بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: فصم يومًا وأفطر يومًا وذلك صيام داود

          184- قوله: (أُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ صلعم أنِّي أَقُولُ: وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ...) الحديث. [خ¦3418]
          ظاهر الحديث إخباره صلعم بأنَّ أفضل صوم التطوع أنْ يصام يومٌ ويُفطَر يومٌ، وإخباره بأنَّه(1) كان صومَ داود ╕، والكلام / عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّه لا يجوز الحكم إلا على الأمر الذي لا يحتمل التأويل، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا أخبر صلعم بما قاله عبد الله أنَّه يصوم النهار ويقوم اللَّيل ما عاش، لم يخبره ╕ بعدم طاقته على ذلك، ولا بما هو الأفضل في الصوم إلا حتى استفسره بأن قال له: (أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلَأَقُومَنَّ اللَّيل مَا عِشْتُ؟) فلمَّا اعترف له(2) عبد الله بذلك حينئذ أخبره صلعم بما هو الأفضل.
          وفيه دليل: على أنَّ مِن السُّنَّة إيصال أخبار الرعية إلى راعيها، يؤخذ ذلك مِن كون سيِّدنا صلعم أُخْبِرَ بمقالة عبد الله، فلولا ما كان ذلك عندهم معلومًا ما قيل له صلعم ذلك(3).
          ويترتَّب عليه مِن الفقه أنْ يستعمل ذلك في كلِّ مَن له رعاية على أحد صغيرًا كان أو كبيرًا.
          وفيه دليل: على جواز اليمين على ما يريد(4) المرء أنْ يفعله مِن المندوبات، يؤخذ ذلك مِن قول عبد الله: (وَاللهِ لَأَصُومَنَّ النَّهَارَ) فلمَّا بلغ ذلك سيِّدنا صلعم لم يعنِّفه على ذلك، وسكت عن كونه حلف، وسكوته ╕ دالٌّ على جوازه.
          وفيه دليل: على جواز الذِّكْر بين الإخوان بأنواع العبادات، وأن يبدي الشخص لهم ما وقع عزمه على فعله مِن أيِّ أنواع / العبادات شاء، يؤخذ ذلك(5) مِن ذكر عبد الله ذلك حتى بلغ النَّبي صلعم (6) خبرُهُ ولم يقل له في ذلك شيئًا، فدلَّ على جوازه.
          وفيه من الفائدة: أنَّ ذكر ما عزم المرء عليه مِن أفعال البر بين إخوانه هو مِن باب التذكير بالخير والتعاون(7) عليه، لأنَّ عند ذكره العزم على ذلك قد تنبعث نفوس الغير إلى مثل(8) ذلك أو إلى ما يقرب منه، فيدخل(9) في قوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] إلا أنَّه بشرط أنْ يكون الإخوان يُعلم منهم ذلك، لأنَّ الصحابة رضوان(10) الله تعالى عليهم كان ذلك(11) شأنهم أجمعين.
          وفيه دليل: على فضل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين(12)، وعدم تملُّقهم في الكلام وقصدهم الفائدة لا غير، يُؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا سأل سيِّدنا صلعم عبدَالله بأن قال له: (أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ؟) لم يزده في الجواب على أنْ قال له: (قَدْ قُلْتُهُ(13)) بلا زيادة مِن اعتذار ولا تملُّق.
          وَقَوْله صلعم : (إنَّكَ لَا تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ).
          هنا بحث، هل هذا خاصٌّ بعبدالله لِمَا يعلم صلعم مِن حاله أو هذا لجنس البشر(14)؟
          احتمل الوجهين معًا والأظهر، والله أعلم، أنَّه لجنس البشر لقوله ╕ في حديث غير هذا(15): «إن المُنْبَتَّ لا أرضًا قَطَعَ ولا ظهرًا أبقَى»، ولقوله ╕ عن معاذ بن جبل لصاحبه: «هو أفقه منك» وقد تقدَّم ذكره في غير ما موضع من الكتاب.
          وفيه دليل: على أن(16) الأمر بما فيه راحة النفوس إذا كان عونًا على الطاعة، / يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (أَفْطِرْ) و(نَمْ)(17) فإنَّهما عون على القيام والصيام.
          وفيه دليل: على أنَّ صوم يوم تطوعًا بعشرة أيام، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم (18): (صُمْ مِن الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإنَّ الْحَسَنَةَ(19)بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ).
