بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي

          259- قوله صلعم : (سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي...) الحديثَ(1). [خ¦6306]
          ظاهر الحديث إخباره صلعم أنَّ هذه الألفاظ المذكورة فيه هي أعلى(2) أنواع طرق(3) الاستغفار وأقربها إلى الله ╡ . والكلام / عليه مِن وجوه:
          منها: أن يُقالَ: تخصيصه(4) صلعم هذه الألفاظ هل هو تعبُّدٌ لا(5) يُعقل له معنى، أو تُفهم الحكمة منها إن(6) سُبِكَ معناها إذ أُفْهِم في ألفاظ أُخَرَ بزيادةٍ أو نقصٍ، والمعنى باقٍ على حاله، هل تبقى له تلك المنزلة أم لا(7)؟ وهل المستغفر بهذه الألفاظ يكون استغفاره أرفع ممَّن(8) استغفر بألفاظ غير هذه، وكانت نيَّته أَرفع مِن نيَّة صاحب هَذه الألفاظ، أم لا؟ وَكذلك في الأوقات أيضاً هَل فضيلة(9) الأوقات في الاستغفار تَفْضُل هذه، أَو هذه تَفْضُلها؟.
          أمَّا قولنا: هَل هذا تعبُّد أو لحكمةٍ تُفهم؟ فالجواب(10): أنَّه لحكمة، أَلا ترى إلى حُسْن ألفاظه، وَما جمعت مِن بديع معاني الإيمان؟ فإنَّه جمع ◙ (11) فيه بين الإقرار لله بالإلهية وَحدَه، والاعتراف له ╡ أنَّه خالقه، وَاعترف عَلى نفسه بالعبودية لله ╡ ، وَاعترف بالعهد الذي أُخِذ عليه، والرَّجاء فيما وعدَه مولاه(12)، والإشارة إلى الجمع بين الشَّريعة والحقيقة بقوله: (وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ) فإنَّ الحكمة _وَهي الشريعة، وما كُلِّف مِن التكليف_ إنَّما تحصل(13) إذا كان في ذلك للعبد العَون بقدرة مِن القادر الَّذي تعبَّدنا، وَهي التي(14) يُكنى عنها بالحقيقة.
          فإذا أراد القادر الحكيم(15) ضدَّ ذلك _وَهو مَا قدر عَلى العبد مِن القدر الحتم_ لم ينفعه في ذلك أثر الحكمة، وغلبتْ الحقيقة العبد في نفسه حتَّى يجري عليه مَا قدر عليه، وقامت الحُجَّة / عليه بمقتضى العدل والحكمة(16) _التي هي الشريعة_ ولم يبقَ له شيء يدفع به عن نفسه إلَّا عقابٌ بمقتضى العدل وظهور الحُجَّة، أو عفو بمجرَّد الفضل مِن الله والرَّحمة. وهذه أرفع الطُّرق كما تقدَّم الكلامُ على ذلك في غير مَا موضع.
          ثمَّ(17) استعاذته بمولاه(18) الجليل مِن شرِّ ما جنى عَلى نفسه وإضافة(19) النَّعماء التي عليه إلى مولاه سبحانه وتعالى، وإضافة ذنبه إلى نفسه، ورغبته في مغفرة ذنبه، والإقرار أنَّه ليس يقدر أحدٌ على(20) مغفرة الذنوب إلا الله سبحانه، فيحقُّ أن يطلق عليه سيِّدُ الاستغفار، لأنَّ صيغة الاستغفار المعلوم لغة وَعادة هو «أَستغفرُ اللهَ». فانظر بِكَمْ وجهٍ يَفْضُل هذا الاستغفار المشار إليه هذه الصِّيغة المعروفة لغةً وعادةً، تَبِيْنُ لك حقيقةُ الحكمة في ذلك عياناً.
