بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: يقول الله: إذا أراد عبدي أن يعمل سيئةً فلا تكتبوها

          295- قوله صلعم : (يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا) الحديثَ(1). [خ¦7501]
          ظاهر الحديث يدلُّ عَلى ثلاثة أحكام:
          أحدها: أمرُ اللهِ سبحانه ملائكتَه أنَّ العبد مِن بني آدم إذا أراد أن يعمل سيِّئة فلا تكتبوها(2) حتى يعملها، فإذا عملها تكتبوها(3) بمثلها.
          والحكم الثَّاني: أمرُهُ تعالى للملائكة أنَّ العبد إذا أراد فعل سيئة، فترَكَها مِن أجلِ الله تعالى، يكتبون له بها حسنةً.
          والثالث: أمرُهُ، تعالى للملائكة(4) إذا أراد العبدُ أن يعمل حسنةً فلم يعملها، يكتبونها له حسنةً واحدة، فإنْ عملها يكتبونها له بعشر أمثالها حتَّى إلى سبعمائة مثلها(5)، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يُقال: هل لفظ (العَبْد) على العموم: في المؤمن أو غيره، ومَن المأمورون(6) بذلك؟ ومِن(7) أين تعلم الملائكة ما في قلبِ هذا العبد، وَهذا مِن باب علم الغيب، ولا يعلمه إلَّا الله ╡ ؟.
          وكيفية(8) الترك مِن أجله سبحانه؟.
          وقوله: (فَاكْتُبُوْهَا بَعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمَائَة ضِعْف(9)) هل هذه التَّفرقة بين الأجور تعبُّدٌ لا يُعقَل لَه معنى، أو يُعرَف / سبَبُه؟ وَهل يُزاد على السَّبعمائة أو لا؟
          أمَّا قولنا: هل ذلك عَلى العموم في جميع العباد؟ اللَّفظ محتمل، لكن يخصِّصه ما يُعلم مِن قواعد الشريعة، فإنَّ الله ╡ يقول: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] أي: إنَّ كلمة الإخلاص هي التي يُرفع بها العمل الصالح، ومَن ليس مِن أهلها فلا يُقبل منه عمل، هذا على قول مَن يقول: إنَّهم مخاطبون بفروع الشريعة، وعَلى القول بأنَّهم غيرُ مخاطبين بفروع الشريعة فلا يدخلون تحت هذا الحدِّ. وقد جاء في بعض الآثار: ((عَبْدِي المؤمنُ))، فارتفع بهذا النصِّ الاحتمالُ الذي في اللفظ.
          وأمَّا قولنا: مَن(10) المأمورون بالكَتْب؟ فقد نصَّ عليهم الكتاب والسُّنَّة، أمَّا الكتاب فقوله ╡ : {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ. كِرَاماً كَاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10-12]، وأمَّا السُّنَّة فقوله ◙ : «يَتَعَاقَبُون فِيْكُم مَلَائِكَةُ باللَّيلِ ومَلَائِكَةٌ بالنَّهارِ، وَيَجْتَمِعُون في صَلَاةِ العَصْر وصَلاةِ الفَجْرِ، ثمَّ يَعْرُجُ الذِّين بَاتُوا فِيْكُم...» الحديثَ.
          وفي هذا تنبيه لك لعلَّك تستحي(11) مِن مباشرتهم لك وقعودهم معك، فتكفَّ عمَّا فيه ضلالك(12) مِن سُوء عملك، وأنت مع عملك بهذا معرِضٌ كأنَّك لا تعلم أنَّ مِن العلم لجهلاً.
          وأمَّا قولنا: مِن أين تعلم الملائكة مَا في قلب العبد؟ فقد جاء «إنَّ اللهَ ╡ أَجْرى لَهُم عادةً، إذا أَرادَ العَبْدُ أن / يَعْمَلَ سَيئةً يَخرج على(13) فِيهِ رائحةٌ نَتِنةٌ، فَيَعْلَم الملَك(14) أنَّه قد هَمَّ بسيِّئة فلا يَكْتُبُها حتَّى يَفْعَلَها، وإذا أراد أن يَعْمَل حَسَنةً يَخرج على فِيهِ رائحةٌ حَسَنةٌ، فيعلم الملَك أنَّه أرادَ أن يَعْمَلَ حَسَنةً فَيَكْتُبُها لَهُ حَسَنةً» كما هو مذكور في الحديث أو كما قال ◙ .
          لا حيَّا الله أَخَا البطالة، عطَّر(15) رياشه بالمسْكِ والطِّيبِ، وقد طبَّقَ الآفاقَ بِنَتنِ فِيهِ(16) وجَوارِحِه. هلَّا غيَّرتَ هَذه الحالة بِطِيبٍ، ونَهْيِ النَّفسِ عن الهوى؟.
