بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لا حمى إلا لله ولرسوله

          99- قولهُ صلعم : ((1) لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ(2)...). [خ¦2370]
          ظاهرُ الحديثِ يدلُّ على أنَّ(3) الحِمى كلَّه للهِ ولرسولِه / صلعم، والكلامُ عليهِ مِن وجوهٍ:
          منها: تبيينُ معنى هذا الحِمَى، فهل(4) هو على الوجوبِ أو(5) الندبِ؟ ومَن هو القائمُ بهِ؟ وما شروطُه؟
          فأمَّا الحِمَى فقدْ يكونُ بمعنى خمسةِ وجوهٍ:
          أحدُها: حَجْرُ بعضِ الأمورِ و(6) إجازتُها، وهيَ تقريرُ الأحكامِ، فمَن جعلَ اللهُ ╡ لهُ أنْ يمنعَ منعَ(7)، ومَن لم يجعلِ اللهُ لهُ ذلكَ فليسَ ذلكَ لهُ(8)، كَقَولِه(9) تَعَالَى:{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا(10) أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ(11) إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}[يوسف:40].
          وقد يكونُ بمعنى العزة والامتناعِ، كَقَولِهِ ╡ : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8]، كما(12) قَالَ عمرُ بنُ الخطابِ ☺: بالإيمانِ اعتَزَزْنَا.
          وقدْ تكونُ بمعنى الامتناعِ والتحصُّنِ(13)، فمَن يُريد أنْ يمتنِعَ ويتحصَّنَ فإنما يصحُّ له ذلكَ حقيقةً إذا كانَ باللهِ وبرسولهِ صلعم، ومعناهُ باتباعِهِ لأمرِ اللهِ ورسولِه صلعم لِقَولِهِ تَعَالَى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد:7]، ونصرةُ اللهِ هي باتباعِ أمرِهِ واجتنابِ(14) نهيِه، واتباعِ سنَّةِ رسولِه صلعم لِقَولِهِ ╡ : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ} [النساء:80]، وقَالَ ╡ : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:64]، أي: كافيك.
          وقد تكونُ بمعنى التعصُّبِ والمُدافعةِ كما كانتِ العربُ تفعلُ بعضُها مع بعضٍ، كما قَالَ السائلُ حينَ سألَ عنِ الجهادِ: ومنَّا مَن يُقاتِلُ حَمِيَّةً[خ¦7485]، وكما قَالَ ╡ : {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ} [آل عمران:52 / وقَولُه ╡ : {كُونُوا أَنْصَارَ اللهِ} [الصف:14]، أي مع الله(15)، ولا ينتفي معَ ذلكَ التناصُرُ بينَ الناسِ، لكنْ إذا كانَ على المشروعِ فهو لله؛ لِقَولِهِ(16) ◙ : «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا» [خ¦2443]، فنصرةُ المظلومِ هي للهِ، وكذلكَ نصرةُ الظالمِ بردِّهِ عن ظلمِه للهِ، فهي نصرةُ اللهِ.
          وقد تكونُ بمعنى سابقِ القدرِ، فإنَّ الحِمَى حقيقةً مَن سَبقَ لهُ(17) حِمًى مِنَ اللهِ ورسولِه صلعم بالإِخبارِ والدعاءِ منهُ، كَقَولِهِ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا} [التوبة:51]، فمَن حماهُ اللهُ ورسولُه صلعم فلا يقدِرُ أحدٌ عليهِ، وحِمَى غيرِه لا شيءَ؛ لأنَّهُ(18) وإنْ وقعَ بحكمِ الوفاقِ فهو منقطعٌ، وحِمَى اللهِ لا ينقطعُ(19).
          واحتملَ الجميعُ وهو الأظهرُ، وحيثُ ما وجدنا ما يناسبُ هذهِ المعاني المُتقدِّمةَ فيهِ فالاستحقاقُ فيهِ للهِ ولرسولِه صلعم.
