بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث أبي هريرة: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله

          143- قوله: (قَالَ(1) رَسُولُ اللهِ صلعم : أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللهُ فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله ╡ (2)) الحديث. [خ¦2946]
          ظاهر الحديث يَدُلُّ عَلَى قتالِ المشركين حتَّى يُسلِموا ويُعلِنوا(3) بالكلمة، وحقنِ دماءِ المسلمين(4) إلَّا بحقِّها، والكلام عليه مِن وجوه:
          الأَوَّل: قَوْلُهُ ╕: (أُمِرْتُ) هذا الأمر هنا هل هو على الوجوب أو النَّدب(5)؟
          إن كان الخطاب للنَّبيِّ صلعم وحدَه فهو على الوجوب، وإن كان الخطاب له ╕ ولأمَّته، فهو واجبٌ في أوَّل الأمر ثمَّ بعد ذلك رجع في بعض الأوقات واجبًا وفي بعضها مندوبًا / بحسب قرائن الأحوال على مقتضى أصول الشَّريعة، أعني بقولي: (واجبًا) وجوب فرائض الأعيان، وأمَّا المندوب فلا يكون إلَّا بعد قيام(6) فرض الكفاية(7)، وهو مذكور في كتب الفقه.
          الثَّاني: فيه دليلٌ على أنَّ المطلوب مِن الأمر(8): الامتثال دون النَّظر(9) إلى عِلَّةٍ، لأنَّه ╕ قال: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، ولم يذكر لذلك تعليلًا. إلَّا أنَّه ╕ أخذ إذ ذاك(10) في القتال، ولم ينظر إلى التَّعليل، فعلى هذا فالاشتغال عن العمل بطلب العِلَّة في الدِّين عِلَّةٌ(11) إلَّا حيث نُصَّ عليها أو أُشير إليها فهي توسعةٌ ورحمةٌ.
          الثَّالث: قَوْلُهُ ╕: (أَنْ أُقَاتِلَ) هذا القتال هل المراد به القتال المعهود، وهو(12) القتال بالسَّيف والرُّمح وغير ذلك مِن السِّلاح، أو المراد به القتال بالحجَّة والبرهان؟
          محتمِلٌ للوجهين معًا بدليل قوله تعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] يعني: بالقرآن، وبدليل قَوْلهِ ╕: «قَاتِلُوا الْمُشْرِكِيْنَ بِأَلْسِنَتِكُمْ»، ولأنَّه ╕ أُمِرَ أولًا أن يقاتل بالحجَّة(13) والبرهان وذلك قبل الهجرة، ثمَّ بعد الهجرة أُمِرَ بقتالٍ خاصٍّ وهو مَنْ قَاتَلَهُ أو نازعه، فقال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، وقال تعالى:{وَأَلْقَوْا(14) إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} [النساء:90]، ثمَّ بعد ثمانٍ مِن الهجرة أُنْزِلَت سورة(15) براءة، وأمر ╡ فيها بقتال المشركين كافَّةً، حتَّى يعلنوا بالكلمة أو يؤدُّوا(16) الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، والظَّاهر بالقتال / هنا والله أعلم أن يكون المراد به القتال باللسان وبالحجَّة(17) والبرهان، لأنَّه ╕ لم يذكر فيه الجزية، واحتمل أن يكون المراد به القتال العامُّ، وسكت عن الجزية للعلم بها.
          الرَّابع: قَوْلُهُ ╕: (أَنْ(18) أُقَاتِلَ النَّاسَ)، الألف واللام هنا هل هي(19) للجنس أو للعهد؟
          مُحتمِلةٌ(20) للوجهين معًا، فإن كان الخطاب للنَّبيِّ صلعم فهي للعهد، لأنَّ(21) قِتال المؤمنين لا يجوز، ولأنَّه(22) ╕ قد خصَّصَ(23) المؤمنين، وأخرجهم مِن عموم اللفظ بِقَوْلِهِ ╕: (حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، ومَن قالها هم المؤمنون، فوقع النَّصُّ بمنع قتالهم، وإن كان الخطاب للنَّبيِّ صلعم ولأمَّته فهي للجنس، وهذا هو الأظهر والله أعلم، لأنَّ العادة جاريةٌ بأنَّ(24) الخطاب للرُّسل خطابٌ لهم ولأمَّتهم(25) إلَّا مواضع قلائل لها قرائن تبيِّنها.