          وأمَّا كيفية الترك الذي هو لله؟ فكيفيته ألَّا يردَّه(17) عَن تلك السيئة التي أراد(18) فعلها إلَّا خوف الله تعالى مِن أجل عقابه أو حياءً منه، لأنَّه أهل أن يُستحيا منه، أو يُطمع(19) في وعده الجميل، وهو قوله الحقُّ: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى. فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40-41] كما ذُكر عن أصحاب الغار، وهو «أنَّهُ كَانَ في غارٍ ثلاث أناسٍ، فَنَزلَت على بَابِهِ صَخْرةٌ عظيمةٌ سَدَّته. فقالوا: ما يُنْجِينا مِن هذا إلَّا أن يَدْعُو كلُّ واحد منَّا بخيرِ عملٍ(20) خالصاً لله تعالى. فَدَعَا أَحَدُهُم وسمَّى عملَه(21) الذي أخلَصَ فيه لله، فانْفرج(22) مِن تلك الصَّخرةِ بَعْضُها، ثمَّ الثَّاني فَعَل مِثْلَ صَاحبه، فانفرجَ بدعائه مِن الصَّخرة مثلُ ما انفرجَ بدعاء صاحبه، ثمَّ الثَّالث قال في دُعَائه: اللَّهُمَّ إنَّك تعلم أنِّي أحببتُ امرأة، وراودتها عن نَفْسِها، فأبتْ حتَّى أدفعَ لها مائةَ دينار. فلمَّا دفعتُ لها المائة الدينار ومكَّنتني(23) مِن نفسها، فلمَّا قعدت / بين شُعَبها(24) قالت لي: اتَّقِ الله ولا تفُضَّ الخاتم إلا بحقِّه؛ فاستحييتُ منكَ وقُمْتُ عنها(25)، وتركتُ لها المائةَ الدِّينار. فإن كنتَ تَعْلَمُ أنِّي فَعَلْتُ ذلك خوفاً منك وحياءً ففرِّج عنَّا(26) مَا بقيَ علينا مِن هذه الصَّخرة. فانفرجتْ عَنْهُم مِن حِيْنها وَخرجوا مِن الغَارِ» أو كما ورد.
          وقد جاء «إنَّ اللهَ ╡ جَعَل مَلكَ اليمينِ يكتبُ الحَسَناتِ، ومَلَك الشِّمالِ يَكْتُبُ السَّيئات، وأنَّ ملَكَ اليمينِ مُقَدَّمٌ على ملَكِ الشِّمال وحاكمٌ عليه. فإذا فَعَل العَبْدُ السَّيئة وأراد ملَكُ الشِّمال أن يَكْتُبَها قال له ملَكُ اليمين: اصْبِرْ عليه لعلَّه(27) يَسْتَغْفِرُ أو يتوبُ. فإن تابَ أو استغفرَ(28) لم يَكْتُبْ عليه شيئاً، وإن فَعَل حَسَنة خاصَّة منها بقدْر السَّيئةِ كَتَب باقِي أَجْرِه(29)، فإن لم يَفْعَل شيئاً مِن ذلك فحينئذٍ يَكْتُبُها عليه كما فَعَل، بغير زيادة عَلى ذلك». وفي هذا أتمُّ دليل عَلى(30) عظيم لطف المولى بعباده المؤمنين وكثرة رحمته لهم.
          وقوله: (اكْتُبُوْهَا لَهُ(31) بعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَة ضِعْف(32)) هَل هذا تعبُّد لا يُعرف له معنى، يعطي الله مَن شاء مَا شاء، أو ذلك لسبب يُعلم؟ ظاهر اللَّفظ محتمل(33). لكن يظهر ذلك مِن(34) غير هذا الموضع، وهو قوله صلعم : «أَوْقَعَ اللهُ أجْرَهُ عَلى قَدْر نِيَّتِهِ». وقد يكون مَع حسن النيِّة زيادةُ أسباب مِن الخير في الحسنة نفسها توجب لصاحبها التَّضعيف في الأجور، / مثلما جاء: «أنَّ الذي يَقْرَأُ القُرآنَ له بكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حسناتٍ، وأنَّ الذي يَقْرؤه ويَعْلَمُ(35) له خفض ورفع له بكلِّ حرفٍ سبعمائة(36)»، وقد جاء «أنَّ الذي يَقْرأُ القرآنَ وهو قائمٌ في الصَّلاة له بكُلِّ حرفٍ مائةُ حَسَنة، وإن كانَ قاعداً خمسون، وإن كانَ في غير صلاةٍ وهو عَلى طَهَارة خمسةٌ وعشْرُون، وإن كانَ على غيرِ طَهَارة عَشْرٌ» أو كما ورد. والله يوفِّق مَن يشاء إلى أسباب الزِّيادة في أجور حَسناته فضلاً مِن الله ومِنَّةً.