          وفيه دليل: على ضرب المثال بممكن(20) لا يقع ليُعلَم بذلك المثال فائدةٌ ما، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (وَذَلِكَ مِثْلُ صِيَامِ الدَّهْرِ) ومِن المعلوم قطعًا أنَّ مِن الدَّهر ما لا يجوز صومه مثل أيام الأعياد وأيام التشريق، ومنه ما لا يصام تطوعًا أصلًا وهو رمضان، وما يترتَّب مِن طريق النذر والكفارات الواجبات(21) شرعًا هي(22) مثل الفرض لا يمكن صومها تطوعًا أصلًا، وقد أطلق ╕ على الجميع(23): (الدَّهْرِ) في المثال، فيكون التقدير فيه: إِنْ تَأَتَّى(24) صومه، أو: ما عدا ما فرض من(25) صومه فلا بدَّ فيه مِن ضمير تخصيص(26) عمومه.
          وفيه دليل: على أنَّ السنَّة في الراعي أنْ يحمل رعيته على الأرفق في الأمور، يؤخذ ذلك مِن أنَّ سيِّدنا صلعم لم يأمره أولًا إلَّا(27) بالأقل مِن الصوم، لأنَّه الأرفق ويقدر عليه القويُّ والضعيف.
          وفيه دليل: على جواز مراجعة المستَرْعي راعيه(28) بطلب الزِّيادة في المجاهدة: إذا علم مِن نفسه أنَّ فيه أهلية لذلك، يؤخَذ ذلك مِن قول عبدالله: (إنَّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) إلا أنه يكون بأدب، كما فعل هذا السيِّد لأنَّه لم يزد(29) أنْ أخبر عن نفسه / أنَّهُ يطيق أفضل مِن ذلك، ولم يقل: إنِّي(30) أفعل أكثر ممَّا قلت، وإنَّما أخبر بما يطيقه وبقي ينظر بماذا يؤمر.
          ويترتب عليه مِن الفقه أنْ يكون ذلك في سائر الأمور يخبر راعيه بما هو الأصلح له بحسب حاله، حتى يرى بماذا يأمره راعيه.
          وفيه دليل: على أنَّ الدِّين مطلوب بفرضه ونَدْبه، يؤخذ ذلك مِن أنَّ النَّبي صلعم قد أمر عبدالله بالصوم مِن كل شهر بثلاثةٍ، أيام(31) ثمَّ درَّجه إلى الشطر، فكفى بذلك دليلًا على طلبه.
          وفيه دليل: على المنع مِن التغالي في الدِّين، يؤخذ ذلك مِن منعه صلعم ما زاد على الأفضل وهو صوم شطر الدهر بقوله ╕: (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) فأجاز له ما كان أقل مِن الشطر لكونه راعى(32) الأهلية في ذلك، ولَمَّا بلغ الأفضل وادَّعى أنَّ فيه الأهلية للزيادة على ذلك منعه ╕ بقوله: (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) فإنَّ الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا إذا سمعوا منه صلعم : (لَا أَفْضَلَ) يزيدون(33) على ذلك شيئًا، وإنَّما كان قصدهم الأفضل في الأعمال، فقام قوله ╕ (لَا أَفْضَلَ) مقام المنع مِن ذلك.
          وفيه دليل: على أنَّه إذا تقعَّدت(34) القاعدة الشرعية وعُلِمت لا يحتاج(35) إلى تكرارها، يؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا(36) أُخبِر النَّبي صلعم بحَلِفِ عبدالله أنَّه يقوم اللَّيل ويصوم النهار أخبره صلعم بفعل الأفضل وهو / ضدُّ ما حلف عليه، ولم يقل له: كَفِّرْ عن يمينك، لأنَّ هذه القاعدة عندهم قد ثبتت فلم يحتج إلى(37) أنْ يذكر له ذلك.
          وفيه دليل: على أنَّ الفضيلة في الأعمال بحسب ما جعلها الشَّارع صلعم لا بحسب العقل، يؤخذ ذلك مِن قول عبدالله لَمَّا قال له(38) النَّبي صلعم : (صُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ يَوْمًا)(39) قال له: (إِنَّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) لَمَّا تقدَّم له أنَّ الزِّيادة على الثلاثة أفضل، فرأى أنَّ الزِّيادة على الشطر أفضل، فأخبر الشارع صلعم بأن تلك الزِّيادة نقص لا فضيلة(40) فيها بقوله ╕:(41) (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ) فذهب هنا ما قاسه عبدالله.
          وفيه دليل: على أنَّ عِظم الأجر في العبادات ليس بكثرة التعب، بل هو بما شاءت الإرادة الربانية(42)، يؤخذ ذلك مِن كون عبدالله ظن أنَّ زيادة المجاهدة وهي زيادة الصوم على شطر الزمان أفضل، فمنع صلعم ذلك(43) بقوله: (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ).
