بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: بينا أنا نائم أتيت بقدح لبن فشربت منه

          280- قوله: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يقول: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ، أُتِيتُ بِقَدَحِ لَبَنٍ، فَشَرِبْتُ مِنْه...) الحديثَ(1). [خ¦7006]
          ظاهر الحديث يدلُّ على فَضْل(2) عُمَر ☺، وما خصَّه الله به مِن العلم. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: مَا معنى هذا العلم الذي خُصَّ به عمر ☺، وقد جاء أنَّه صلعم قال(3): «أنا مَدِينةُ الشَّجاعةِ وعُمَرُ بابُهَا، وأنا مَدِينةُ العِلْم وعليٌّ بابُهَا» فهل بين هذين الحديثين تعارض؟ وهل لهما وجه يجتمعان به؟
          فاعلم _وفَّقنا الله وإيَّاك_ أنَّ هذين الحدِيْثَين ليس بينهما تعارض، وأنَّ أحدهما يقوِّي الآخر، وذلك أنَّ العلم في الشَّريعة علمان:
          أحدهما: العلم بقواعد الشريعة وفروعها وأحكامها / واستنباط ذلك مِن الكتاب والسنَّة، وفهم ذلك بالنُّور الذي يهبُه(4) الله مَن يشاء مِن خلقه، وهؤلاء هم ورثة الأنبياء ‰، وهذا هو العلم الذي خُصَّ(5) عليٌّ ☺ بالزيادة فيه عَلى غيره مِن الخلفاء، بحسب مَا شهد لَه به رسول الله صلعم، ولذلك كان عمر ☺ يقول: «أَعُوذُ باللهِ مِن مُعْضِلةٍ لا يَحْضُرُها عليٌّ»، وإن كان الكلُّ ♥ بذلك علماء، لكن خُصَّ عليٌّ ☺ بالزِّيادة فيه.
          والعلم الثاني: هُو العلم بالله وَعظيمِ قدرته وَجلاله، والعلم بأنَّه هو الغالب عَلى أمره، وهذا العلم لا تُعْلَم حقيقته حتَّى يكون للعالم(6) به العلمُ به حالاً، وهم القليل مِن الناس، كما أخبر الله ╡ في كتابه حيث يقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاس لَا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] وإنْ كان الصَّحابة والخلفاء رَضي الله عنهم أجمعين يعلمون ذلك حقيقة، لكنْ أعطى(7) الله ╡ لعمرَ ☺ في ذلك زيادةً، وَتلك الزِّيادة هي الَّتي أوجبت له الشَّجاعةَ في الدِّين حتَّى شهد له بها رسول الله صلعم بقوله: «أنا مدينة الشَّجاعة وعُمَرُ بابُهَا». ولم(8) يَعنِ صلعم الشَّجاعة الَّتي هي في القتال في مقارعة الأبطال؛ فإنَّ مَا خَصَّ الله ╡ به سيِّدنا صلعم في هَذا لا يَقدِر أحدٌ أن يكون لها باباً كما رُوي عنه ◙ في ذلك أنَّ الصحابة ♥ كانوا يقولون(9) إذا اشتدَّ / القتال: «الشُّجَاعُ منَّا الذي يتَّقي به» وتلك الزِّيادة التي أوجبت له الشَّجاعة هي التي أوجبت له أن يُسمَّى فاروقاً، لأنَّ يوم إسلامه فَرَّق الله ╡ فيه(10) بين الحقِّ والباطل، وعُبِدَ الله جهراً، وَأعلى الله تعالى بِه كلمةَ الحقِّ وَمنارَهُ، كَما هو الحديث المأثور في ذلك، فظهر بما(11) أبديناه كيفية اجتماع الحدِيْثَين(12)، وَتقوية أحدهما الآخر.