          وممَّا فيهِ في(20) هذا المعنى شيءٌ مِن كتابِه العزيزِ قَولُهُ ╡ (21): {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر:10]، وقَولُهُ: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، ومما يناظرُ(22) هذا الحديثَ في معناه(23) قَولُه ◙ : «إنَّ اللهَ أذهبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الجاهليةِ وفَخْرَها(24) بالأنسَابِ، مؤمنٌ تقيٌ أو فاجرٌ شقيٌ»(25)، وكَقَولِهِ(26) تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13]، فتحصَّلَ مِنَ الفقهِ مِن الجميعِ بما نصَّ(27) أنَّ جميعَ ما كانتِ الجاهليةُ تفعلُه مِن افتخارٍ وحِمايةٍ وتعصُّبٍ وتجديدِ أحكامٍ وتناصرٍ وتحصُّنٍ وما يشبهُ هذهِ الأمورَ / التي فيها حظوظُ الأنفسِ لم يُبقِ الإيمان(28) منها شيئًا إلا ما وافقَ كتابَ اللهِ وسنَّةَ رسولِه صلعم، ومَن فعلَ مِن ذلكَ شيئًا(29) بغيرِ هاتينِ الطريقتَينِ فقدِ اسْتَنَّ في الإسلامِ سنَّةَ(30) الجاهليةِ، ودخلَ تحتَ قَولِه صلعم : «ثلاثةٌ(31) يُبْغِضُهُمُ اللهُ»، وعدَّ فيهم: «مَنِ اسْتَنَّ في الإسلامِ سُنَّةَ الجاهليةِ»[خ¦6882].
          ويكون هذا الحكمُ عامًّا في الخاصِّ والعامِّ والقريبِ والبعيدِ. يُؤيِّدُ(32) ذلكَ قَولُهُ تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}(33) [التوبة:24]، هذا يشتركُ فيهِ العوامُّ والخواصُّ(34).
          ويختصُّ أهلُ الخصوصِ(35) بأمرٍ آخرَ وهو الخواطرُ، فإنَّ الخواطرَ أربعةٌ: ربانيٌّ، وملكيٌّ، ونَفسانيٌّ، وشيطانيٌّ، فتكونُ الحمايةُ(36) للاثنيِن وعنهُما، وهما: الربانيُّ والملكيُّ، وتكونُ محاربتُه للنفسانيِّ والشيطانيِّ، وقد يكونُ(37) في حزبِ: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، هذا للمتناهي(38) الذي يميِّزُ بين الخواطرِ، وأمَّا المُبتدِئُ فإذا وردَ عليهِ الخاطرُ يعرِضُه(39) على الكتابِ والسنَّةِ فيَبِينُ لهُ إذ ذاكَ مِن أيِّ الأقسامِ هو؟ فيعملُ فيه بمُقتضى الكتابِ والسُّنَّةِ.
          وأمَّا قولنا(40): هل يكونُ منها واجبًا أومندوبًا؟ أمَّا مِن طريقِ الفقهِ وأحكامِ الفروعِ ففيهِ ما هو واجبٌ ومنهُ ما هوَ مندوبٌ، وأمَّا(41) ما هو مِن طريقِ التوحيدِ والإذعانِ إلى أحكامِه ╡ ونفوذِ القدرِ وما هوَ في / معناهُ، مثلُ العِزَّةِ والعظمةِ، وما يكونُ مثلَهما فواجبٌ اعتقادُه والعملُ بهِ، وأمَّا الذي هو مِن قِبَلِ التمنُّعِ والتعصُّبِ في اللهِ وباللهِ وما هوَ في معناه(42) فمِن طريقِ الندبِ والإرشادِ، وأمَّا مِن طريقِ أهلِ التحقيقِ فالكلُّ عندَهم واجبٌ.
          وأمَّا مَنِ: القائمُ بهِ؟ فعلى المشهورِ من الأقاويلِ فكلُّ مؤمنٍ ومؤمنةٍ(43) كلٌّ بقدرِ استطاعتِه، وأمَّا على قولِ مَن يقولُ بأنَّ الكفارَ مخاطبونَ بفروعِ الشريعةِ فعلى جميعِ بني آدمَ كلِّهم.
