بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: خذي فرصةً ممسكةً، فتوضئي ثلاثًا

          23- (عَنْ عَائِشَةَ ♦(1) أَنَّ امْرَأَةً مِن الْأَنْصَارِ قَالَتْ لِلنَّبِيِّ صلعم : كَيْفَ أَغْتَسِلُ مِن الحَيْضِ(2)؟...) الحديث.(3) [خ¦315]
          الكلامُ عليهِ: أولًا: هل قَصدَتْ بقولِها الطُّهورُ الشرعِي أو اللُّغوي؟ احتَمَلَ سؤالُ السائِلَةِ(4) الوَجهينِ معًا، والظاهرُ أنَّهالم تسألْ(5) عن كيفيةِ الطُّهورِ، وإنما احتَمَل سؤالُها مَعنيَيْنِ:
          (أحدُهما): عن كيفيَّةِ الطُّهرِ، هل ما تعلمُ منهُ هو الْمُجْزِئُ - وهو الكمالُ فيهِ ؟ أم ذلكَ(6) هو المُجزئُ؟ وبَقِيَ عليه(7) شيءٌ إنْ فَعَلَتْهُ كانَ(8) زيادةَ كمالٍ فيهِ(9).
          (والوجهُ الآخرُ): أن تسألَ عن الغُسلِ اللغويِّ، هل هوَ في ذلكَ المَحِلِّ كغيرِهِ أو يَختصُّ ذلكَ المَحِلُّ بزيادةٍ أُخرى؟
          هذا هو الظاهرُ مِن المَعنيَينِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن جوابِ النبيِّ صلعم بقوله(10): (خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً وَتَوضَّئِي بها(11) ثَلَاثًا)؛ لأنَّ الفِرصَةَ قطعةُ ثوبٍ ومُمَسَّكَةً مُطَيَّبَةً، وليسَ هذا صِفَةُ الطُّهورِ بالماءِ لا الشرعيِّ ولا اللغويِّ، فبهذا(12) عَلِمْنا أنَّ النبيَّ صلعم فَهِمَ عنها خلافَ ظاهرِ اللفظِ بقَرينَةِ الحالِ، وقَرينَةُ الحالِ(13) بالإجماعِ إذا تحقَّقَتْ أَخرجَتِ اللفظَ عنْ ظاهرِه إلى ما دلَّتْ عليهِ القرينةُ، ولذلكَ قالَ مالك ٌ☼: بالمَعانِي استُعْبِدْنا لا بالأَلفاظِ، وهذا النوعُ كثيرٌ في الكتابِ والسنَّةِ.
          وقوله(14): (وَتَوضَّئِي بها(15) ثَلَاثًا) أي تَنَظَّفِي(16)، مَأخوذٌ مِنَ الوَضاءَةِ وهوَ الحُسْن، فيكونُ ظاهرُ الحديثِ أنَّ السُّنَّةَ للحائضِ إذا طَهُرَتْ وتَطَهَّرَتْ أنْ تُطَيِّبَ ذلكَ المَحلَّ الذي هوَ موضعُ الأَذى.
          وهنا بحثٌ: هل هذا(17) على الوجوبِ أو النَّدبِ؟ وهل هذا مُطلَقٌ لمن لها زوجٌ أو لا زوجَ لها؟ وهل(18) هذا لِعلَّةٍ أو ليسَ لِعلَّةٍ، وهل(19) هذا معَ الإمكانِ وغيرِه أو مع الإمكانِ ليسَ إلَّا؟. /
           فالجوابُ: أمَّا على الوُجوبِ فلا أعلمُ أحدًا قالَ بهِ، وليسَ هنا أيضًا(20) قَرينةٌ تدلُّ عليهِ، فلم يبقَ أنْ يكونَ إلا ندبًا(21).
          وأمَّا هل يكونُ ذلكَ مُطلَقًا أو(22) لا؟ فإنْ قُلنَا: إنه تَعبُّدٌ غيرُ معقولِ المَعنى فيكونُ مُطلقًا، وإن قُلنا: إنَّه معقولُ المَعنى، فما تلكَ العِلَّةُ؟
          فقِيْلَ: إنَّما ذلكَ مِن أَجْلِ الزَّوجِ؛ لأنَّ دمَ الحيضِ نَتِنٌ ويَبقى الأيامَ المُتوالِيةَ على ذلك المَحلِّ، فيكتسبُ منه(23) رائحةً، فربَّما يتأَذَّى منه(24) الزوجُ، فتكونُ تلكَ الكراهيةُ التي يجدُ لها(25) سببًا للفرقَةِ، وهو صلعم بالمؤمنينَ رحيمٌ(26)، وقِيلَ: إنَّ المَحلَّ يَلحقُه مِنَ الدمِ رِخْوٌ، وإنَّ الطيبَ يُصلِحُ ذلكَ منهُ، وفيهِ(27) أَقاويلُ تُشبِه هذا، فعلى هذا يكونُ(28) لذاتِ الزوجِ مَندوبًا.
