بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث عدي: ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة

          269- قوله صلعم : (مَا مِنْكُمْ(1) مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ...) الحديثَ(2). [خ¦6539]
          ظاهر الحديث يدلُّ على حكمين:
          أحدهما: إخباره صلعم بأنَّ مَا منَّا مِن أحد إلَّا(3) سيكلِّمه الله يومَ القيامة ليس بينَه وبينَه ترجمان، أي: أنَّه يشافهه بذاته الجليلة بِلا واسطة بينهما.
          والآخر: إشارته صلعم إلى أن تُتَّقى النَّار بالصَّدقة، ولو بما قَلَّ منها، وهو شِقُّ تمرة. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: أنَّ فيه دليلاً على أنَّ احتجابه(4) جَلَّ جلاله عن عباده بغير حائل حسِّيٍّ، بل بقدرته ╡ / لا غير. يُؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (ثُمَّ يَنْظُرُ فَلَا يَرَى شَيْئًا قُدَّامَهُ، ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ). فلو كان الحجاب بشيء محسوس لكان النَّاظر يبصره، وَكذلك حجابه جلَّ جلاله في هذه الدار أيضاً بالقدرة والعزِّ والجبروت لا بالمحسوسات، ومَا جاء مِن ذكر الحِجاب في الحديث فتعظيم لمملكة المَلِك الَّذي(5) ليس كمثله شيء، ومَن ليس كمثله شيءٌ(6) فلا يحجبه شيء، ومِن هذا(7) يُستدلُّ على أنَّ المولى سبحانه ليس بمتحيِّز(8)، وَلا في جهة مِن الجهات، فإنَّ كلَّ مَن هو متحيِّز أو في جهة مِن الجهات فإنَّما يكون حجابه(9) بحائل(10) محسوس مرئي(11).
          وفيه دليل على أنَّ رؤيته سبحانه أو كلامه أو مَا كان مِن صفاته ╡ إذا تجلَّى لعبده بذاته أو بصفة مِن صفاته(12) لا يقدر أن يَرى معه أو مع صفة مِن صفاته شيئاً، يُؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (ثُمَّ يَنْظُرُ) وذلك بعد فراغه مِن سمع الكلام، فدلَّ على أنَّ عندما يتجلَّى ╡ لعبده(13) بصفة مِن صفاته _وهي الكلام_ لم يمكنه مع ذلك أنْ ينظر إلى شيء.
          ومما يقوِّي ذلك ويوضِّحه(14) ما جاء في الَّذين أكرمهم الله تعالى في دار كرامته بدوام النَّظر إلى وجهه الكريم، لأنَّهم لا يقدرون مَعه أن يلتفتوا إلى الجنَّة وَلا إلى نعيمها، وَلا إلى الحُور وَالولدان، ولا لشيء مِن ذلك، حتَّى تشكوا(15) الحُور والولدان إلى الله كثرة غَيبتهم عنهم، فيقول جَلَّ جلاله: / «إن الحُورَ والولدانَ قد شكَوا طول(16) الغَيبةَ» فيقع الحجاب بينه وبينهم، فيرجعون إلى الحُور والولدان، ثمَّ يستغيثون إلى الله سبحانه مِن الحجاب، فيمنُّ(17) الله جلَّ جلاله عليهم برفعه. هكذا دأبهم أو كما ورد(18).
          وفيه تنبيه صوفيٌّ يدلُّ على أنَّ المحجوبَ هو الذي ينظر ويلتفت. يُؤخذ ذلك مِن أنَّ هذا لم ينظر حتى حُجب.
          وفيه دليل لأهل الصُّوفة المتحقِّقين المتَّبعين للسنَّة لأنَّهم يقولون: الملتفت هالك(19). يُؤخذ ذلك مِن أنَّ هذا لَمَّا نظر أمامَه وبين يديه _وَهذه صورة الالتفات_ استقبله(20) الهلاك، وَهو النَّار. أعاذنا الله منها بمنِّه(21).
