بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لم يبق من النبوة إلا المبشرات

          277- قوله صلعم : (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا المُبَشِّرَاتُ...) الحديثَ(1). [خ¦6990]
          ظاهر الحديث(2) يدلُّ عَلى انقطاع النبوَّة ولم يبقَ منها إلَّا المبشِّرات، وَهي الرؤيا الصَّالحة. والكلام عليه مِن وجوه:
          منها(3) أن يُقال: كيف نفهم قوله: (لَمْ يَبْقَ)؟ وَكيف نفهم ما معنى (الصَّالحة)؟ وَهل الذي ما بين هذه الرؤيا والنبوَّة(4) مِن تضعيف الأجزاء والنِّسبة، هل نأخذه تعبُّداً أو لنا / طريق لمعرفة(5) ذلك، والتي ليستْ بصالحة إن كانت حقَّاً فهل تكون مِن النبوَّة أم لا؟ وهل هذه المبشِّرات على عمومها كان الذي يراها(6) تقيَّاً أو غير ذلك؟ ومَا الحكمة في أن قال: (مِن النبوَّة) ولم يَقُل: مِن الرِّسالة؟.
          أمَّا قولنا: كيف نفهم قوله ◙ : (لَمْ يَبْقَ)؟ وَهذا إنَّما يُستعمل في الماضي؟ اعلمْ أنَّ العرب تأتي بالماضي(7) وتريدُ به المستقبل، إذا كان في الكلام ما يدلُّ عليه كقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ} [المائدة:116] وَهذا إنَّما يكون يوم القيامة، وقد بيَّن صلعم هَذا في حديث غيره فقال: «لا يَبْقَى(8) بَعْدِي مِن النُّبوة إلَّا المبشِّراتُ» أو كما قال ╕.
          وأمَّا قولنا: مَا معنى (الصَّالِـحَة)؟ فمعناها الحسنة، كما قال ╡ في كتابه في قصَّة موسى ◙ مع شعيب ◙ : {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} [القصص:27] ولم يُرِد شعيب(9) ◙ مدحَ نفسِهِ بالخير، وإنَّما أراد به معنى الخير والإحسان لموسى ◙ . فما فيه خير لك(10) يسوغ فيه أن يُقال: هذا صالحٌ، أي: يصلح(11) لك، أو يَصْلُح به أمرُك أو شأنك.
          وأمَّا قولنا: كيف النِّسبة بينها(12) وَبين النبوَّة؟ ومِن أينَ يكونُ الجمع بينها(13) وبين النبوَّة(14)؟
          فاعلمْ أنَّ النِّسبة بينهما وطَريق الجمع مِن وجهين:
          الواحد: مِن طريق أنَّ النُّبوة حقٌّ لا شكَّ / فيها، فهذه كذلك حقٌّ لا شكَّ فيها، وقد نبَّه صلعم عَلى ذلك في الحديث بعدَ هذا بقوله ◙ (15): «وَمَا كَانَ مِنَ النُّبُوَّةِ فَإِنَّه لَا(16) يُكَذَّبُ».
          والوجه الآخر(17): هُو أنَّه لَمَّا كانت بداية نبوَّته ◙ قبل أن يأتيه الوحي «بالرؤيا الصَّالحة» كما هو مذكور أوَّل الكتاب «فكانَ لا يَرَى رُؤيا إلَّا جاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ» فما كان بدؤها أوَّلاً هو الذي يبقى مِنها آخراً {كَمَا بَدَأْنَا(18) أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا(19)} [الأنبياء:104].
          وأمَّا قولنا: هل الَّتي ليستْ بصالحةٍ إن كانت حقَّاً هل تكون مِن النبوَّة أم لا؟ فإنْ فهمنا مِن قوله: (صَالِحَة) الخير الذي فيه سرورٌ للنفس وفرحٌ به لا غيرَ فلا نحكم لها بأنَّها مِن النُّبوَّة، فعلى هذا فتُقسم(20) الرؤيا على ثلاثة أقسام: فما كان منها يَسُرُّ فمِن النبوَّة، وما كان حُلُماً فهو مِن الشَّيطان، وما كان منها بين ذلك _وهو الذي ليس(21) بحلم(22) ويُكره_ فهو محتمِل أن يكون حقَّاً فيُلحق بالنبوَّة لأنَّه حقٌّ، فجاءت النِّسبة وَهو محتمل(23) أن يكون باطلاً فنلحقه بالَّذي هو مِن الشيطان، وهي الأضغاث والأحلام(24)، لكن هذا لا يُعلم الحقُّ منه مِن الباطل إلَّا بحسب ما تستقرُّ(25) به العاقبة.
