بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: أن رسول الله طرقه وفاطمة بنت رسول الله ليلة...

          293-قول(1) عليٍّ ☺: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رسول الله صلعم لَيْلَةً...) الحديثَ(2). [خ¦7465]
          ظاهر الحديث يدلُّ على ثلاثة أحكام:
          أحدهما: الحضُّ على قيام اللَّيل. والثاني: أنَّ استيقاظَ النَّائم إنَّما هو بيد الله تعالى، لا عمل فيه للخلق. والثالث: أنَّ الجواب بالقدرة(3) عَلى الحكمة ليس مِن طريق التكليف، والمقصد أن يكون الجواب عَلى الحكمة بمقتضى الحكمة، وعلى القدرة بمقتضى القدرة. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: جواز المشي باللَّيل إلى دور القرابة وذوي(4) الأرحام. يُؤخذ ذلك مِن قوله: (طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ لَيْلَةً)، لأنَّ كلَّ ما يأتي باللَّيل يُقال له: طارق، وكذلك(5) بالنَّهار. ولذلك كان(6) مِن دعائه صلعم أنَّه كان يَسْتَعِيذُ مِن: «طارقِ اللَّيلِ والنَّهارِ إلَّا طارقٍ يَطْرُقُ بخيرٍ».
          وفيه دليل على أنَّه إذا تكلَّم العالِم بمقتضى الحكمة(7) وَكان ذلك في غير واجب، فوقع الجواب على ذلك بالقدرة أنَّ ذلك كافٍ في الجواب، ويقطع البحث. يُؤخذ ذلك مِن أنَّه لَمَّا طالبهم(8) سيِّدنا صلعم بأثر الحكمة، وهو قيام اللَّيل _وجاوبه عليٌّ ☺ بأثر القدرة_ وهو إخباره بقوله: (إِنَّمَا أَنْفُسُنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا(9) بَعَثَنَا) فانصرف رَسول / الله صلعم حين قال له ذلك، ولم يراجعه بشيء.
          وفيه دليل على أنَّ الرَّجُل إذا كان الخطاب له ولأهله هو أولى بالجواب. يُؤخذ ذلك مِن خطاب سيِّدنا صلعم لبنته ولعليٍّ صلوات الله عليه ورَضي عنهم أجمعين، فجاوبه(10) عليٌّ ☺، وسلَّم له رسولُ الله صلعم ذلك بانصرافه مِن حينه، ولم يقلْ له شيئاً.
          وفيه دليل على جواز(11) محادثة الشَّخص نفسه بأمر الغير(12). يُؤخذ ذلك مِن قول سيِّدنا صلعم بعدما ولَّى عنهم، وهو وحدَه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54].
          وفيه دليل على جواز ضربِ المرء بعضَ أعضائه ببعض عَلى أمرٍ يتعجَّب منه، أو يعلم(13) به غيره، إشعاراً له أنَّه مَا رأى منه لم يوافقه ولا(14) يعجبه. يُؤخذ ذلك مِن ضربه صلعم فخذه بَعْدما ولَّى عنهم، وكلامه إذ ذاك بقوله: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]، لأنْ يُعْلِمَهم أنَّ ذلك الجوابَ لم يرتضهِ منهم.
          وهنا بحث وهو أن يُقال: لِمَ لَمْ يَقُل لهم(15) ذلك مشافهة؟ فالجواب: أنَّه لَمَّا عَلِم سيِّدنا صلعم أنَّ علياً ☺ لا يجهل أنَّ الجواب بالقدرة عَن(16) الحكمة أنَّه ليس مِن الحكمة، فاحتمل(17) أن كان لهما عذرٌ يمنعهما مِن الصَّلاة، واستَحْيا أن يذكره للنَّبيِّ صلعم، ولا يمكنه عدم الجواب له، فدفع الخجل عَن نفسه وعَن أهله بذكر / القدرة، ولذلك الإمكان ولَّى النَّبيُّ صلعم عنهم مسرعاً، مِن أجل ألَّا يشغلهم عَن أخذ الأُهبة للصَّلاة.
          واحتمل أن يكون ذلك مِن عليٍّ ☺ استدعاءَ جواب(18) مِن النَّبيِّ صلعم لأن يزيده(19) فائدة(20)، فكان ضربُ فخذِهِ صلعم وهو مولٍّ، وكلامه بما به(21) تكلَّم جواباً لعليٍّ ☺ لأن تحقَّق(22) عنده الأمر على ما هو عليه، وأنَّ العبودية شأنها ألَّا تطلب لنفسها عذراً(23) مع الشريعة أبداً إلَّا الاعتراف بالتقصير، والأخذ بالاستغفار والاعتذار.
          وفيه دليلٌ على فضل عليٍّ ☺. يُؤخذ ذلك مِن روايته(24) لهذا(25) الحديث، وقد يسبق لفهم مَن لا يعرف قَدْره ما يحتمل الحديث مِن(26) العَتَب عليه، وحاشاه عن ذلك. فلمَّا كان الإخبار به ممَّا يترتَّب عليه في الدِّين فوائدُ لم يبالِ بشيءٍ مِن ذلك فيه(27).
