بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من قرأ بالآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه

          201- قوله صلعم : (مَنْ قَرَأَ بِالْآيَتَيْنِ مِنْ(1) آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ...) الحديث. [خ¦5008]
          ظاهر الحديث يدلُّ(2) على أنَّ مَن قام في ليلةٍ بالآيتين مِن آخر سورة / البقرة أجزأته عن قيام(3) اللَّيل، وصحَّ له اسم(4) التَّهجُّد، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أنْ يقال: هل هي بنفسها تجزئ لمعنى(5) فيها خاصٌّ؟ أو هل هي على طريق التَّمثيل أنَّه مَن قام بآيتين يكون طولهما(6) كهاتين كفَتاه، وإن كانتا أقل لا تكفياه؟ أو هل يكون معنى الكلام(7) أنَّ مَن قام بهما(8) أو بآيات تحوي مِن المعاني مثل ما حوَتا كان له في ذلك كفاية وإن كان(9) أقلَّ مِن ذلك لم تجْزِهِ(10)؟
          فالجواب: اللفظ نفسه محتمِلٌ لكن مِن خارج يقع التَّخصيص.
          منها:(11) أنَّه قد جاء عنه صلعم أنَّه قال(12): «مَن قام بالآيتين مِن آخر آل عمران كفتاه» أو كما قال ╕، وقد قال الله جلَّ جلاله: {وَمِنَ اللَّيل فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء:79] ولم يخصَّ آية دون آية، وقد كان قيامه صلعم لم يخص(13) آيات دون آيات، بل ما مِن شيءٍ مِن الكتاب العزيز إلَّا وقد قام ╕ به(14).
          وقد كان ◙ يتنفَّل بعض مرارٍ في قيامه بقراءة هاتين الآيتين، ثمَّ يتنفَّل(15) بعدها(16) بما شاء، ثمَّ مرارًا يقوم ويقرأ غيرهما ولا يقرؤهما، فلمَّا كان قيام اللَّيل مِن المستحسن أو المستحبِّ فيه طول القيام، وكذلك كان الغالب مِن فعله صلعم كما جاء مِن رواية عائشة ♦ قالت: (كان يقوم بأربعٍ لا تسأل(17) عن حسنهنَّ وطولهنَّ، ثمَّ بأربعٍ فلا(18) تسأل عن حسنهنَّ وطولهنَّ)، فجاء هذا الحديث تبيينًا لمقدار الطُّول المجزىء في القيام، وما زاد على ذلك يكون زيادة في / الخير(19)، واتباعًا لفعله صلعم، وجاء التَّمثيل بهاتين الآيتين والتي(20) في آخر آل عمران على طريق التَّمثيل، لكنْ هاتان الآيتان أقصر(21) مِن الآيتين اللتين في آخر آل عمران.
          فإن كان هذا الحديث هو المتقدِّم فيكون ذكر التي في سورة البقرة تخفيفًا(22) ونحن لا نعلم المتقدِّم منهما، فإن أخذنا بالأحوط فنعْمَل(23) على الحديث الذي في آخر سورة آل عمران، وتكون التي في آخر سورة البقرة على الرَّجاء، وإن أخذنا بأحد الوجوه التي ذكر(24) الفقهاء عند تعارض الأدلَّة، وعملنا على التي في آخر آل عمران، فلنا وجه مِن الفقه، والوجوه التي ذكرها الفقهاء عند تعارض الأدلَّة هي أربعة، وقد ذكرناها فيما تقدَّم مِن الكتاب.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ قيام اللَّيل مطلوبٌ شرعًا، وبقي البحث على أيِّ وجهٍ هو؟ هل على الوجوب أو على النَّدب؟
          قد اختلف العلماء(25) في ذلك، فالجمهور(26) أنَّه على النَّدب، ونصُّ الكتاب ينبىء بهذا وهو قوله تعالى: {نَافِلَةً لَكَ(27)} [الإسراء:79] ومنهم مَن قال: هو(28) على الوجوب، وأقلُّ ما يجزىء فيه قدر فُواق ناقة، وهو والله أعلم يدلُّ عليه هذا الحديث بطريقٍ ما، لأنَّ مالكًا ☺ يقول: كلُّ ما يكون فرضًا فلا بدَّ أنْ يكون محدودًا بالكتاب أو بالسنَّة، وما ليس بمحدود بكتابٍ ولا بسنَّة فليس بفرضٍ، وهذه السُّنَّة في هذين الحديثين قد حدَّت(29) قيام اللَّيل، وإذا تأملت هذا الحديث تجده(30) قدر فُواق النَّاقة التي(31) قد حدَّها الذي جعلها / فرضًا وهو قدر ما يُقام(32) بهاتين الآيتين.