          وفيه دليل على قُرْب النَّار مِن أهل المحشر. يُؤخذ ذلك مِن قوله ◙ : (ثُمَّ يَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَتَسْتَقْبِلُهُ النَّارُ) ومن(22) استقبله الشَّيء بين يديه فهو أقرب الأشياء إليه.
          وفيه دليل عَلى فضل الصَّدقة. يُؤخذ ذلك(23) مِن كونه صلعم أخبر أنَّها الواقية مِن النَّار بقوله صلعم : «اتقوا النَّارَ ولو بشِقِّ تمرةٍ» فإذا كانت هي الواقية مِن ذلك الأمر(24) الخطر فدلَّ ذلك على عظيم(25) فضلها.
          وفي هذا دليل لأهل الصوفة المتحقِّقين(26)، لأنَّهم بنوا طريقهم عَلى كثرة البذل والإيثار، وَقد قال رسول الله(27) صلعم عن الصدقةِ في هذه الدار وفضلِها فيها أيضاً: «ادْفَعُوا البلاءَ بالصَّدقة» وجعله مطلقاً مِن أيِّ نوع كان، أعني دفع البلاء. وقال ╕: / «اسْتَعِيُنوا على قَضَاء حوائجِكُم بالصَّدقة» أو كما قال ╕، فأخبر ◙ عنها بأنَّها في الدارين دافعة لبلائهما بحسب ما ذكرناه آنفاً. وقدْ قال الله سبحانه(28) في كتابه العزيز مَا يشهد لهذا: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:8-11].
          وفيه دليل عَلى قبول الخير مِن العبد، وإنْ قلَّ. يُؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ).
          وبقي هنا إشارة، وَهي لمن هَذا الخير؟ هل لكلِّ متصدِّق، وَبكلِّ(29) صدقة كانت مِن أيِّ نوعٍ كانَ كسبُ المتصدِّق(30) بها، أم لا؟.
          فالجواب أنَّه ليس المراد ذلك، بل ذلك(31) للذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهم على أوامر ربِّهم يحافظون، بدليل قوله صلعم : «إنَّ أوَّلَ ما يُنظرُ فيه مِن عَمَلِ العبد الصَّلاةُ، فإن قُبلتْ منه نُظر في سائر عمله، وإلَّا لم يُنظرْ فيه» أو كما قال ◙ . فمَن لم تُقبل صَلاته، ولا نُظر في باقي عمله، فأيُّ شيءٍ يَقيه مِن النَّار، وقد استوجب دخولها؟!.
          وكذلك كلُّ فرضٍ لم يفعله لم تُغنه(32) النوافل عنه، واستحقَّ بتركه دخول النَّار والعقاب على ذلك بقَدْرِ جُرمه.
          وكذلك(33) إذا كانت الصَّدقة مِن مالٍ غير طيِّب لم تُقبل(34) لقوله صلعم : «إنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ صلاةً بغير طُهورٍ / وَلا صدقةً مِن غُلول». وكذلك إن كان فيها شائبة(35) لغير الله تعالى لا تُقبل أيضاً(36)، لقوله تعالى يوم القيامة لمن خلط في(37) عمله لغير الله شيئاً: «أنا أَغْنَى الشُّرَكاءِ، اذهبْ فاطْلُب الأجرَ مِن غيري». فلْيتنبَّهِ المرءُ لنفسه وعمله(38) ويُصلحْهما عَلى حسب ما بيَّنته الشريعة وأوضحته، وإلَّا دخل تحت قوله ╡ : {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].
          وبقي بحثٌ في قوله صلعم : (مِنْكُمْ) هل يعود ذلك عَلى جنس بني آدم، أو هو لجنس المؤمنين؟ ظاهر اللَّفظ محتملٌ، وَما جاء في الكتاب العزيز يخصِّصه، وهو قوله تعالى في حقِّ الكفار: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فبهذا يتخصَّص هَذا اللَّفظ، وبقي الكلام(39) للمؤمنين خاصَّة صالحهم وغيره(40).
