بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لا يقولن أحدكم خبثت نفسي ولكن ليقل لقست نفسي

          248-قوله صلعم : (لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: خَبُثَتْ نَفْسِي...) الحديثَ(1). [خ¦6179]
          ظاهر الحديث النَّهي عن أن يصف أحدٌ نفسَه بالخبث، ولكن إنْ ظهر له(2) منها مَا لا يعجبه يعبِّر عن ذلك بقوله: (لَقِسَتْ نَفْسِي). والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أن يُقال: هل النَّهي عنها(3) / على طريق الكراهة، أو الحظر(4)؟ وهل الأمر بقوله: (لَقِسَتْ) على طريق الندب، أو على طريق الوجوب؟ وإن(5) كان عَلى طريق النَّدب هل يُعبَّر(6) بغير هَذه الصيغة أم لا؟ وما الحكمة في منعه مِن قول(7): «الخبث»؟ وَهل يكون المنع مِن هذه اللَّفظة لا غير، أو كلِّ ما(8) في معناها؟
          أمَّا قولنا: هل(9) النَّهي على طريق الحظر أو الكراهة؟ احتمل، والظَّاهر أنَّه على طريق الكراهة بحسب ما أعلِّلُهُ بعدُ.
          وأمَّا قولنا: هَل الأمر بقوله: (لَقِسَتْ نَفْسِي) عَلى الندب أو الوجوب(10)؟ اللَّفظ محتمل، والظاهر هنا الندب عَلى ما يُعلَّل بعدُ(11).
          وأمَّا قولنا: إن كان عَلى الندب هل يعبَّر(12) بغير (لَقِسَتْ).
          فالجواب: إنَّ الأولى في المندوب صيغة(13) لفظه صلعم، لِمَا في ذلك مِن الخير، وإن عبَّر بما في معناها(14) فقد خرج عن المنهيِّ عنه، ودخل في باب المندوب، إلَّا أنَّه ترك الأَولى مِن المندوب لتركه(15) اللَّفظ المبارك.
          وأمَّا قولنا: ما الحكمة في نهيه صلعم عَن ذلك؟ فإنْ قلنا: تعبُّد؛ فلا بحث، وإن قلنا: لحكمة، فما هي؟ فاعلم _وفَّقنا الله وإيَّاك_ أنَّه ◙ كان يُعْجِبهُ الفألُ الحسن، ويَكْرَهُ السيِّئ منه، فكراهيته ◙ اللَّفظ الخبيث لوجهين(16)، والله أعلم:
          (أحدهما): كراهيته ◙ مِن أن يكون فألاً، فإنَّها لفظة ثقيلة، كما نهى صلعم أن يسمِّي أحدٌ عبدَه أو(17) ابنه: / خيراً، خيفة أن يقول طالبه: هُنا خير؟ ولا يكون حاضراً، فيُقَال له(18): ليس هنا خير.
          و(الوجه الثَّاني)(19): كَراهة أن يشهد المرء عَلى نفسه بالفسق، لأنَّ نفسَ الفاسق والكافر والفاجر نفسُ كلِّ واحد منهم خبيثةٌ. فلمَّا كانت تلك اللَّفظة تحتمل جملة معانٍ(20) قبيحة مَنَعَ ◙ المؤمنين أن(21) يُعبِّروا بها عمَّا يجدون في نفوسهم مما لا يرضونه(22) مِن عجزها أو مَا يشبهه، وأبدل لهم لفظة حسنة وهي قوله: (لَقِسَتْ)(23)، وهذا مِن نوع الفأل الحسن.
          ويترتَّب على هذا مِن الفقه: أنْ يطلب المرء أنواع الخير، حتَّى ولو بالفأل الحسن، ويُضيف الخير إلى نفسه وَلو بنسبة ما، وإن(24) ضعُفت، طمعاً(25) في فضل الكريم الجواد، ويدفع عن نفسه السوء(26)، ويكرهه حتَّى التفاؤل به، ولا يكون بينه وبين أهله صِلَة(27)، ويقطعها القَطْع الكُلِّيَّ(28) حتَّى في الألفاظ المشتركة التي تقع معبِّرة عن حاله وحالهم، يَعْدِل عنها خيفة شؤمها. أعاذنا الله تعالى مِن ذلك بمنِّه(29).