          وفيه دليلٌ: على حسن تعليمه صلعم، يؤخذ ذلك مِن تحديده ╕ بهاتين الآيتين، وكثيرٌ مِن الآي في الطُّول مثلهما فخصَّهما(33) بالتَّحديد لِمَا فيهما مِن معنى الدُّعاء، وفي ذكره إيَّاهما(34) إرشادٌ(35) منه صلعم إلى سنَّته، ومِن سنَّته ╕(36) في تهجُّده(37) إذا مرَّ بآية رحمةٍ دعا(38)، وإذا مرَّ بآية عذاب استعاذ، وإذا مرَّ بآية تنزيه(39) لله سبحانه سبَّح، وقد جاء عنه صلعم أنَّه مَن قرأ بالآيتين(40) مِن آخر(41) البقرة، فإذا ختم السورة فليقل: آمين. فيحصل له الدُّعاء لأنَّ كلَّ مؤمِّنٍ داعٍ.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ أجلَّ الأحوال في الصَّلاة قوَّة الإيمان، يؤخذ ذلك مِن تحديده ╕ بهاتين الآيتين وبالتي في آخر آل عمران، لأنَّ قراءة إحداهما فيها لمن تدبَّرهما(42) قوَّةٌ في الإيمان، وقد قدَّمنا كيف كان حاله ╕ في قيامه أنَّه كان يكسوه مِن كلِّ آيةٍ يقرأها حالٌ يناسب معنى تلك الآي، وكذلك ينبغي أنْ تكون(43) تلاوة القرآن وأن لا يكون تاليه: (كالحمار(44) يحمل أسفارًا).
          وفيه دليلٌ: على(45) الإرشاد في القيام إلى الاستكانة والخضوع والافتقار، يؤخذ ذلك مِن تحديده ╕ بهذه الآية لأنَّ تدبرها(46) يوجب الخضوع لله تعالى والافتقار إليه، لأنَّه إذا تذكَّر القارىء ذنوبه أوجبت له الذِّلَّة والمسكنة، وإذا طلب المغفرة منها أوجب(47) له ذلك صدق اللَّجأ(48) إلى مولاه الكريم / والافتقار إليه.
          وفيه دليلٌ: على أنَّ مِن أجلَّ صفات المصلِّي حسن ظنِّه بمولاه، يؤخذ ذلك مِن أنَّ مَن طلب النَّصر على عدوِّه إنَّما يكون بصدقٍ مع الله تعالى وحسن ظنِّه(49) به، والله ╡ يقول على لسان نبيِّه عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام: «أنا عند ظنِّ عبدي بي فليظنَّ بي ما شاء»، وفي نسخه: «فليظنَّ بي خيرًا(50)».
          وفيه دليلٌ: على أنَّ المرغَّب فيه(51) في القراءة في القيام التدبُّر مع القراءة وإن قلَّت هو(52) خيرٌ مِن كثرة(53) القراءة بلا تدبُّر، يؤخذ ذلك مِن تحديده ╕ بهذه الآية، لأنَّها بنفس تلاوتها يفهم معناها، فيحصل للقارىء بها قراءةٌ وتدبُّرٌ ومعرفةٌ بمعنى الآية، لأنَّ فائدة التَّدبُّر هو أنْ يعرف معنى ما يتلوه(54) مِن الآي، وهاتان بنفس التِّلاوة يحصل الفهم بمعناهما(55) فيكون التالي لهما في تهجُّده على أكمل الأحوال وهو(56) التِّلاوة مع الفهم.