          الخامس: قَوْلُهُ ╕: (حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، يريد(26): على مقتضى ما جئتُ به(27)، وما جاء ╕ به هو الإقرارُ بالوحدانيَّة على ما هي عليه مِن الجلال والكمال، ونفيُ الشَّريك والضدِّ والصَّاحبة(28)، والإقرارُ بالرِّسالة على ما تقرَّر في الشَّريعة، ومثله كثير في(29) ألسِنَة العرب إذا كان لأحدهم حقٌّ معلومٌ مُنِعَ منه يقول(30): لا أزال أقاتل حتَّى آخذ حقِّي، ويبهمه ولا يعيِّنه للعلم به.
          السَّادس: فيه دليلٌ على أنَّ هذا(31) الذِّكرَ الخاصَّ وهو قول: (لا إله إلَّا الله)، إذا كانت خالصةً أمانٌ / لصاحبها في الظَّاهر والباطن، فالأمان الذي هو(32) في الظَّاهر هو(33) ما تضمَّنه قَوْلُهُ ╕: (عَصَمُوا مِنِّي(34)) والأمان الذي هو(35) في الباطن ما تضمَّنه(36) قوله ╡ في كتابه(37): {أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
          السَّابع: فيه دليلٌ لقول مَن يقول بأنَّ(38) الكفار ليسوا مخاطبين(39) بفروع الشَّريعة، لأنَّه ╕ أخبر أنَّ القتال إنَّما يكون على التَّوحيد دون الفروع، والتَّوحيد ما ذكر مِن قوله(40): (لَا ِإلَهَ إِلَّا اللهُ).
          الثَّامن: قَوْلُهُ ╕: (فَمَنْ قَالَهَا(41) عَصَمَ مِنِّي نَفْسَهُ وَمَالَهُ)، فيه دليلٌ على أنَّ حرمةَ المال كحرمةِ الدَّم، لأنَّه ╕ سَوَّى بينهما في الحكم.
          التَّاسع: فيه دليلٌ على أنَّ الأموال تابعة للدِّماء، لأنَّه إذا اسْتُبِيْحَ الدَّمُ اسْتُبِيْحَ المالُ بالضَّرورة، ما لم(42) تكن في حدٍّ من الحدود.
          العاشر: فيه دليلٌ لقول مَن يقول: بأنَّ(43) العبد لا يملك، لأنَّ رقبة العبد ليست له، وإنما هي لسيِّدِه، والمال تابع للرقبة على ما قرَّرناه(44)..
          الحادي عشر: قَوْلُهُ ╕:(إِلَّا بِحَقِّهِ) هذا الاستثناء هل هو متَّصل أو منفصل(45)؟ محتمِلٌ للوجهين معًا(46)، فإن كان متَّصلًا، فالضَّمير عائدٌ على المال، لأنَّه أقرب مذكور، والحقُّ الذي في المال هو أخذ الزَّكاة(47)، وحقوق الغير وغير ذلك مما لا يجوز منعه، ويبقى(48) الدَّم ليس(49) في الحديث ما يَدُلُّ عَلَى حكمه، فيؤخذ حكمه مِن غير هذا الحديث، وهو قَوْلُهُ ╕: «لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِيمَانٍ، أو / زِنًا(50) بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ(51) نَفْسٍ بِغَيْرَ حَقٍّ»، وإن كان الاستثناء منفصلًا، فالضَّمير عائدٌ على الدِّين المشار إليه في الحديث وهو قوله: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ)، لأنَّ مَن قالها فقد دخل في الدِّين، وإذا دخل في الدِّين لزمه حقُّه، وحقُّه ما في الأبدان من الحدود، وما في الأموال مِن الحقوق، وهذا هو الأظهر والله أعلم، وفي هذا زيادة إيضاح وبيان لِمَا قدَّمناه مِن الاستدلال لقول(52) مَن قال بأنَّ(53) الكفار ليسوا مخاطَبين(54) بفروع الشَّريعة.
