بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته

          115- قولها: (جَاءَتِ امْرَأَةُ رِفاعَةَ الْقُرَظِيِّ النَّبِيَّ(1) صلعم فَقَالَتْ: كُنْتُ عِنْدَ / رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي(2)...) الحديث.
          ظاهر الحديث يدلُّ على تحريم المطلَّقة المبتوتة على مَن طلَّقها، حتَّى تَنكِح زوجًا غيره بنكاح صحيح ويَطَأَها وِطْئًا صحيحًا(3). [خ¦2639]
          وقولها: (فَأَبَتَّ(4)، فَتَزَوَّجْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ(5)) أي وصل إلى الثَّلاث التي المراجعة(6) بعدها ممنوعة، وهذا مِن كثرة اختصارها وبلاغتها في الفصاحة؛ لأنَّها شَكَتْ حالها للنَّبي صلعم، وأتت إليه بمسائل جملة بلفظ قليل؛ لأنَّ قولها: (فَأَبَتَّ...) إلى قولها: (فَتَزَوَّجْتُ(7) عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ، إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ) معناه: أنَّها تقول(8): ثمَّ بعد هذا الأمر الذي أصابني هذا الرجل الذي تزوَّجت به وهو عبد الرحمن ليس معه بما يبلغ به النِّساء إلى أغراضهن _تعني(9) في النكاح_ فكَنَت عن ذلك بأحسنَ ما يكون مِن الكناية، لأنَّ قولها: (إِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ) كناية منها عن الفرج، فهي تقول: ليس معه بما يصيب النِّساء؛ لأنَّ فرجه مثلُ هدبة الثَّوب(10)، وهُدبة الثَّوب: هي تلك(11) الخيوط التي تتعلَّق مِن الثَّوب(12) وتتدلَّى منه، وهي الأطراف.
          وقوله ╕: (أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي(13) إِلَى رِفَاعَةَ؟ لَا، حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ). فهذا أيضًا مِن أبدع ما يكون مِن البلاغ(14) في الفصاحة والاختصار مع إيصال الفائدة وحسن الكناية؛ لأنَّه ◙ كَنَّى عن نفس الجِماع بقوله: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» فكنَّى بالعسل / عن الجِماع؛ لأنَّ العسل فيه حلاوة ويُلتذُّ بأكله، والجماع له حلاوة مِن نسبته أيضًا ويُلتذُّ به.
          وقولها: (وَأَبُو بَكْرٍ جَالِسٌ عِنْدَهُ) فيه دليلٌ على أنَّ الحياء في الدِّين عند الضَّرورة لبيان ما يحتاج المرء(15) مِن دينه ممنوع؛ لأنَّها سألت النَّبيَّ صلعم عن(16) هذا الأمر، وهو مما يُسْتَحْيى منه، وأبو بكر حاضر، فكان ينبغي أن يكون ذكر ذلك، إذ ولابدَّ منه وهو وحدَه، ولكن(17) لمَّا أن كان لابدَّ لها مِن السؤال عن(18) ذلك ولم تجد النَّبي صلعم وحدَه لم يمنعها الحياء أن تسأل بحضرة أبي بكر، ثم إنَّ أبا بكر ☺ صِهر رسول الله صلعم وهذا الأمر مما يُستحيى منه بحضرة الأصهار فلم ينهها النَّبي صلعم عن سؤالها، وأفصح لها بمرادها مع حضرة أبي بكر ☺ وإن كان صهره هذا(19) مع شِدَّة حيائه صلعم، لكن لمَّا أن(20) كان الأمر في الدين لم يمنعه الحياء مِن الكلام به، ولهذا قالت عائشة(21): (نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الأَنْصَارِ؛ لَمْ يَمْنَعْهُنَّ الحَيَاءُ مِنْ(22) أَنْ يَتَفَقَّهْنَ(23) فِي الدِّينِ) فالحياء في مثل هذا الأمر لا يسوغ، وهو ممنوع شرعًا.
          لكن يعارض هذا ما حُكِي(24) عن علي ☺ أنَّه أمر المقداد(25) أن يسأل له رسول الله صلعم عن الرجل إذا دنا مِن أهله فأَمْذَى(26) ماذا عليه؟ وعلَّل ذلك(27) بأن قال: استحييتُ(28) أن أسأل رسول الله صلعم لمكان ابنته. والجمع(29) بينهما هو أنَّه إذا وجد المرءُ مَن يقوم مَقامه / فلا بأس، وإن لم يجد فلا يجوز له أن يسكت عنه؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يكن له بدٌّ مِن الإفصاح بذلك؛ لأن غيره لا يقوم مقامه فيه، وعلي ☺ وَجَدَ سبيلًا إلى وصوله إلى الفائدة التي أراد من غير أن يتعرض بنفسه إلى السؤال.
