35] قوله: ((ما لم يكن بموضع لا يمكن فيه الإخفاء)) ليس في (ج).
[36] في (ج): ((أشبهه)).
[37] في (ج): ((فإذ)).
[38] في (ج): ((أولى)).
[39] قوله: ((وهو عين الخسارة)) ليس في (ج) و (م).
[40] في (ج): ((الخير)).
[41] في (ج): ((إذا تعارض أمران ما لم يمكن بوضعه لا يمكن فيه أخذ بلا علام أنه لما أخفى تعارض هذا سيدنا صلعم)).
[42] في (ج)و (م): ((العبادة، وينبغي)).
[43] قوله: ((على)) ليس في (ج) و (م).
[44] قوله: ((فقر)) في (م) ليست واضحة.
[45] في (ج) صورتها: ((ملك)).
[46] زاد في (م): ((ويمنه وكرمه)).