          ويبقى الكلامُ لغيرِ ذاتِ الزوجِ يكونُ فقهَ حالٍ على ما يَظهرُ والله تعالى أعلم: إنْ كانَ ذلكَ ممَّا يُحرِّكُ عندها شَهوةَ الجِماعِ فلا تفعلْ، وإنْ كانَ ذلكَ(29) مما لا يُحرِّكُ عندَها مِن ذلكَ شيئًا(30) فحَسنٌ أن تفعلَ؛ لأنَّ الطِّيبَ مِن السنَّةِ لا سيما لمنفعةٍ(31) تَلحَقُ كما قدمنا على أحدِ الوجوهِ.
          وأمَّا مع الإمكانِ أو(32) عدمِه فلا يُكلَّف(33) في الفرائضِ إلا قدرَ إِمكانِهِ، فكيفَ في المندوبات؟
          وقوله: (فِرْصَةً) فلأَنَّ(34) ذلكَ المَحِلَّ لا يُمكِن تَطْيِيبُه باليدِ، وإن فُعِلَ لا يكونُ له فائدةٌ، والفائدةُ كما ذكرنا هي رفعُ الأَذَى عن ذلكَ المَحِلِّ(35).
          وقولُه: (ثَلَاثًا) مُبالغةٌ في التَّطْييبِ(36).
          وقولُها: (ثُمَّ إنَّ النبيَّ صلعم اسْتَحْيَا) هذا دالٌ(37) على حُسنِ خُلُقُهِ صلعم (38).
          وفيه أيضًا دليلٌ على أنَّ الأُمورَ التي لا يُمكِنُ معرفةُ الحُكْمِ فيها إلَّا بذكرِها على ما هي عليهِ، وإنْ كانَ(39) ذِكرُها يُخجِلُ أو يُكْرَهُ، فلا بُدَّ منهُ مِن أجلِ الضَّرورةِ.
          ويُؤخَذُ منه أنَّ الاستحياءَ يُعلَمُ بالإِعراضِ / بالوجهِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن فعلِه صلعم.
          وفيهِ مِنَ الفقهِ أنَّه إذا فعلَ ذلكَ عَرفَهُ منهُ الرائِي فتركَهُ مِن ذلكَ الأَمرِ.
          وفيه دليلٌ على أنَّ(40) الحياءَ لا يَظهرُ إلا بعدَ القَدْرِ المُجزئِ مِنَ الحُكمِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّه صلعم لم يفعلْ ذلكَ إلا بعدَ فراغِهِ مِن الكلامِ بتقرير الحكمِ(41)، ولذلكَ أَتَتْ بـ(ثُمَّ).
          وفيهِ مِنَ الفقهِ: أنَّه إذا كانَ الإِعراضُ عنِ(42) الكلامِ بإلقاءِ الحُكْمِ يَحصُلُ للسائلِ مِنْ ذلكَ تشويشٌ فقدْ لا يَفهَمُ ما قِيلَ لهُ فتَذهبَ الفائدةُ، حينَ(43) أعرضَ بوجهِهِ قالَ: (تَوَضَّئي بها(44))؛ لأنَّه صلعم فَهِمَ عنها أنَّها لم تفهمْهُ فأَتى بقرينةٍ تُنبِئُ أنَّ هذا الوضوءَ المذكورَ هو في المَحِلِّ الذي إذا ذُكِرَ كانَ فيه حياءٌ ليُعَبِّرَ بالحالِ عنِ المقالِ، وقولُها (فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا(45) فَأخْبَرْتُها بِمَا يُرِيدُ النَّبيُّ صلعم)، فَفَهِمَتْ(46) تلكَ السيِّدةُ قبلَ(47) السَّائلةِ، فحينئذٍ أَخبرَتْها.