          وهنا بحث وَهو أن يُقال: مَا هي الحكمة بأنْ تأوَّل سيِّدنا صلعم اللَّبنَ بالعلم الذي أشرنا إليه قبلُ(13)؟ والجواب: أنَّه إنَّما فعل ذلك صلعم اعتباراً بالَّذي تبيَّن(14) له أوَّل الأمر، فأخذ اللَّبن حين أُتيَ بِقدحَين، قَدَحِ خمر وقَدَحِ لبن، فخُيِّر أن يأخذ أيَّهما شاء عند مولده ◙ ، فقال له جبريل ◙ : قبضتَ عَلى الفطرة، لو أخذتَ الخمر غَوَتْ(15) أَمَّتُك _يعني بالفطرة: فطرةَ الإسلام(16)_ {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاس عَلَيْهَا} [الروم:30].
          وحقيقةُ الفِطرة تقتضي المعرفة بحقيقة الرُّبوبية وَجلالِها وَكمالِها، وأنَّها(17) الغالبة على أمرها، وَما نقص مَن نَقَص مِن ذلك إلَّا بالمجاورة للغير، كما قال الصَّادق صلعم : «كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفِطْرةِ، فَأَبَواهُ يُهوِّدَانِه أو يُنْصِّرَانِهِ(18) أو يُمَجِّسَانِهِ».
          وفيه دليل على جواز بثِّ الرؤيا لمن هو أقلُّ عِلماً مِن الرائي. يُؤخذ ذلك مِن ذِكْر سيِّدنا صلعم رؤياه للصَّحابة ♥.
          ويترتَّب على ذلك مِن الفقه إلقاءُ العالِم المسائلَ وسؤالُه فيها لمن هو دونه في المرتبة.
          وفيه / دليل على أنَّ مِن الأدب في علم العبارة إذا قصَّ الرُّؤيا مَن هَو أعلم بها عَلى مَن دونَهُ أن يردَّ الأمر في ذلك إليه ويسأل(19) عَن معناها، فإنَّه يغلب عَلى الظنِّ أنما(20) كان ذِكره ذلك لمن هو(21) دونه إلَّا أن يسألوه فيُعَلِّمُهُم(22). يُؤخذ ذلك مِن قول الصَّحابة ♥ لَمَّا قصَّ سيِّدنا صلعم الرؤيا، لأنَّه ◙ ما(23) أراد منهم أن يُعْلِمُوه تأويلَها(24)، وإنَّما كان قصده أن يسألوه فيُعْلِمَهُم، فلحسنِ(25) أدبهم فهموا عنه(26) فعملوا عَلى ما يقتضيه الأدب، فاستفادوا وَأفادوا. وَكذلك ينبغي الأدب في جميع العلوم، فإنَّ مِن سنَّة(27) العلم الأدبَ فيه وَمع أهله إذا كان لله.
          وفيه دليل عَلى أنَّ عِلْم سيِّدنا صلعم بالله ╡ وَجلاله لا يَبْلُغُه فيه غيرُه. يُؤخذ ذلك مِن أنَّه ◙ شرب كما أخبر حتَّى رأى الرِّي يخرج مِن أظافره(28)، ثمَّ أعطى فضلَهُ عمر. فانظر بنظرك إلى الَّذي شَرِب(29) فَضْلَه ◙ كيف كان قوَّة علمه الذي لم يقدر أحد مِن الخلفاء(30) يماثله فيه؟ فكيف بغيرهم مِن الصَّحابة ♥؟! وكيف مَن بعد الصَّحابة؟! ثمَّ انظر كيف يكون مَن شرب حتَّى رأى الريَّ يخرج مِن أظفاره؟! لا يمكن أن يبلغ أحد ذلك المقام.
          فجاء شربه صلعم وَشُرب عمر كما مثَّل(31) صلعم بقوله: «أنا مَدِينةُ / الشَّجاعة وعُمَر بابُهَا». فإنَّ نسبة مَا شرب ◙ مِن ذلك اللَّبن والذي شربه عمر(32) كنسبة المدينة وسعتِهَا مِن الباب، وقَدْرِ مساحته وقَدْر سعته، فما أحسنَ عباراته صلعم ! وما أحلى إشاراته!.
          وفي تمثيله ◙ في اليقظة بالمدينة وبابها، وما مثَّل له في النوم بالشرب عَلى ما هو مذكور في الحديث، وكيف ظهرت النِّسبة بينهما عَلى حدٍّ سواء.