          وأمَّا قولنا: إذا سُبِك ذلك(21) المعنى بألفاظ غير هذه، وَلا ينقص مِن المعنى شيء، هل تبقى(22) حقيقة هذا الاسم أم(23) لا؟ فاعلم _وفَّقنا الله تعالى وإيَّاك_ أنَّ المعاني التي أُخذت مِن ألفاظ الشَّارع صلعم (24) إذا أُزيلت تلك الألفاظ المباركة عَن تلك المعاني أنَّ ذلك الخير لا يوجد له مِثل، لأنَّ الله ╡ قد جعل الخير فيه صلعم، وَعلى يديه الكريمتين، وفي لفظه وإشارته، وكلُّ ما يكون عنه أو به، لا يخلفه(25) في ذلك غيرُه صلعم.
          ألا ترى(26) إلى اختلاف / العلماء في نقل كلامه صلعم، هل يُنْقَل بالمعنى بشرط ألا يخلَّ فيه بشيء أو لا ينقل إلَّا بالفاء وَالواو كما يُنقل القرآن(27)؟ لأنَّه كلُّه عن الله تعالى، وما بينهما(28) إلَّا أنَّ الكتاب بالوحي بواسطة(29) المَلَك، وهذا عن الله بطريق الإلهام والإرشاد قال ╡ في حقِّه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] فكيف فيما(30) جُعلت فيه فضيلة؟ وإنَّما جُعلت(31) تلك الفضيلة لمجموع الأمرين، وَهما: حسن المعنى وبركة لفظه ╕، فإنَّه كذلك شاء الحكيم، لا تبديل(32) لحكم الله، وَهذا جارٍ في هذا(33) الحديث، وفي كلِّ مَا جاء عنه ╕ بلفظ مخصوص، فلا يُبَدَّلُ ذلك اللَّفظ بغيره أصلاً.
          وأمَّا(34) قولنا: هل يكون المستغفر بهذا الاستغفار، ونيَّته ليستْ هناك سيِّداً عَلى مَن(35) استغفر بغير هذا الاستغفار، ونيَّته صالحة مباركة على ما أُريد منه مِن الحضور وَالأدب؟ فاعلمْ(36) _وفَّقنا الله وإيَّاك_ أنَّ(37) حُسْنَ النيَّة في الأعمال لا يكون شيء خيراً منه، لقوله ◙ : «الأعمالُ بالنِّيَّات»، ولقوله ╕: «أوقعَ اللهُ أجْرَهُ على قَدْر نيَّتهِ».
          وإنَّما قال سيِّدنا صلعم أنَّ هذا سيِّدُ الاستغفار في الذين تَسَاوت نيَّاتهم وأحوالهم، فإذا تساوت النيَّات والأحوال ففي كلِّ نوع(38) منها: الذي يستغفر بهذا الاستغفار فاستغفاره(39) سيِّد نوعه، وكذلك جميع التعبُّدات مِن فرضٍ ونفلٍ وغيره مِن التفضيل في كلِّ نوع مِنه بوجهين(40): إمَّا بما وضع له مِن حدِّه، وإمَّا(41) بحسب نيَّات الفاعلين له وأحوالهم، وبحسب اختلافهم في ذلك.
          ومِن / أجل ذلك قال صلعم في الصَّلاة المفروضة التي هي في الدِّين بمنزلة الرأس مِن الجسد: ((إنَّه يُكتَبُ له نِصْفُها ثُلثُهَا رُبْعُها عُشْرُها)) وفي طريق(42) آخر: «ومنهم مَن تُطوَى كالثوب الخَلَق، ويُضربُ بها وَجْهُ صاحِبِهَا، وتقولُ له: ضيَّعتَني، ضَيَّعكَ اللهُ» أو كما قال ╕، فدخل المسكين في الصلاة لأن يأتي بخير العبادات، انعكس(43) عليه الأمر مِن أجل سوء حاله، أَنَّى هذا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
          وأمَّا قولنا: هَل المستغفر بهذا الاستغفار يَفْضُل الذي يستغفر بغيره في الأزمنة المرغَّب(44) في الاستغفار فيها أو(45) لا؟ فالجواب عَلى هذا كالجواب على النيَّة وَحسنِها، لأنَّ تلك الفضيلة التي جُعلت في الزمان لا تُقاس بفضيلة الألفاظ والنيَّات. وإنَّما هذا سيِّد الاستغفار إذا تساوتِ المراتب مِن كلِّ الوجوه.