          وأمَّا قولنا: هل السَّبعمائةُ هي الحدُّ(37) لا يُزاد عليها أو لا؟ لفظ الحديث ليس فيه ما يدلُّ على الزِّيادة ولا منعها، لكن(38) الكتاب العزيز أخبرنا بالزيادة على ذلك بقوله ╡ : {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} [البقرة:261] وبقوله ╡ : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] فحسبُكَ مِن كريمٍ مَلِيء، ليس كمثلِهِ شيء، يُعْطِي بغير حسابٍ(39)، هل يدخل ذلك فيما تحدُّه العقول؟
          ويترتَّب مِن الفائدة على العلم بهذا الحديث وجوه: منها قوةُ الرَّجاء في الله تعالى الذي قد بسط(40) ظلَّ فضله بهذا القَدر مِن لطفه(41) واعتنائه بالمسيء منَّا وبالمحسن، وتضاعفُ الحبِّ والتكريم لمن جعل لنا وسيلة إلى العلم بهذا الخير العميم صلعم، والنَّظرُ في الأسباب الَّتي بها تزكو(42) أعمالنا، والأخذ فيما به تُكفِّر خطايانا، وَلذلك قال صلعم : / «وَيْلٌ لِمَن غَلَبت آحادُهُ عَشَراته» لأنَّ السيئة بواحدة كَما هو نصُّ الحديث، وأقلُّ مراتب الحسنة عَشْرٌ، فتعساً لغافلٍ يَقْتَرِف عَشْرَ سيِّئات، ثمَّ لا يَقْدِر أن يعمل حسنَةً(43) واحدةً تُكفِّر عنه تلك العشْرَ السَّيئات(44). والويل وادٍ في جهنَّم. [وهو] تنبيه، فإنْ سمعْتَهُ ولم تَنْتَفِع أو علمتَ ولم تعملْ، كنتَ كالحمار يحملُ أسفاراً ويا ليتها أسفارٌ، بل جبالٌ تكبُّهُ في النَّار. أعاذنا الله مِن ذلك بفضله ومنِّه(45).


[1] في (ب): ((عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ: يَقُولُ اللَّهُ تبارك وتعالى: إِذَا أَرَادَ عَبْدِي أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً، فَلاَ تَكْتُبُوهَا عَلَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَهَا، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا بِمِثْلِهَا، وَإِنْ تَرَكَهَا مِنْ أَجْلِي فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْمَلَ حَسَنَةً فَلَمْ يَعْمَلْهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا فَاكْتُبُوهَا لَهُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ)).
[2] في (ب): ((يكتبونها)). وزاد في (ج): ((عليه)).
[3] في (ب): ((يكتبونها)).
[4] قوله :((أنَّ العبد إذا أراد فعل سيئة، فتركها من أجل...والثالث) أمره، تعالى للملائكة)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[5] في (ج): ((مثليها)).
[6] في (ب): ((من المأمورين)).
[7] في (م): ((وممن))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (ج): ((كيفية)).
[9] قوله: ((ضعف)) ليس في (ت) و(ج) و(م).
[10] في (ج): ((في)).
[11] في (ج): ((تستحق)).
[12] في (ج) و(ب): ((هلاكك)).
[13] في (ج): ((من)).
[14] في (ج): ((الملائكة)).
[15] في (ب): ((غر)).
[16] في (ب): ((نتن فمه)).
[17] في (ج): ((يره)).
[18] قوله: (أراد)) ليس في (ج).
[19] في (ج) و(ب): ((طمع)).
[20] كذا في (م)، وزاد في باقي النسخ: ((عمله)).
[21] في (ج): ((عملهم)).
[22] في (ب): ((أخلص فيه، فتفرج)).
[23] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((وأمكنتني)).
[24] في (ب): ((شعبيها)).
[25] قوله: ((وقمت عنها)) ليس في (ب).
[26] قوله: ((عنا)) ليس في (ج).
[27] زاد في (ت): ((أن)).
[28] في (ب): ((واستغفر)).
[29] في النسخ: ((وكتب ما في آخره))، والمثبت من (ب).
[30] قوله: ((أتمُّ دليل عَلى)) ليس في (ج).
[31] في (م): ((لهم))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] قوله: ((ضعف)) ليس في (ت) و(ج) و(م).
[33] في (ب): ((بسبب يعلم؟ ظاهر اللفظ يحتمل)).
[34] قوله: ((من)) ليس في (ج).
[35] في (ت): ((ويعرف)).
[36] في (م): ((أنَّ الذي يقرأ القرآن له بكل حرف سبعمائة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] في (ج): ((السبعمائة حدٌّ)).
[38] في (م): ((من))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[39] قوله :((فحسبك مِن كريم مليء، ليس كمثله شيء، يعطي بغير حساب)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[40] زاد في (ج): ((لنا)).
[41] في (ج): ((لطف)).
[42] في (ت): ((تزكوا)).
[43] قوله :((عشر، فتعساً لغافل يقترف عشر سيّئات، ثم لا يقدر أن يعمل حسنة)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى. و في (ب): ((..يفعل حسنة)).
[44] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((سيئات)).
[45] في (ب): ((بمنه وكرمه وفضله)).