بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: تكفل الله لمن جاهد في سبيله لا يخرجه إلا الجهاد

          154-قوله: (أَنَّ رَسُولَ(1) اللهِ صلعم قَالَ: تَكَفَّلَ اللهُ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ(2)...) الحديث. [خ¦3123]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى أن مَن خرج إلى الجهاد بالنيَّة المذكورة فيه فله(3) أحد الوجهين المذكورين فيه، وهو أن يرجع بالأجر والغنيمة أو يُستشهَد فيدخل الجنَّة ويكون فيها حيًا يُرزَق لقوله تعالى في الشهداء: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ(4) أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] والكلام عليه مِن وجوه:
          الأَوَّل: قَوْلُهُ ╕: (تَكَفَّلَ اللهُ) معناه: ضَمِن الله، لأنَّ الضمان له في اللغة سبعة أسماء ومِن جملتها: الكفيل، والضمان مِن الله سبحانه ضمانُ إفضالٍ لا ضمان وجوب، فإنَّ معناه تأكيد التصديق بحصول(5) الأجر الذي تفضَّل به على المجاهد في سبيله، لأنَّ الوجوب في حقِّه تعالى مستحيل.
          الثَّاني: قَوْلُهُ ╕: (لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ،(6) لَا يُخْرِجُهُ إِلَّا الجِهَادُ فِي سَبِيلِهِ، وَتَصْدِيقُ كَلِمَاتِهِ).
          الجهاد(7) في سبيل الله يحتمل وجوهًا، أظهرها في الوضع(8) قتال العدو، الذي هو الكافر، وكيفية النية فيه هو(9) أن يخرج للغزو يريد به القتال في سبيل الله وإعلاء كلمته لا يريد بذلك غير الله(10)، وَيَحتَسِب قَتْلَ نفسه إن قُتِلَ، وَكل ما يلاقي مِن شِدَّة الحروب وهَوْلِها في حقِّ / الله تعالى لا لظهورٍ(11) ولا لكسبِ(12) دنيا ولا لغير ذلك، والتصديق على ضَرْبين:
          تصديق بوجوبه، والوجوب على ضربين: فرض عين وفرض كفاية وهو مذكور في الفقه.
          وتصديق بما جاء فيه مِن عموم(13) الأجور والإحسان على مقتضى الآيات في الوجهين معًا.
          الثَّالث(14): هل تُقصَر هذه الأجور(15) على الوجه الظاهر؟ وهو قتال(16) العدو، أو تُحمل(17) على ما يقتضيه عموم الجهاد في طاعة الله تعالى؟ وهو الأظهر، كما ذهب إليه بعض الصَّحابة حيث قال لأخيه حين لقيه(18) في طريق المسجد وقد اغبرَّت قدماه، فسأله: أغَيرُ الصلاة أخرجك؟(19)، فقال: لا لم أخرج لغيرها، فقال: شهدت على رسولِ اللهِ صلعم أنَّه قال: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا رَجُلٍ فِي سَبِيلِ اللهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ»، فقال له الرجل: ذلك خاصٌّ بالقتال؟ فقال الصحابي: أفعال الخير كلها في سبيل الله، وقد قال ╕ في الخارج للمسجد(20): «هُوَ في ذِمَّةِ اللهِ إنْ ماتَ أَدْخَلَهُ اللهُ الجنَّةَ، وَإِنْ رجعَ إلى مَنْزِلِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ رجعَ بالأجْرِ والغَنِيْمَةِ(21)» وهذا نصٌّ في المسألة فيجب تعدِّيه في جميع وجوه البر ويكون الأَوَّل منها أظهرها وأعلاها.
          الوجه الرَّابع: هل يتعدَّى الحديث للجهاد المعنوي أم لا؟
          أمَّا ظاهر اللفظ فلا يؤخذ منه التعدِّي، لأنَّه ذكر في الجهاد الحسِّي، وأمَّا على القاعدة التي قررناها في(22) كلام الشَّارع / ╕ أنَّه محمول على كل الفوائد إن أمكن فهو متعدٍّ لا شك فيه سيما في هذا الموضع الذي قد نصَّ ╕ أن الجهاد المعنوي أكبر مِن الحسي، وهو قَوْلُهُ ◙ (23): «هَبَطْتُمْ مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَرِ إِلَى الجِهَادِ الأَكْبَرِ وهُوَ(24) جِهَادُ النَّفْسِ» فإذا كان حكم يُناط بعِلَّة(25) فحيث ما وُجِدَت العلَّة أُنِيْطَ الحكم بها، فالدخول(26) في الجهاد المعنوي يكون بتلك النيَّتَينِ المذكورَتينِ في الحديث وهما: الجهاد في سبيل الله والتصديق بكلماته، ولا يُعوِّل على العيش بعدها إلا إن قُدِّرَ له بذلك، لأنَّ الراجع مِن أثناء الطريق لم تتمَّ له صفقة، وتمام الصفقة هنا هو الموت على ما هو عليه(27) مِن مجاهدة النفس في ابتغاء مرضاة الله تعالى.