          وإلَّا إذا كان هذا قد استغفر بغير هذا الاستغفار في الأسحار مثلاً فقد حصلت(46) له فضيلة السَّحَر في استغفاره، لقول مَولانا جلَّ جلاله: {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذَّاريات:18]، واستغفر شخص آخر بهذا الاستغفار بالنَّهار(47) حَصل له سيِّد استغفار مِن استغفر بالنَّهار بمثل(48) حاله، وليس للعقل(49) طريق بأن يحكم أيُّهما أفضلُ عند الله تعالى: هَل(50) الَّذي استغفر في السَّحرَ بغير هذا، أو هذا الذي(51) استغفر بالنَّهار بِهذا الاستغفار؟ لأنَّ التَّحديد لا يُؤخذ بالعقل ولا بالقياس، وإنَّما طريقه(52) / مَا يلقى في ذلك مِن الشَّارع صلعم، وهذا لم يأتِ عن الشَّارع صلعم فيه شيء، فيُرَدُّ الأمر فيه إلى الله(53) لا غير.
          ويترتَّب على النَّظر(54) في هذا الحديث وَأشباهه أنَّ الحكمةَ الربَّانيَّةَ كما اقتضتِ التفضيل بين العباد وجميع الحيوان وَكذلك سائر المخلوقات، عَلى مَا هو متلقَّى مِن طرق(55) الرُّسل ╫ وأخبارهم، فكذلك اقتضتِ الفضيلةَ(56) بين أنواع العبادات، وتضعيفَ الأجور في ذلك مِن وجوه سبعة: فمنها بنوعها، ومنها بحسن المعاني بين النَّوع الواحد في أنواعه أيضاً، وَمنها مِن طريق الألفاظ، ومِنها مِن جهة(57) الأماكن، ومنها مِن جهة الأزمنة، ومنها مِن جهة النيَّات والمقاصد(58)، ومنها مِن جهة الأحوال والطرق(59).
          وقال ╡ (60) في كتابه حضَّاً على طلب(61) الأعلى فالأعلى مِن هذه تنبيهاً للمكلَّف عليها وحضَّاً له على طلبها وتحصيلها: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ(62) وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]. وَحضَّت السُّنَّة عَلى ذلك بتبيين فضيلة كلِّ قِسم(63) مِنها وَتعيينه وما(64) للعامل في ذلك بأتمِّ تبيان، ثمَّ أكَّد ◙ ذلك بلفظ مجمل وهو قوله صلعم : «كَفَى بالعِبَادةِ شُغْلاً»، لأنَّه مَن جعل همَّته أن يأخذ الأعلى(65) فالأعلى مِن تلك السَّبعة وجوه(66)، لا يسعه مع ذلك شغل غيره، لأنَّه {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} [الأحزاب:4].
          وفيما نبَّهنا عليه حُجَّة(67) لأهل السلوك على طريق السنَّة والسنن، / لأنَّهم بهذا عَمروا أوقاتهم، وبالبحث عليه والاهتمام به شغلوا أنفسهم، حتَّى إنَّ بعضهم سُئل عن الصباح والمساء فقال: لا أعرفهما، فَسَلْ عنهما غيري(68)، لأنَّه رأى الأخذَ في هذا مِن قبيل اللَّغو شَغْلَ(69) الوقت بما لا يُغني.
          منَّ الله تعالى علينا بما به مَنَّ عَليهم بكرمه وَفضله، إنَّه على مَا يشاء قدير(70).


[1] في (ب): ((عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ ☺، عَنِ النَّبِيِّ صلعم قَالَ: سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أن تقول: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي، لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أعوذُ بكَ مِن شرِّ مَا صنعتُ، أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)).
[2] في (ب): ((المذكورة في الحديث هو أعلى)).
[3] في (ت): ((طريق)).
[4] في (ب): ((أن يقال هل جعله)).
[5] في (ج): ((أو))، في (ت): ((ألا)).
[6] في (ج): ((فيها وإن))، وفي (ب): ((هذه الألفاظ سيد الاستغفار تعبد لا يعقل له معنى أو هل يفهم الحكمة في ذلك؟ وهل إن))، وبعدها في (ب): ((سبك معناه إذا فهم..)).