          ومما يقوي مَا أشرنا إليه ما رُوي عن عمر بن الخطاب ☺ أنه أتاه أعرابي فقال: «ما اسمك؟ فقال: جمرة. فقال: ابن مَن؟ فقال: ابن شهاب. قال: ممّن؟ قال: من الحُرَقة. قال: أين مسكنُك؟ قال: بحَرَّة النّار. قال: بأيِّها؟ قال: بذاتِ لَظى. قال عمر: أدرِك أهلك فقد احترقوا» فكان كما قال عمر ☺. رواه مالك في موطئه(30). /
          وأمَّا قولنا: هل النهي عن هذه اللَّفظة لا غير، أو عنها وعمَّا(31) في معناها؟ فإذا قلنا بتعليل قوله فينبغي المنع منها وما في معناها للعلَّة المذكورة لا سيما ما ذكرنا عَن عمر ☺ آنفاً.
          وإن قلنا: تعبُّد(32)، فلا يتعدَّى الحكم إلى غيرها(33)، وليس بظاهر. ويجِبُ بالقول(34) بالتعليل أن يمنع ما اتَّخذه اليومَ بعض النَّاس أنَّه إذا كان به شيءٌ يقول(35): نفسي ليست بطيِّبة، أو أنا ليس(36) بطيِّب. يُخرِج نفسَه مِن الطيبين، فإذا(37) أخرجها مِن الطيبين ألحقها بالخبيثين، وكذلك كلُّ ما كان مِن هذا النوع: المنع فيه هو الأولى(38).
          وفيه دليل عَلى كثرة شفقته صلعم على أمَّته. يُؤخذ ذلك مِن نهيه ◙ عن هذا ومَا أشبهه.
          وفيه تنبيه لأهل القلوب، لأنَّ مِن الألفاظ والحركات مَا هي إشارة مِن الغيب(39) لمن فهم، ولولا ذلك ما كان ينهى صلوات الله عليه وسلامُهُ عن(40) هذا وأشباهه.
          وممَّا يُروى عن بعض أهل القلوب أنَّه خرج متوجهاً في حاجة(41)، فقابله دكَّان صاحب الحاجة(42) وهو قد نزل إلى حاجة له، وجعل على دكَّانه عودَيْن على شِبه لام ألف، فلمَّا رآها الفقير رجع. فقيل له في ذلك، فقال لهم: أَمَا ترون على دكَّانه العلامة أنَّها(43) ليست عندَه؟ فقالوا: وما هي؟ فقال: لام ألف: عبارة عن لا شيءَ هنا. فلمَّا كان بعد مجيئه سأله بعض / أصحاب الفقير عمَّا قال، فقال صاحب الدكَّان: صَدَقَ الفقير، الحاجة لم تكن عندي.
          ومِن قول بعضهم مَا يقوِّي هذا المعنى: الاعتراضُ على الرُّموز جفاء إن فَهِمت، وإلَّا فلا تعترض على ما ليس لك(44) به عِلْم. وممَّا يؤيِّد ذلك قوله صلعم : «المؤمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللهِ». فمن نظر بالنور فهو(45) موضع الإشارة، ومَن لم يكن له نور(46) لم يلتفت إلى شيء وبقي مثل البهيمة، فإمَّا أن يجعل الكلَّ رموزاً فيخرج بذلك إلى باب عظيم مِن الفساد، وإمَّا أن(47) يسدَّ هذا الباب مرَّة واحدة فتفوته هَذه الرموز وتتغطَّى(48) عَنه، فهذا في حقِّه أسلم له إذا سلَّم الأمر إلى أهله.
          وَهذا إنَّما هُو لأهل الميراث والنُّور والتوفيق كَما ذكرنا(49) عن عمر ☺ فيما تقدَّم مِن الكتاب، ومَن رزقه الله مِن(50) ذلك الميراث(51) نسبةً مَا، ولذلك قال صلعم : «إنَّما أَنَا قَاسمٌ واللهُ يُعْطِي(52)». فوجوه الخير على يده صلعم تتابعت، وقَسَم لمن قَسَم ما قُدِّر له.
          جعلنا الله ممَّن أُجْزِل نصيبُهُ مِن تلك الخيرات، إنَّه وليٌّ حميدٌ.


[1] في (ب): ((عن عائشة ╦ عن النبي صلعم قال: لا يقولن أحدكم: خبثت نفسي ولكن ليقل: لقست نفسي)).