          وفيه دليل على أنَّ البشر معذورون فيما جُبلت عليه البشرية مِن احتياجهم إلى الأكل والشرب(30) والجماع وما أشبه ذلك، وأنَّهم معذورون في التسبُّب إلى ما يزيلون به ذلك إذا لم يقدروا على(31) الصبر عنه، إلا أنَّه يكون على لسان العلم، وإلَّا فلا عذرَ فيه(32)، يؤخذ ذلك مِن كون هذه المباركة لم تقدر(33) أن تستغني عن النكاح لقوة(34) الباعث عليها في ذلك، فَشَكَتْ ذلك لرسول الله(35) صلعم فأعذرها(36) في الشكوى؛ لأنَّه لم يُثَرِّب عليها ولا زَجَرها ولم يَعْذِرها في قاعدة الشرع ومنعها بأن قال: (لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ).
          وفيه بحث آخر(37)، وهو أن يقال(38): لِمَ قال: (حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ) ولم يخبر بالوصف الواحد؟
          والجواب(39) عن ذلك: أنَّه لمَّا كَنَى عمَّا يجد المتناكحان(40) مِن لذَّة النكاح كما يجده(41) آكل العسل فلا يكون النكاح الصحيح إلا بهذين الوصفين؛ لأنَّه إذا كان أحدُهما قويَ شهوة النكاح عليه أَمْنَى(42) قبل بلوغ الختان إلى الختان، وهذا الإمناء هو الذي عبَّر عنه بالعُسيلة(43)، فيكون قد أصاب عُسيلة / صاحبه ولم يحصل(44) صفة النكاح الذي يُحلُّ المطلقة ثلاثًا؛ لأنَّه لا يحصل حتَّى يبلغ(45) الخِتانُ الخِتانَ، ولا يجد(46) الاثنان حلاوة النكاح الذي هو الإمناء غالبًا إلا بعد حصول الصفة المذكورة التي تُحِلُّ المطلقةَ ثلاثًا لزوجها الأول وهو بلوغ الخِتانِ إلى الخِتان(47) مرَّتين، فمِن أجل هذه العلَّة ذكر رسول الله(48) صلعم العُسَيلة مرَّتين.


[1] في (م): ((إلى رسول الله)) وفي (ل): ((إلى النبي)).
[2] قوله: ((طلاقي)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[3] في (ج) و(م): ((مباحاً)).
[4] قوله: ((فأبت)) ليس في (ل).
[5] قوله: ((فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير)) ليس في (ج) و(م).
[6] في (ج) و(م) و (ل): ((الرجعة)).
[7] قوله: ((قولها: فتزوجت)) ليس في (م) وفي (ل): ((إلى قولها حتى)).
[8] في (ج): ((أنه يقول)).
[9] في (ج) و (ل): ((يعني)).
[10] قوله: ((كناية منها عن الفرج، فهي تقول ليس معه بما يصيب النِّساء، لأنَّ فرجه مثل هدبة الثَّوب)) ليس في (ج).
[11] قوله: ((هي تلك)) ليس في (ج).
[12] في (م): ((وهدبة الثوب الذي تتعلق من الثوب)).
[13] في (ط): ((ترجعين)).
[14] في (ج): ((الإبداع))، وقوله: ((من البلاغ)) ليس في (م).
[15] قوله: ((المرء)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (ط) و(م): ((على)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] قوله: ((لكن)) ليس في (م).
[18] في (ل): ((على)).
[19] قوله: ((هذا)) ليس في (م)، وبعدها في (ج): ((من)).
[20] قوله: ((أن)) ليس في (ل).
[21] في النسخ: ((قال ◙))، والمثبت هو الصحيح.
[22] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[23] في (ل): ((الحياء من التفقه)).
[24] في (ج) و(م): ((روي)).
[25] في (ج): ((المقدام)).
[26] في (ج) و(م): ((إذا أمذى)).
[27] قوله: ((وعلل ذلك)) ليس في (م).
[28] في (ج) و(م): ((فاستحييت)).
[29] العبارة في (ل): ((وعلل ذلك بأن قال ابنة رسول الله صلعم عندي وأنا أستحيي أن أسأله والجمع)).
[30] قوله: ((والشرب)) ليس في (ل).
[31] في (ج): ((عن)).
[32] في (ل): ((له)).
[33] في (ل): ((يقدر)).
[34] في (ج) صورتها: ((لعدة)).
[35] في (ج): ((إلى النبي)).
[36] في (ج) و(م): ((فعذرها)).
[37] قوله: ((آخر)) ليس في (ج)، وفي (م): ((فيه بحث)).
[38] قواه: ((أن يقال)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] في (ج) و(م) و (ل): ((فالجواب)).
[40] في (ج) و (م): ((كان عما يجد المتناكحين)).
[41] في (ط): ((يجد))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[42] في (ج): ((قوي للنكاح أمنى))، وفي (م): ((قوي الشهوة للنكاح أمنى)).
[43] في (ط) و (ل): ((وهذا الإمناء هو الذي عبر عنه بالعسيلة قبل بلوغ الختان إلى الختان)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[44] في (ج) و (ل): ((تحصل)).
[45] في (ج) و(م): ((يجاوز)).
[46] في (ط) و(ل) و(ج): ((ولا يجدان)) والمثبت من (م).
[47] في (م) و (ج): ((وهو مجاوزة الختان الختان))، وقوله بعدها: ((مرتين)) زيادة من (ج) على النسخ.
[48] قوله: ((رسول الله)) ليس في (م) و (ل).