[7] في (ب): ((له هذه الرفعة أم لا)).
[8] في (ت): ((مما)).
[9] قوله: ((في الأوقات أيضاً هل فضيلة)) ليس في (ب).
[10] في (ج): ((الجواب)).
[11] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((فإنه ◙ جمع)).
[12] في (ب): ((مولانا)).
[13] في (ج): ((يحصل)). و في (ب): ((وما كلفتنا من التكاليف إنما يحصل)).
[14] في (ت): ((وهو التي))، وفي (م) و(ج): ((وهو الذي))، والمثبت من (ب).
[15] قوله: ((الحكيم)) ليس في (ج). في (ت): ((الحاكم)).
[16] في (ب): ((الحكمة والعدل)).
[17] في (ب): ((في غير ما موضع من الكتاب. ويتبين ذلك بالكتاب والسنة ثم)).
[18] في (م): ((لمولاه)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] في (ب): ((فإضافة)).
[20] في (ج): ((يقدر على أحد)).
[21] في (ب): ((هذا)).
[22] في (ب): ((يقص)).
[23] في (ج) و(ت): ((أو)).
[24] زاد في (ب): ((أنها)).
[25] في (ج): ((لا يلحقه))، في (ت): ((لا يخلقه)).
[26] في (ب): ((أما ترى)).
[27] زاد في (ب): ((وعلى هذا هم أهل الجمهور)).
[28] قوله: ((وما بيهما)) ليس في (ب).
[29] في (ت): ((بوساطة)).
[30] في (ب): ((بما)).
[31] في (ب): ((فإنما حصلت)).
[32] في (ب): ((فإنه كذلك أنها الحكمة والقدرة البنية لا تبديل)).
[33] قوله: ((هذا)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[34] في (ج): ((وإنما)).
[35] في (ب): ((ليست بتلك الجودة سداً على من)).
[36] في (م): ((واعلم))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] في (ج): ((إلى)).
[38] في (ب): ((واحد)).
[39] قوله: ((فاستغفاره)) ليس في (ج).
[40] في (ب): ((وجهين)).
[41] في (م) و(ج): ((إمَّا))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[42] في (ب): ((لفظ)).
[43] في (ب): ((فانعكس)).
[44] في (م): ((المرغبة)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[45] في (ب): ((أم)).
[46] في (ب): ((حصل)).
[47] قوله: ((بالنهار)) ليس في (ج).
[48] في (ب): ((سيد الاستغفار من استغفر بالنهار مثل))، وقوله: ((من استغفر)) ليس في (ج).
[49] في (ج): ((العقل)).
[50] في (ج): ((هذا)).
[51] زاد في (م): ((بالفعل)) والمثبت من النسخ الأخرى. وقوله: ((هذا)) ليس في (ب).
[52] في (ب): ((لأن التحديدات لا تؤخذ بالعقل ولا بالقياس وإنما طريقها)).
[53] زاد في (ج): ((سبحانه فيه)). والعبارة في (ب): ((وهذا لم يأت الشارع صلعم شيء فيرد الأمر إلى الله تعالى)).
[54] في (ب): ((ويترتب على ذلك على النظر))، وقوله بعدها: ((وأشباهه)) ليس في (ب).
[55] في (ب): ((طريق)).
[56] في (ج): ((بالفضيلة)).
[57] قوله: ((جهة)) ليس في (ج).
[58] في (ج) صورتها: ((والمفاسد)).
[59] في (ب): ((والشيم)).
[60] في (ب): ((وقال الله ╡)).
[61] قوله: ((طلب)) ليس في (ب).
[62] قوله: ((ويرجون رحمته)) ليس في (ج).
[63] في (ب): ((نوع)).
[64] في (ب): ((وبما)).
[65] في (ب): ((بالأعلى)).
[66] في (ب): ((ونحوه)).
[67] في (ب): ((وفيما بيناه حجة)).
[68] في (م) و(ت): ((عنه غيره))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[69] في (ت) و(ب): ((وشغل)).
[70] قوله: ((إنَّه على مَا يشاء قدير)) زيادة من (م) على النسخ الأخرى.