          ولهذا المعنى لَمَّا أن جاء لبعضهم ثلاثة نَفَر يطلبون منه التَّربية في السلوك، فقال لأحدهم: كم تصبر؟ فَعَدَّ له أيامًا محصورة(28)، فقال له الشيخ: ما يجيء منك شيء، ثم سأل الآخر، فقال(29): أُطيق أكثر منه(30)، وعدَّ له الأيام، فقال له: ما(31) يجيء منك شيء، ثم سأل الثَّالث، فقال: أصبر حتَّى أموت، فقال له: ادخل، وقد قال بعض الفضلاء مِن أهل هذا الشأن: مَن صَدَق وَصَدَّق قُرِّبَ لا محالة.
          وإنَّما يقع الخلل في الجهادَينِ(32) معًا إذا كان الدخول لحظٍّ دنياوي أوْ نفساني(33)، ومَن دخل بهذا قصده في الحياة(34) وهو يؤمِّلها فقليل أن يقع لمثل هذا النصر، لأنَّه أقل شيء يرى مِن العدو ولَّى / مُدْبِرًا للطمع(35) في الحياة(36).
          وأمَّا إذا كانت النيَّة ما أشرنا إليه(37) فالخلل لا يدخل هناك، لأنَّ مَن دخل بنية أن لا يعيش قلَّ أن ينهزم، لأنَّه إذا عاين الموت لا يفرُّ منه ويقول: هو(38) المطلوب والمقصود، وأعظم ما في الجهادين مِن الوقائع: المَوْت، فإذا كانت(39) أعظم الوقعات هي مَقْصودُهُ فكيف يبالي بما هو أقلَّ(40) منها؟
          ولهذا المعنى كان النَّبيُّ صلعم (41) حين الجهاد يخطب النَّاس ويذكِّرهم ويُعْلِمُهُمْ بما لهم فيه مِن الأجور مثل قَوْله ╕: «اعْلَمُوا(42) أَنَّ الجَنَّةَ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيوفِ» وكفى في هذا دليلًا أنَّ الله ╡ جعل الفرار منه مِن الكبائر، فقال تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16].
          وقد رُوِيَ أن الصَّحابة رضوان الله عليهم كانوا بعد وفاة النبيِّ صلعم (43) يُسَوُّون صفوفَهم ويذكِّرون أصحابهم ويَعِظونهم حتَّى كان بعضهم ينظر مَن هو أفصح في الكلام وأعلى صوتًا فيأمره(44) بالمشي بين الصفوف، فيعِظُ النَّاسَ ويذكِّرهم بما جاء في الجهاد، وكلُّ هذا مُندَرج في ضمن(45) قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ} [الأنفال:65] وما ذكرناه وأوردناه مِن جملة التحريض.
          وكذلك ينبغي في الجهاد الأكبر إذا كان المرء / عالمًا بكيفيته وبما جاء فيه فبها ونِعْمَتْ، وإن لم يكن عالمًا بذلك فليتَّخذ شيخًا يستند إليه عارفًا(46) بذلك الشأن حتَّى يتبيَّن له لسانُ العلم في جهاده(47)، ولسانُ الطريقِ وما يُشتَرَطُ فيه، ولأجل ترك النظر إلى هذه القاعدة كانت المجاهدة اليوم عند جلِّ النَّاس لا تفيد شيئًا لأجل أنهم يدخلون في المجاهدات جاهلين بها(48) مِن الطريقين، وإن كان(49) لأحدهم علم فيكون في الطرف(50) الواحد ويترك الآخر، ومَن حصل له(51) العلم بالطريقين(52) فهو المرْجُوُّ له الخير، وهو على طريق الهدى والتوفيق، فطوبى له، ثم طوبى له(53).