          الثَّاني عشر: قَوْلُهُ ╕: (وَحِسَابُهُ عَلَى اللهِ)، فيه دليلٌ على أنَّ التَّكليف مطلوبٌ ظاهرًا أو باطنًا(55)، لأنَّه بعد إعلانهم بالكلمة قال: (حِسَابُهُ(56) عَلَى اللهِ) أي: فيما احتوى باطنه عليه مِن الإخلاص وضدِّه، فعلى هذا فالظاهر الحكم فيه للبشر والباطن إلى الله، ولا يخلِّص المرء إلَّا الإخلاص(57) في الباطن والاستقامة في الظَّاهر، وقد نصَّ ╡ على ذلك في كتابه حيث قال: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف:33]، وقال ╡ : {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:188]، وقال ╡ : {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء:145]، فكانوا أشدَّ أهل النَّار عذابًا، لكونهم أَسَرُّوا خلاف ما أظهروا، والآي في ذلك كثيرة(58).
          وقد قال ╕: «إِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، فلعلَّ أَحَدَكُمْ يكون أَلْحَنَ بالحجَّةِ(59) مِنْ أَخِيْهِ، فَأَحكُمَ لَهُ / بحسبِ مَا أَسْمَعُ، فمَنْ قَطَعْتُ له مِن مالِ أخيهِ شيئًا فلا يأخُذْ منه شيئًا، فَإِنَّمَا(60) أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»، أو كما قال ╕(61) والأحاديث في هذا المعنى كثيرة(62).
          ومع كثرة هذه الأدلَّة مِن القرآن والحديث على منع هذا الوجه، فها هو(63) اليوم قد كثُر وفَشَا، لأنَّهم قد تواطَأُوا على أشياء بينهم لا تجوز بإجماع المسلمين، فيقيِّدونها في الظَّاهر على صورة تجوز على مذهب بعض العلماء، ثمَّ يأتون إلى(64) الحكَّام فيَحكُمون بها بينهم، فكان ذلك مقتضى(65) ما قال ╡ : {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} [البقرة:188]، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
          الثَّالث(66) عشر: في الحديث دليلٌ على أنَّه ينبغي للمكلَّف أن يقيم الحجَّة على نفسه بلسان العلم، ما دام في هذه الدَّار، حتَّى يكون إيمانه حقيقة دون دعوى، لئلا يكون ممن يأتي يوم القيامة للحساب، فيظهر له الخسران لعدم توفية ما يجب مِن حقِّ(67) الباطن الذي هو الحساب فيه موكول(68) إلى الله تعالى، وحقيقة الإيمان الذي أشرنا إليه هو اتباعُ الأمر واجتناب النَّهي(69) في الظَّاهر والباطن، وسلامةُ الاعتقاد، والخوفُ مِن الله والرَّجاءُ فيه على مقتضى الكتاب والسُّنَّة، وقد قال ╕: «حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا»، وقد قال ╕ حين مُدِح له رجل، فقال: «كَيْفَ هُوَ في عَقْلِهِ؟» يعني: عند الأمر والنَّهي، جعلنا الله ممَّن اتَّبع أمره واجتنب نهيه ووفَّى بعهده، إنَّه وليٌّ كريم.


[1] في (م): ((عن أبي هريرة قال قال)).
[2] قوله: ((فمن قال لا إله إلا الله فقد عصم مني نفسه وماله إلا بحقه وحسابه على الله ╡)) ليس في (ط) و(ج) و(ل).
[3] في (م): ((أو يعلنوا)).
[4] قوله: ((المسلمين)) ليس في (م).