          وفيه دليل: على أنَّ الحكم لاستصحاب الحال حتى يَرِدَ ناسخ من الشارع(44) صلعم، يؤخذ ذلك مِن أنَّ عبدالله لَمَّا رأى الزِّيادة(45) على الثلاثة أفضل استصحب ذلك الحكم حتى جاوز شطر الزمان، فمنع الشارع ╕ ذلك ونسخه بقوله: (لَا أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ).
          وفيه دليل: لمن يقول إنَّ شرعَ مَنْ قَبْلَنا شرعٌ لنا ما لم يَرِدْ عليه ناسخ، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ) ╕. /
          وفيه دليل: على فضل السنَّة واتساعها(46) حتى يدخل فيها القوي والضعيف، يؤخذ ذلك مِن تدريج سيِّدنا صلعم صوم التطوع مِن العُشر في الزمان(47) الذي هو ثلاثة أيام في الشهر إلى النصف منه، وهو صوم يوم وإفطار يوم، وما بين هذين الحدَّين(48) توسعة كبرى يتَّسع فيها جميع النَّاس على اختلاف أحوالهم.
          وفيه دليل: على التسوية بين أيام الشهر بلا فضيلة بينها(49)، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم : (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِن كلِّ شَهْر)، بغير(50) تعيينٍ، وجعلَ الأجر فيها سواء(51).
          وفيه دليل: على أنَّ تفريقها أعني(52) أيام الصوم في الشهر، أو تتابعها في الأجر سواء، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) مِن كل شهر، ولم يذكر فيها تتابعًا ولا تفريقًا، فدلَّ على أنَّ(53) الأمر في ذلك سِيَّان.


[1] في (ج): ((وإخباره أنه)).
[2] قوله: ((له)) ليس في (ج).
[3] في (المطبوع): ((ما قال له رسول الله صلعم ذلك)).
[4] في (ج): ((يؤيده)).
[5] زاد في (م): ((من قوله ◙)).
[6] زاد في (م): ((ذلك)).
[7] في (ج): ((الذكر بالخير والتقارب)).
[8] قوله: ((مثل)) ليس في (ج).
[9] قوله: ((فيدخل)) ليس في (ج).
[10] في (م): ((رضوان)). كالنسخ الأخرى.
[11] في (ط) و(م): ((ذلك كان)) والمثبت من (ج).
[12] قولهم: ((أجمعين)) ليس في (ج) و (م).
[13] في (ج): ((قال له ذلك على قلته)).
[14] في (ج): ((الجنس البشرية)) وفي (م): ((البشرية)).
[15] في (ج): ((غيره)) وفي (م): ((في حديث غيره)).
[16] قوله: ((أن)) ليس في (ج) و (م).
[17] في (م): ((وقم)).
[18] زاد في (ج): ((من قوله)).
[19] في (ج): ((الجنة)) والصواب المثبت.
[20] في (ج): ((الممكن)).
[21] قوله: ((الواجبات)) ليس في (م).
[22] قوله: ((هي)) ليس في (ج).
[23] في (ط): ((جميع)). في(ج): ((في الجميع)) والمثبت من (م).
[24] في (ج): ((التقرير فيه أن تأتى)).
[25] قوله: ((من)) ليس في (ج) و (م).
[26] في (ج) و (م): ((تخصص)).
[27] زاد في (ج) و (م): ((إلا)). كالأصل.
[28] في (ج): ((راعيته)).
[29] في (ج): ((يزده)).
[30] في (ج): ((في)).
[31] قوله: ((أيام)) ليس في (ط) و(ج) و (م).
[32] في (ج) و (م): ((ادعى)).
[33] في (ط): ((لا يزيدون)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (ج): ((انعقدت)).
[35] قوله: ((يحتاج)) ليس في (ج).
[36] زاد في (م): ((أن)).
[37] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[38] قوله: ((له)) ليس في (م).
[39] زاد في (ج): ((ما)).
[40] في (ج): ((فضلية)).
[41] في (ج): ((لقوله صلعم غلبة)).
[42] قوله: ((بل هو بما شاءت الإرادة الربانية)) ليس في (ج) و (م).
[43] قوله ((ذلك)): ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] في (ج): ((من الشرائع)).
[45] قوله: ((صلعم يؤخذ ذلك من أنَّ عبدالله لما رأى الزِّيادة)) ليس في (ج).
[46] في (ج): ((واتباعها)).
[47] قوله: ((في الزمان)) ليس في (ج).
[48] في (ج): صورتها ((الحديثين)).
[49] في (ج): ((فضلية بينهما)).
[50] في (ج): ((من غير)).
[51] في (ج): ((سوي)).
[52] في (م): ((أي)).
[53] في (ج): ((ودل أن)).