          وأمَّا الشروط(44) فعلى قولِ مَن يقولُ: إنَّ العلمَ شرطٌ في تقريرِ الأحكامِ فعلى مَن يعرفُه، وأمَّا على قولِ مَن يقولُ: إنَّ الجهلَ بالأحكامِ ليسَ بعذرٍ وهوَ الحقُّ؛ لأنَّهُ لو كانَ الجهلُ(45) عذرًا لكانَ أرفعَ منَ العلمِ، ولا قائلَ بذلكَ فعلى كلِّ بالغٍ عاقلٍ بقدرِ طاقتِه.
          وفيهِ(46) دليلٌ على عظيمِ فصاحتِه صلعم، لفظةٌ واحدةٌ جمعَتْ أحكامَ الشريعةِ والحقيقةِ كلِّها.


[1] في (ل): ((قوله: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻: أَنَّ الصَّعْبَ بْنَ جَثَّامَةَ، قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم قَالَ:)).
[2] زاد في (ل): ((وَقَالَ أَبُو عَبد اللهِ: بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلعم حَمَى النَّقِيعَ، وَأَنَّ عُمَرَ حَمَى السَّرَفَ وَالرَّبَذَةَ)).
[3] قوله: ((أن)) ليس في الأصل (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] في (ج) و(م): ((وهل)).
[5] زاد في (ج) و(م): ((على)).
[6] في (م): ((أو)).
[7] قوله: ((منع)) ليس في (م).
[8] قوله: ((فليس ذلك له)) ليس في (م).
[9] في (م): ((لقوله)).
[10] في الأصل (ط) و(ل): (({إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا} [النجم: 23])) والمثبت من (م).
[11] قوله: ((ما تعبدون من دونه.... سلطان)) ليس في (ج).
[12] في (ج) و(م): ((وكما)).
[13] في (م): ((والتحصين)).
[14] قوله: ((واجتناب)) ليس في الأصل (ط) و(ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[15] في (ط) و(ل): ((أنصار الله ومعنى لله)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[16] في (ج) و(ل): ((كقوله))، وفي (م): ((كما قال)).
[17] قوله: ((له)) ليس في (ج).
[18] في (م): ((فإنَّه)).
[19] في (ط): ((يقطع)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[20] في (ل): ((من)).
[21] في (ج) و(م): ((وسلم. ومن هذا الباب قوله ╡)).
[22] في (م) و(ج): ((ومما يناسب)).
[23] في (ج) و(ل): ((معنى ما))، وفي (م): ((معنى)).
[24] في (ط) و(ل): ((غباوة الجاهلية وفخارها)).
[25] أخرجه أحمد ░8736▒ من حديث أبي هريرة.
[26] في (ج): ((وقوله)).
[27] قوله: ((من الجميع بما نص)) ليس في (ج) و(م).
[28] قوله: ((الإيمان)) ليس في (م).
[29] في (م): ((ومن فعل في شيءٍ)).
[30] في (م): ((فقد استن سنة في)).
[31] في (م): ((ثلاثًا)).
[32] في (م): ((ويؤيد)).
[33] في (ل): (({قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُم...} [التوبة: 24])).
[34] في (م): ((والخصوص)).
[35] في (ج): ((الحرص)).
[36] في (ج): ((الحما)).
[37] في (م): ((والشيطاني ويكون بذلك)).
[38] في (م): ((للمنتهي)).
[39] في (م): ((فيعرضه)).
[40] كلمة: ((قولنا)) ليست في (ط) و(ل).
[41] في الأصل (ط) و(ل): ((فأما)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[42] في (ج) و(م) و(ل): ((معناهما)).
[43] في (ج) و(م): ((وأما قولنا من القائم به فكل مؤمنة ومؤمن)).
[44] في (ج): ((وأما قولنا بالشروط))، وفي (م): ((وأما على قولنا مالشروط)).
[45] قوله: ((بالأحكام ليس بعذر... الجهل)) ليس في (ج).
[46] قوله: ((وفيه)) ليس في (ج).