          ويُؤخَذُ منه تعليمُ(48) المَفضولِ بين يدي الفَاضِلِ، لكن بعدما يُلقي الفاضلُ الحُكمَ، فيكون ذلكَ مِن باب الخِدمةِ له لاسيما في أمرٍ يكونُ الفَاضِلُ يخجلُ منه والمَفضولُ ليسَ ذلك مما يُخجِلُهُ؛ لأنَّ تحادثَ النساءِ بينهُنَّ لا يقعُ(49) منهُ خجلٌ كما يقع مِن حديثِ الرجالِ معهنَّ، لا سيما في هذا المَحِلِّ الخاصِّ.
          وفيه دليلٌ على حملِ العُذرِ لمَن لا يَفهَمُ، والسُّنَّةُ أن يُرفَقَ بهِ في التعليمِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أنَّ النبيَّ صلعم لـمَّا لم تفهَم عنهُ السائلةُ وجاوبَتْها عائشةُ ♦(50) أقرَّ ذلكَ، ولم يقلْ فيهِ شيئًا(51)، ولو لم يكنْ كذلكَ لقالَ ما فيهِ مِنَ الحُكمِ، يَزيد ذلكَ إِيضاحًا قولُه صلعم (52): «علِّمُوا وارفُقُوا»، وفي قول: «وقاربوا(53)». /
           ويُؤخَذُ منهُ جوازُ الحُكمِ بالإشارةِ إذا فُهِمَ المَعنى، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِها: (فَأَخْبَرْتُها بِمَا يُرِيدُ النبيُّ(54) صلعم) ولم تذكره.
          وفيه دليلٌ على أنَّ(55) مِن الشرعِ أن يُوصَل بالفِعل دونَ القولِ إلى ما(56) يُريدُ القائلُ إذا أمكنَ ذلكَ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن قولِها: (أخذتُها(57) فَجَذَبْتُها)؛ لأنَّ أَخذَها قامَ مقامَ النهيِ أن لا تُراجِعَ في ذلكَ الأَمرِ رسولَ اللهِ صلعم أكثرَ ممَّا تقدَّم، وأقرَّها النبيُّ صلعم (58) على ذلكَ، وليسَ فيه(59) مَنقَصَةً لا للفاعلِ ولا للمفعولِ بهِ(60).
          وفيهِ دليلٌ على(61) جوازِ القبولِ مِن المَفضولِ بحضرةِ الفاضلِ، يُؤخَذُ ذلكَ مِن بيانِ عائشةَ ♦(62) ما بيَّنَتْهُ لها ولم تُراجِعِ النبيَّ صلعم (63)، وأَجازَ ذلك هو صلعم (64).
          وفيهِ دليلٌ على(65) أنَّ المرءَ مطلوبٌ منه سترُ عيوبِه، وإنْ كانتْ ممَّا جُبِلَ عليها، يُؤخَذُ ذلكَ مِن أَمرِهِ صلعم السائِلَةَ(66) أنْ تُذْهِبَ أَثَرَ تلكَ الرائحةِ التي هي مما جُبِلَتْ عليهِ وتَستُرَها بالطِّيبِ، لكنَّ الفقهَ فيهِ: أن لا يكونَ السَّتْرُ(67) إلا بما تُجيزُهُ(68) الشريعةُ تَحرُّزًا مِن أن يكونَ بتدليسٍ أوكذبٍ أومُحرَّمٍ فذلك ممنوعٌ، يُقوِّي ما قلناهُ قولُه ◙ للسائلِ حينَ(69) أوصاهُ: «إِذَا غَضِبْتَ فَاسْكُتْ»؛ لأنَّ الغضبَ شَيْنٌ والسكوتَ لهُ سِتْرٌ، وذلكَ في الشرعِ إذا تَتبَّعْتَهُ كثيرٌ، ولذلكَ اتخذَ أهلُ الصُّوفَةِ(70) التَّحلِّيَ بعدمِ الانتصارِ لأنفُسِهم؛ لأنَّ حظوظَ(71) النفسِ شَيْنٌ في العقلاء، فستروهَا بالعزمِ على عدمِ الانتصارِ لها حتَّى إنَّه ذُكِرَ عن بعضِهم أنَّ شخصًا سبَّه فأعرضَ عنهُ، فقالَ له: أنتَ أَعْنِي، قالَ لهُ السيِّدُ: عَنكَ أُعرِض! ومثلُ هذا عنهم كثيرٌ.


[1] قوله: ((♦)) ليس في (ف)..