          وفيه دليل على أنَّ كلامه ◙ كلَّه(33) بالله وعن الله، ولو كان مِن عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً.
          وفيه دليل عَلى مَا قدَّمناه في الحديث قبل(34): أنَّ مِن الرؤيا ما يكون يدلُّ عَلى الحال وَعلى الماضي، فإنَّ هذا الَّذي رأى سيِّدنا صلعم هو تمثيلٌ بأمرٍ قد وقع، فإنَّ الَّذي أُعطي ◙ مِن العلم بالله قد كان، وَكذلك عمر، فكانت فائدةُ الرؤيا أنْ عرَّف بقدر النِّسبة التي بين مَا أُعطي ◙ مِن العلم ومَا أُعطي منه عمر، وإنْ(35) كان ◙ السببَ فيه لعمر ☺، وعلى يديه الكريمتين كان(36) ذلك الخير، ولأنْ يُعرِّف به الغير حتَّى يَقْدِرَ لكلِّ أحدٍ قَدْرَه بحسب ما فتح الله عليه مِن الخير، ولذلك(37) قال صلعم : «أَنْزِلُوا النَّاسَ مَنَازِلَهُم، _أيْ: بِقَدْر ما جَعَلَ اللهُ لَهُم_ ولا تَبْخَسُوا، ولا تَتَعالوا(38)، وأَقِيْمُوا الوزنَ بالقِسْط، وكُونُوا عَبِيداً ولا تَكُونُوا مَوالي(39)» أو كما قال ◙ . /


[1] في (ب): ((عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلعم يقول: بينا أنا نائم إذ أتيت بقدح لبن فشربت منه حتى إني لأرى الري يخرج من بين أظفاري، ثم أعطيت فضلي عمر. قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم)).
[2] زاد في (م): ((ابن))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] قوله: ((قال)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ب): ((يهديه)).
[5] زاد في (ج): ((به)).
[6] في (ت) و(ب): ((لا يعلم حقيقته [في (ب): ((حقيقة))] حتَّى يكون العالم)).
[7] في (ج): ((أعطاه)).
[8] في (ج): ((لم)).
[9] قوله: ((يقولون)) ليس في (ب).
[10] قوله: ((فيه)) ليس في (ج). وفي (ب): ((به)).
[11] في (م): ((مما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] في (ج): ((الحديثان)). كذا هي في (ت).
[13] قوله: ((إليه قبل)) ليس في (ج).
[14] في (ج) و(ب): ((بين)).
[15] في (ج) و(ب): ((غويت)).
[16] زاد في (ب): ((و)).
[17] في (ج): ((وإنما)).
[18] في (ج): ((وينصرانه)).
[19] في (ب): ((ويسأله)).
[20] في (م): ((أن))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[21] قوله: ((هو)) زيادة من (م) على النسخ الأخرى.
[22] في (م) (ت): ((يعلمهم))، والمثبت من (ج) و(ب).
[23] في (ج): ((لما)).
[24] قوله: ((تأويلها)) ليس في (ب).
[25] في (م) و(ت): ((فبحسن))، والمثبت من (ج) و(ب).
[26] قوله: ((عنه)) ليس في (ب).
[27] في (ج): ((جملة)).
[28] في (ب): ((أظفاره)).
[29] في (ب): ((يشرب)).
[30] في (ب): ((من الخلق أن)).
[31] زاد في (ت): ((بقوله)).
[32] في (ب): ((فأن نسبة ما شرب عمر)).
[33] قوله: ((كله)) ليس في (ج).
[34] في (ب): ((قبله)).
[35] في (ج): ((أعطيي منه فإنه)).
[36] زاد في (ج) و(ت): ((له)).
[37] في (ج): ((وكذلك)).
[38] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((تتغايوا))، وفي (المطبوع): ((تتغالوا)).
[39] في (ج): ((بالقسط في كل الأمور وكونوا موالي))، في (ت) و(ب): ((بالقسط في كل الأمور وكونوا عبيداً ولا تكونوا موالي)).