[5] في (م): ((أُمرت الأمر هنا هل على الندب أو الوجوب)).
[6] قوله: ((قيام)) ليس في (م).
[7] قوله: ((أعني بقولي واجباً وجوب فرائض الأعيان، وأما المندوب فلا يكون إلا بعد قيام فرض الكفاية)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[8] في (ج) و (م): ((المرء)).
[9] في (ج) و (م): ((نظر)).
[10] في (م): ((ذلك)).
[11] قوله: ((علة)) ليس في (ج).
[12] في (م): ((هو)).
[13] في (م): ((أن يقاتل بالسيف والحجة)).
[14] في (ط) و(م): ((فإن ألقوا)) والمثبت من النسخ الأخرى هو الصواب.
[15] قوله: ((سورة)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (م): ((أو يعطوا)).
[17] في (م): ((والحجة)).
[18] في (ج): ((وأن)).
[19] قوله: ((هل هي)) ليس في (م).
[20] في (ط) و (ل): ((محتمل)).
[21] في (م): ((فإن)).
[22] في (م): ((لا يجوز لأنه)).
[23] زاد في (م): ((آية)).
[24] في (م): ((جائزة أن)).
[25] في (ج): ((ولأممهم)).
[26] في (ج) و (م): ((يعني)).
[27] قوله: ((ما جئت به)) ليس في (ج).
[28] في (م): ((وما جاء به هو الإقرار بالوحدانية على ما عليه من الجلال والكمال ونفي الشريك والصاحبة)).
[29] في (م): ((من)).
[30] في (ج): ((بقوله)).
[31] قوله: ((هذا)) ليس في (ج).
[32] قوله: ((الذي هو)) ليس في (ج).
[33] في (م): ((فالأمان الذي في الظاهر هو)).
[34] في (ج) و (م): ((فقد عصم مني)).
[35] قوله: ((هو)) ليس في (ج) و (م).
[36] في (ج) و (م): ((هو ما تضمنه)).
[37] في (م): ((قوله ◙ عن الله ╡)).
[38] في (م): ((أن)).
[39] في (ط): ((ليس هم مخاطبون)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[40] في (م): ((قول)).
[41] في (ج): ((من قال لا إله إلا الله فقد)) وفي (م): ((فمن قال لا إله إلا الله فقد)).
[42] في (م): ((لأنه إذا استبيح المال مالم)).
[43] في (م): ((العاشر لقول من يقول إن)).
[44] في (ط): ((لأن دم العبد ليس له وإنما هو لسيده والمال تابع للدم على ما قررناه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (م): ((منفصل أو متصل)) بتقديم وتأخير.
[46] في (م): ((جميعاً)).
[47] في (ج): ((والحق الذي في المال الزكاة)).
[48] في (ج): ((هي)).
[49] في (م): ((وبقاء الدم وليس)).
[50] في(ج): ((وزنا)).
[51] في(ج): ((وقتل)).
[52] في (م): ((بقول)).
[53] في (م): ((إن)).
[54] في (ط): ((ليس هم مخاطبون)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[55] في (م): ((ظاهراً وباطناً)).
[56] في(ج) و (م): ((وحسابه)).
[57] زاد في (م): ((لله)).
[58] في (ج): ((كثير)) وفي (م): ((أشد عذاباً لأنهم أسروا بخلاف ما أظهروا والآي في ذلك كثير)).
[59] في(ج): ((في الحجة)).
[60] في (م): ((فلا يأخذه فإنما)).
[61] قوله: ((أو كما قال ╕)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[62] في (ط) و(ج) و(ل): ((كثير)).
[63] في (ج): ((ما هو)) وفي (م): ((ها هو)).
[64] قوله: ((إلى)) ليس في (م).
[65] في (م): ((وكان ذلك بمقتضى)).
[66] في (م): ((الثاني)).
[67] في(ج): ((من حقوق)).
[68] في(ج): ((موكل)).
[69] في(ط): ((اتباع الأمر والنهي)) والمثبت من النسخ الأخرى.