          وفيه إشارة إلى أنَّ مِن حقيقة الصُّحبة وَالقرابة التِّذكارَ عند الغفلة. يُؤخذ ذلك مِن كون سيِّدنا صلعم لم يطرقهم ليلاً إلَّا ليذكِّرهم بالصَّلاة، لأنَّ اللَّيل وَقت غفلة، وإن كان حالهم جميعاً لا يقتضي(28) غفلة، لكن زمان الغفلة ينبغي أن يُلتفت فيه إلى حال القرابة والإخوان _وهذا مِن السُّنَّة_ وإن كانوا لا يغفلون غالباً، لكن ذلك لخوف(29) مَا طُبعت عليه البشرية.
          وفيه إشارة إلى الالتفات إلى الأصل، وإنْ كان الظَّاهر / خلافه، لأنَّ الأصلَ هنا الغفلة وأشباهها، والتوفيقُ والتزكيةُ فضل رباني: {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21] فينبغي على ذلك أن يتفقَّدَ(30) المرءُ نفسَه وأحبابه(31) بتذكار الخير والعون عليه، وإن كان سبحانه(32) قد منَّ عليهم بذلك، لكن ذلك مِن أجل مَا ذكرناه، وَلكي يحصل فضل آخر، وَهو دخولهم بذلك تحت حدِّ قوله ╡ : {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وكذلك كانت سُنَّة سيِّدنا صلعم تفقُّد(33) الصحابة ♥ بالموعظة في بعض الأيَّام، وهم على ما هم عليه مِن قوة الإيمان، وكانوا يودُّون أنْ لو كان ذلك كلَّ يوم فقال لهم: «ما يَمْنَعُنِي مِن ذلكَ إلَّا خَوْفُ السَّآمةِ والمَلَلِ» فبهداهم اقتدِهِ.
          جعلنا الله ممَّن اهتدى بهداهم(34) بمنِّه.


[1] في (ج): ((قال)).
[2] في (ب): ((عن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ☺: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ رسول الله صلعم لَيْلَةً، فَقَالَ لهم: أَلاَ تُصَلُّونَ؟ قال علي: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إنَّ أَنْفُسَنَا بِيَدِ اللَّهِ، فَإِذَا شَاءَ أَنْ يَبْعَثَنَا بَعَثَنَا، فَانْصَرَفَ رسول الله صلعم حِينَ قُلْتُ له ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ إِلَيَّ شَيْئًا، ثُمَّ سَمِعْتُهُ وَهُوَ مدبرٌ يَضْرِبُ فَخِذَهُ، وَيقول: {وَكَانَ الإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54])).
[3] قوله: ((بالقدرة)) ليس في (ب).
[4] في (ت): ((ودور)).
[5] في (ت): ((كذلك)).
[6] قوله: ((كان)) ليس في (ب).
[7] قوله: ((وفيه دليل على أنَّه إذا تكلَّم العالِم بمقتضى الحكمة)) ليس في (ب).
[8] في (ت) و(ب): ((طلبهم)).
[9] في (ج): ((يبعثها)).
[10] في (ج) و(ت): ((فجاوبه)).
[11] قوله: ((جواز)) ليس في (ب).
[12] في المطبوع: ((الخير)).
[13] في (ب): ((يتعجب أو يأمر)).
[14] في المطبوع: ((ولم)).
[15] قوله: ((لهم)) ليس في (ب).
[16] في (ج) و(ت): ((على)).
[17] في (ج) و(ت): ((فاحتمل)).
[18] في (ب): ((جواباً)).
[19] في (م): ((لا يزيده))، والمثبت من (ج) و(ت). وقوله بعدها: ((فائدة)) ليس في (ج).
[20] قوله: ((فائدة)) ليس في (ج).
[21] قوله: ((به)) ليس في (ج) و(ب).
[22] في (ت): ((تحقيق)). و في (ب): ((يحقق)).
[23] في (م): ((عذر)) و(ب)، والمثبت من (ج) و(ت).
[24] في (ج): ((رؤيته)).
[25] في (ت): ((من هذا)).
[26] قوله :((من)) زيادة من (ب) على النسخ الأخرى.
[27] في (ت): ((لم يبالي بشيء من ذلك)). و قوله: ((من ذلك فيه)) ليس في (ب).
[28] في (ب): ((إن كان حالهم يقتضي)).
[29] في (ج) و(ب): ((الخوف)).
[30] في (ج) و(ت): ((يفتقد)).
[31] في (ج) و(ت): ((وأحباءه)). و في (ب): ((على هذا أن يفتقد المرء نفسه أحياناً)).
[32] في (ت): ((وإن كان الله سبحانه)).
[33] في (ج) و(ب): ((يتفقد))، في (ت) غير واضحة.
[34] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((بهديهم)).