[2] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[3] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((هنا)).
[4] في (ج): ((الحصر)).
[5] في (ج): ((إن)).
[6] قوله: ((يعبر)) ليس في (ج).
[7] في (ب): ((من قوله)).
[8] زاد في (ج) و(ت): ((هو)).
[9] في (ت): ((على)).
[10] في (ج): ((على طريق الوجوب أو الندب)).
[11] قوله: ((وأمَّا قولنا: هَل الأمر بقوله: (لَقِسَتْ... هنا الندب عَلى ما يُعلَّل بعدُ)) ليس في (ب).
[12] في (ب): ((وأما قولنا هل إن كان على... يعبر)).
[13] في (ب): ((وصيغته)).
[14] في (ب): ((معناه)).
[15] في (ب): ((ولتركه)).
[16] في (ب): ((◙ لذلك الوجه الخبيث لوجهين)).
[17] في (ب): ((أن يسمي أحداً أو عبده أو)).
[18] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[19] قوله :((الثاني)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ج): ((معاني)).
[21] في (ج): ((بأن)).
[22] في (ب): ((عما يجدوا في أنفسهم مما لا يرضوه)).
[23] زاد في المطبوع: ((لأنَّ المَعِدةَ لا تَلْقَس إلا حين تكون مملوءة طعاماً، وكذلك نفسُ المؤمن قد امتلأت بالخير حتى أكثر ممَّا تطيقه فظهر منها اللَّقَس، لكثرة امتلائها بالخيرات))، وقوله بعدها: ((وهذا)) ليس في (ب).
[24] في (ج): ((ولو)).
[25] في (ب): ((طلباً)).
[26] في (ت) و(ب): ((الشر)).
[27] في (م) و(ج) و(ت): ((وصلة)) ولعل المثبت هو الصواب.
[28] قوله: ((حتَّى التفاؤل به، ولا يكون بينه وبين أهله صِلَة، ويقطعها القَطْع الكُلِّيَّ)) ليس في (ب).
[29] زاد في (ب): ((وكرمه)).
[30] العبارة في (ج) و(ت): ((ومما يقوي مَا أشرنا إليه ما رُوي عن عمر ☺ أنَّه أتاه أعرابي فسأله عن اسمه واسم أبيه واسم قبيلته وأين منزله؟ فكنَّى عن كلِّ واحد منهم باسم مِن أسماء النار. فلمَّا رأى عمر ☺ قوَّة شبهه بأهل النار لترادف أسمائها في كلِّ مَن [في (ب): ((ما))] سماه مِن نفسه حتَّى إلى منزله، قال له: اِلْحَقْ [في (ت): ((أَلحِقْ)) بضبط الحركات] بأهلك فإنَّهم قد احترقوا، فذهب الأعرابي إلى أهله فوجدهم قد احترقوا كما أخبر ☺)).
[31] في (ج): ((لا غير أو عنها وعنه ما))، وفي (ب): ((لا غير أو عمَّا هو)).
[32] في (ب): ((تعبدي)).
[33] في (م): ((غيرهما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (ب): ((ويجب القول)). وفي (المطبوع): ((على القول))، وبعدها في (ب): ((بالتعليل أن يمنعوا)).
[35] قوله: ((يقول)) ليس في (ج).
[36] في (ج): ((وأنا ليس)).
[37] في (ت): ((فماذا)).
[38] في (ب): ((من هذا النوع فيها هو الأولى)).
[39] في (ج): ((العتب)).
[40] في (ب): ((ما كان ينهى عن السيد صلعم عن)).
[41] قوله: ((في حاجة)) ليس في (ج)، وبعدها في (ب): ((فقابله وكان)).
[42] زاد في (ج): ((له)).
[43] في (ب): ((العلامة على أنها)).
[44] قوله :((لك)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (ت) و(ب): ((فهم)).
[46] في (م) و(ت) و(ج): ((نور ما)).
[47] قوله: ((أن)) ليس في (ج).
[48] في (ب): ((وتغطى)).
[49] في (ج): ((ذكر)).
[50] في (ب): ((ومن رزقه من)).
[51] قوله: ((كَما ذكرنا عن عمر ☺ فيما تقدَّم مِن الكتاب، ومَن رزقه الله مِن ذلك الميراث)) ليس في (ب).
[52] زاد في (ج): ((من يشاء)).