[2] في (م): ((المحيض))، وزاد في (ج) و(ل) و(ف): ((قَالَ: (خُذِي فِرْصَةً مُمَسَّكَةً وَتَوَضَّئِي ثَلَاثًا)، ثُمَّ إِنَّ النَّبِيَّ صلعم اسْتَحْيَا وَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ _ أَوْ قَالَ: تَوَضَّئِي بِهَا _ فَأَخَذْتُهَا فَجَذَبْتُهَا فَأَخْبَرْتُهَا بِمَا يُرِيدُ النَّبِيُّ صلعم)).
[3] زاد في (المطبوع): ((ظاهر الحديث أنَّ دم الحيض لهُ رائحةٌ لا يُذهبها الماء وحده والكلام عليه من وجوه))..
[4] في (م) و(ل) و(ف): ((السائل)).
[5] في (م): ((تسل)).
[6] في (م) و(ف): ((ذاك)).
[7] في (ج): ((عليها))، وفي (ل) و(ف): ((علي)).
[8] زاد في (م): ((ذلك))، وفي (ف): ((فعله كان)).
[9] قوله: ((فيه)) ليس في (م).
[10] قوله: ((بقوله)) ليس في (ج).
[11] قوله: ((بها)) ليس في (ج) و(م). وقوله: ((ثلاثاً)) ليس في (ل) و(ف).
[12] في (م): ((فهذا))، وفي (ف): ((فلهذا)).
[13] قوله: ((وقرينة الحال)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[14] في (ط): ((وقولها)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] قوله: ((بها)) ليس في (ج) و(م).
[16] في (ل): ((تنضفي)).
[17] في (م): ((هو)).
[18] في (ل) و(ف): ((أو هل)).
[19] في (ل) و(ف): ((أو هل)).
[20] في (ج) و(م) و(ل) و(ف): ((أيضاً هنا)).
[21] في (ج): ((مندوبا)).
[22] في (م) و(ل): ((أم)).
[23] في (ط) و(ج): ((منها)).
[24] في (ل) و(ف): ((منها)).
[25] في (ج): ((يجدها)).
[26] في (م): ((وهو بالمؤمنين رحيم صلعم)).
[27] في (ج): ((فيه)).
[28] في (م): ((فتكون)).
[29] قوله: ((ذلك)) ليس في (م).
[30] في (ف): ((عندها شهوة الجماع)).
[31] في (ف): ((بمنفعة)).
[32] في (م): ((و)).
[33] في (ط) و(ج): ((تكلف)).
[34] في (م): ((ولأن)). وقوله: ((ذلك)) ليس في (ل) و(ف).
[35] قوله: ((هي رفعُ الأَذَى عن ذلكَ المَحِلِّ)) ليس في (م).
[36] في (ج) و(ل): ((التطيُّب)).
[37] في (ج): ((دليل)).
[38] في (ف): ((◙)).
[39] قوله: ((كان)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[40] قوله: ((أن)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[41] في (ج): ((تقريرا للحكم)).
[42] في (ل): ((عند)).
[43] في (م) و(ل) و(ف): ((فحين)).
[44] قوله: ((بها)) ليس في (ج) و(م).
[45] في (م): ((وجذبتها)).
[46] في (ل) و(ف): ((فهمت)).
[47] قوله: ((قبل)) ليس في (ج).
[48] في (ف): ((ويؤخذ من ذلك تعظيم)).
[49] في (م): ((يمكن)).
[50] قوله: ((♦)) ليس في (ف)..
[51] في (ط): ((شيء)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[52] في (ف): ((◙)).
[53] قوله: ((وفي قول وقاربوا)) ليس في (ج) و(م)، وفي (ل) و(ف): ((علموا وقاربوا وهو الرفق والإعذار)).
[54] في (ف): ((رسول الله)).
[55] قوله: ((أن)) ليس في (ل).
[56] في (ج): ((لما)) بدل: ((إلى ما)).
[57] قوله: ((أخذتها)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[58] قوله: ((أكثر مما تقدم، وأقرها النبي صلعم)) ليس في (ل).
[59] قوله: ((فيه)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[60] في (م): ((لا من الفاعل ولا من المفعول به)).
[61] زاد في (م): ((أن)).
[62] قوله: ((♦)) ليس في (ف)..
[63] في (ف): ((◙)).
[64] في (ف): ((◙)).
[65] قوله: ((على)) ليس في (ل).
[66] في (ل): ((للسائلة)).
[67] في (م): ((الشيء)).
[68] في (م): ((تجزه)).
[69] في (م): ((الذي)).
[70] في (ل): ((أهل الصوفة اتخذوا)).
[71] زاد في (ج): ((الشيطان و)).