          وبهذا فرح أهل الصُّوفة وتنعَّموا لمَّا أيقنوا بسمع كلامه جلَّ جلاله بلا واسطة، وتجلِّيه لعباده سبحانه(41) المؤمنين بلا حجاب، حتَّى إنَّه قد(42) رُوي عن رابعة العدوية(43) أنَّها قالت: أَوَليس يوبِّخني ويقول لي: يا(44) أمَةَ السُّوء، فعلتِ كذا وكذا؟ أو كما قالت. فهذا كان عندها مِن أكبر النَّعيم أن تسمع كلامَ الجليل بلا واسطة، وإنْ كان بالتوبيخ. فكيف به أن يكون بالعطف والتأنيس، كَما أخبر ╡ في كتابه بالقول لهم: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} [الإنسان:22] يا له مِن فرحٍ وسرورٍ حارتْ لديه العقول!
          جعلنا الله مِن أهله بمنِّه وفضله.


[1] قوله: ((ما منكم)) ليس في (ج).
[2] في (ب): ((عن عدي بن حاتم ☺ قال: قال النبي صلعم : ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، ثم ينظر فلا يرى شيئاً قدامه، ثم ينظر بين يديه فتستقبله النار، فمن استطاع منكم أن يتقي النار ولو بشق تمرة)).
[3] قوله: ((إلا)) ليس في (ج).
[4] في (ب): ((على احتجابه)).
[5] في (ب): ((فتعظيم لملكه الذي)).
[6] في (ج): ((مثله شيء))، و قوله: ((ومن ليس كمثله شيء)) ليس في (ب).
[7] في (ب): ((هنا)).
[8] في (ج): ((متحيز)).
[9] في (ج) و(ت): ((الجهات فحجابه))، و قوله: ((فإنما يكون حجابه)) ليس في (ب). وبعدها في (ت): ((حائل)).
[10] في (ت): ((حائل)).
[11] في (ب): ((يرى)).
[12] قوله: ((╡ إذا تجلَّى لعبده بذاته أو بصفة مِن صفاته)) ليس في (ت).
[13] في (ت): ((لعبد)).
[14] في (ج): ((يقوي ويوضحه)).
[15] في (ج): ((تشتكي)).، في (ت): ((تشكوا)).
[16] قوله: ((طول)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[17] قوله: ((سبحانه مِن الحجاب، فيمنُّ)) ليس في (ج).
[18] قوله: ((أو كما ورد)) ليس في (ب).
[19] قوله: ((هالك)) ليس في (ج).
[20] في (ج): ((استقبل)).
[21] زاد في (ب): ((وكرمه)).
[22] في (ب): ((فمن)).
[23] قوله: ((ذلك)) ليس في (ت).
[24] زاد في (ب): ((العظيم)).
[25] في (ب): ((عظم)).
[26] في (م): ((المحققين)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[27] قوله: ((رسول الله)) ليس في (ب).
[28] في (ج): ((قال سبحانه)).
[29] قوله: ((متصدق وبكل)) ليس في (ج).
[30] في (ب): ((المصَّدِّق)).
[31] قوله :((بل ذلك)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[32] في (ب): ((لم تقيه)).
[33] في (ج) و(ب): ((فكذلك)).
[34] قوله: ((لم تقبل)) ليس في (م) والمثبت من (ج) و(ب). وفي (ت): ((لم يقبل)).
[35] في (ج): ((لشبيه)).
[36] قوله: ((لا تقبل أيضاً)) ليس في (ب).
[37] قوله: ((في)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[38] في (ب): ((وعملها)).
[39] قوله: ((وبقي الكلا)) ليس في (ب).
[40] في (ج): ((وغيره)).
[41] في (ت) و(ب): ((وتجليه سبحانه لعباده)).
[42] قوله: ((قد)) ليس في (ج). في (ت): ((بلا حجاب لأنَّه قد)).
[43] قوله: ((العدوية)) ليس في (ج).
[44] قوله: ((يا)) ليس في (ج).