          وفيه دليلٌ: على ما أعطاه(57) الله سبحانه له ╕ مِن البلاغة وحسن الإدراك، يؤخذ ذلك مِن(58) تمثيله ╕ بهاتين الآيتين اللتين جمعتا(59) جملًا مِن المعاني الحِسَان كما أبديناه بتوفيق الله تعالى، وإذا تأمَّلت وجدتَ أكثر وأبدع، فإنَّ عجائبه لا تنقضي، وفيما أبديناه دليلٌ على أنَّ الفهم في كتاب الله ╡ (60) وسنَّة نبيِّه ╕ لا ينال إلَّا بالفضل، وأنَّ طالب ذلك مِن غير هذا(61) الوجه متعنٍّ، ولهذا هي الإشارة بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ} [البقرة:282] فأرشدنا(62) الله ╡ إلى عمل النشاط(63) لذلك والنَّهي له باستعمال التَّقوى، وأنَّ(64) التَّعليم إنَّما هو منه ╡ وما هو منه(65) فطريقه الفضل لأنَّه سبحانه لا حقَّ عليه واجب. /
          وفيه دليلٌ: لأهل المعاملات مع الله تعالى، لأنَّهم ما جعلوا(66) طريقهم في كلِّ الأشياء إلَّا بتقواه ╡ والوقوف ببابه، مَنَّ الله علينا بما به مَنَّ عليهم في الدارين بفضله(67).


[1] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[2] في (ج): ((ظاهره يدل)).
[3] في (ج): ((بالآيتين أجزأته سفر قيام)).
[4] في (ج): ((أهم)).
[5] في (ج): ((المعنى)).
[6] العبارة في (م): ((من قال بآيتين يكون يكون طولهما)).
[7] في (الملف): ((أو هل معنى الكلام)). في (ط): ((بمعنى الكلام)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (م): ((بها)).
[9] قوله: ((كان)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] في (ج): ((يجزئه)).
[11] في (ج) و (م): ((فمنها)).
[12] قوله: ((قال)) ليس في (ط) و (م) والمثبت من (ج).
[13] زاد في (ج) و (م): ((أيضا)).
[14] في (ج): ((وقد قال ◙)).
[15] قوله: ((بعض مرارٍ في قيامه بقراءة هاتين الآيتين ثمَّ يتنفَّل)) ليس في (م).
[16] في (م): ((بعدهما)).
[17] في (ج): ((تسل)).
[18] في (ج): ((لا)).
[19] في (ط): مكان كلمة الخير بياض، والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ج): ((التي)).
[21] قوله: ((أقصر)) ليس في (ج).
[22] في (ج): ((تحقيقًا)).
[23] في (ج): ((فتعمل)).
[24] في (ج): ((الذي ذكر)).
[25] في (م): ((على الندب واختلف العلماء)).
[26] زاد في (ج) و (م): ((على)).
[27] زاد في (م): ((عسى)).
[28] في (ج): ((أنه)).
[29] في (ج) و(م): ((جاءت)).
[30] في (ج) صورتها: ((تجدر)).
[31] في (ج): ((الذي)).
[32] زاد في (ج): ((بها)).
[33] في (ج): ((مثلها فخصها)) وفي (م): ((فخصصهما)).
[34] في النسخ: ((إياها)) ولعل المثبت هو الصواب والله أعلم، وهو موافق للمطبوع.
[35] في (ج): ((إرشادا)).
[36] قوله: ((صلعم إلى سنَّته ومن سنَّته ╕)) ليس في (ج). وبعدها في (ب): ((في تهجد)).
[37] في (ج): ((تهجد)).
[38] في المطبوع: ((بكى)).
[39] في (ج) صورتها: ((تنزيل)) والصواب المثبت.
[40] في (ج): ((الآيتين))، وبعدها في (ج) و(م): ((من آخر سورة البقرة)).
[41] زاد في (ج) و (م): ((سورة)).
[42] في (ج): ((تزيدهما)).
[43] في (ج): ((يكون)).
[44] في (م): ((كالحمال)).
[45] زاد في (ج): ((أن)).
[46] في (ج): ((تدبرهما)).
[47] في (ط) و (ج) : ((أوجبت)) والمثبت من (م).
[48] في (ج): ((الحال)).
[49] في (م): ((ظن)).
[50] قوله: ((وفي نسخه: فليظن بي خيرًا)) ليس في (ج) و (م).
[51] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[52] في (م): ((وهو)).
[53] في (ج): ((وهو خير من كثير)).
[54] في (ج) و (م): ((تعرف معنى ما تتلوه)).
[55] في (ج): ((معناهما)).
[56] في (ط): ((وهذه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[57] في (ط): ((على أنَّ ما أعطى)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[58] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[59] في (ج): ((التي جمعنا)).
[60] في (م) و (ج): ((في كتابه ╡)).
[61] في (م): ((ذلك)).
[62] في (ج): ((فأرشد)).
[63] في (ج) و (م): ((البساط)).
[64] في (ج): ((وإنَّما)).
[65] قوله: ((وما هو منه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[66] في المطبوع: ((ما فعلوا)).
[67] زاد في (م): ((وكرمه)).