          ومن رُزِقَ التوفيق ولم يكن له علم بهذين الطريقين يحتاج أن يبذل نفسه فيهما لعلَّه أن ينال منهما شيئًا أو مِن بركة أهليهما(54) وقد قال بعض الشعراء:
.....................                      أُحَاوِلُ مُلْكًا أَوْ أَمُوتَ فَأُعْذَرَا
          فإذا كان هذا في طلب مُلك الدنيا فكيف في طلب الآخرة؟ وقد قال عليٌّ ☺: لو كانت الدنيا مِن فِضَّة والآخرة مِن خَزَف، والدُّنيا فانية، والآخرة باقية لكان الواجب أن يُزهَد في الفانية وإن كانت مِن فضة، ويُرغَب في الآخرة وإن كانت مِن خزف، فكيف والأمرُ بضدِّ ذلك؟


[1] في (م): ((عن أبي هريرة أن رسول)).
[2] زاد في (م): ((وتصديق كلماته بأن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه من أجر أو غنيمة)).
[3] العبارة في (ج): ((الوجه الثاني أن رسول الله صلعم قال: تكفل الله لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ، لاَ يُخْرِجُهُ إِلَّا الجِهَادُ بالنية المذكورة فيه فله)).
[4] قوله تعالى: ((وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] في (ج): ((حصول)).
[6] قوله: ((لأنَّ الوجوب في حقه تعالى مستحيل الثَّاني قَوْلُهُ ╕ لِمَنْ جَاهَدَ فِي سَبِيلِهِ)) ليس في (م).
[7] في (ط): ((والجهاد)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (م): ((الموضع)).
[9] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[10] قوله: ((وإعلاء كلمته لا يريد بذلك غير الله)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[11] في (ج): ((للظهور)).
[12] في (م): ((ولا كسب)).
[13] قوله: ((عموم)) ليس في (ط) و (م) و (ج).
[14] في (م): ((الوجه الثالث)).
[15] في (م): ((هل تقتصر هذه الوجوه)).
[16] في (ج): ((قبال)).
[17] في (م): ((العدو وهو يحتمل)).
[18] قوله: ((حين لقيه)) ليس في (م).
[19] في (ج): ((فسأله في الصلاة))، وفي (م): ((فسأله أفي الصلاة أخرجك)).
[20] زاد في (ج) و(م): ((ليعلم خيراً أو ليعلِّمه)).
[21] لم يذكر في (ج) و(م) هذا الحديث الشريف، وأورد بدلاً عنه: ((كان كالمجاهد إن مات مات شهيداً، وإن رجع رجع بالأجر والغنيمة)).
[22] في (م): ((فمن)).
[23] قوله: ((أنّه محمول على كل الفوائد إن أمكن فهو متعدٍّ لا شك فيه سيما في هذا الموضع الذي قد نصَّ ╕ أن الجهاد المعنوي أكبر من الحسي وهو قَوْلُهُ ◙)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[24] قوله: ((هو)) ليس في (م).
[25] في (ج) : ((يناط فعله)).
[26] في (م): ((والدخول)).
[27] قوله: ((عليه)) ليس في (م).
[28] قوله: ((محصورة)) ليس في (ج).
[29] في (م): ((وقال)).
[30] في (ج): ((أكثر من ذلك)).
[31] في (م): ((وعد له أياماً فقال ما)).
[32] في (م): ((المجاهدين)).
[33] في (م): ((نفساوي)).
[34] في (ج): ((الجهاد)).
[35] في (م): ((يرى للعدو ولا يدبر الطمع)).
[36] قوله: ((في الحياة)) ليس في (ج).
[37] في (م): ((إليها)).
[38] في (ط) و(ج): ((هي)).
[39] في (م): ((كان)).
[40] في (ج): ((مما هو أقل)).
[41] زاد في (م): ((في)).
[42] في (م): ((واعلموا)).
[43] في (ج): ((رضوان الله عليهم بعد وفاة النبي صلعم كانوا عند اللقاء))، وفي (م): ((رضوان الله عليهم بعد وفاة النبي صلعم كانوا عند اللقاء للعدو)).
[44] في (م): ((يأمره)).
[45] قوله: ((ضمن)) ليس في (م).
[46] في (م): ((يسند إليه عالما)).
[47] قوله: ((في جهاده)) ليس في (م).
[48] قوله: ((بها)) ليس في (ج). وبعدها في (م): ((في)).
[49] قوله: ((كان)) ليس في (م). وبعدها في (ج): ((لإخلاصهم)).
[50] في (م): ((الطريق)).
[51] زاد في (م): ((هذا)).
[52] زاد في (م): ((يقين)).
[53] قوله: ((له)) ليس في (ج) و (م).
[54] في (ج): ((أهلهما)) وفي (م): ((أهلها)).