          وإن قلنا: إنَّ معنى (صَالِحَة) ما يَصْلُح به حالك، فإنَّ ممَّا يَصْلُح به الحال أن يبيِّن للمرء / ما يصلح به حاله مِن خير يُسَرُّ(26) به أو شرٍّ يحذر منه، فإنَّ بهذا أتتِ النبوَّة معلِّمة بطرق(27) الخير، ومحرِّضة عليها، ومبيِّنة لطرق الشَّرِّ وَمحذِّرة(28) عنها، فتكون الرؤيا على هذا على نوعين: ما يكون منها حقَّاً(29) بحسب دلائل التعبير(30) في ذلك، فهي مِن النبوَّة، وما كان منها مَخُوفاً ولا يُعْلَم له معنى مِن طريق أدلَّة العِبارة، فهو مِن الشيطان.
          ومما يبيِّن(31) ذلك مَا ذُكر أنَّه أتى شخص إلى رسول(32) الله صلعم فقال: إنِّي رأيت في المنام كأنَّه رأسه قُطع، والرَّأسُ يَتدحْرَجُ وهو يجري خلفه، فزَجَره وقال له(33): «هذا مِن الشَّيطان، أحدٌ يُقْطَع رأسُهُ ويبقى حيَّاً يمشي؟!» أو كما قال ◙ ، والوجه الأوَّل أظهر، والله أعلم.
          وما ذكرناه مِن التَّقسيم والتفسير بين الحسن وضدِّه يحتاج ذلك إلى معرفة علم العبارة على مقتضى الكتاب والسُّنَّة، وحينئذ نعرف الفرق بينهما، وإن لم يكن لنا بذلك علم فلا يحلُّ لنا أنْ نتكلَّم في شيء(34) مِن ذلك، لأنَّه مَن تكلَّم في ذلك بغير علم، فهو مِن باب الهزءِ بآثار النبوَّة وَهذا ممنوع.
          وأمَّا قولنا: هَل هذه المبشِّرات(35) على عمومها، كان الَّذي يراها كيف كَان تقيَّاً أو غير ذلك؟ أمَّا هذا الحديث فلا يُفهم مِنه مِن ذلك شيء، وَقد جاء هذا عنه صلعم في حديث غيره بقوله ╕: «يَرَاها الرَّجُل الصَّالحُ أو تُرى له»، لأنَّ الغالب / مِن غير الصَّالح إمَّا أن يكون مِن شياطين الإنس فكفى بها، أو يكون مستغرقاً في دنياه فالغالب عليه حديثُ النَّفس وشهواتها، فلم يبقَ مع هؤلاء في هذا الباب كلام، هذا هو الغالب وعليه تُحمل الأحلام(36)، وما يندر مِن ذلك فالنادر لا حُكمَ له. وإذا نظر يُعلَّل(37) بوجوه بحسب الحال والوقت، وإن كنَّا قد(38) نبَّهنا عَلى هذا فيما تقدَّم مِن الكتاب.
          وأمَّا قولنا: ما الحكمة في أنْ قال صلعم : (مِنَ النُّبُوَّةِ) ولم يقل: مِن الرسالة؟ فاعلم(39) أنَّ هذا مِن أكبر الدَّلائل على ما خصَّه الله ╡ به مِن حُسن البلاغة وسرعة الإدراك لغوامض الفوائد عَلى البديهة(40)، وَذلك أنَّ الأنبياء ╫ منهم مَن هو مرسَل للغير، ومنهم مَن تنبَّأ وليس بمرسَل، فلمَّا كانت المرائي منها ما يكون فيما يخصُّ المرء نفسه، ومنها ما يراها(41) لغيره، كما ذكرنا عنه ◙ آنفاً بقوله: «يَرَاها الرَّجُلُ الصَّالحُ أو تُرى له»، فلهذه النِّسبة ذكر ◙ (42) النبوَّة ولم يذكر الرِّسالة، وأنَّها(43) حقٌّ مثل مَا هي النُّبوَّة حقٌّ، وبقي فيها احتمال هل تخصُّ أو تعمُّ؟ كَما أنَّ النبوَّة قد يكون معها الإرسال فتكون عامَّة، أو لا يكون معها إرسال فتكون خاصَّة.
          وفيه دليل عَلى جواز مراجعة العالم إذا لم يُفهم كلامه. يُؤخذ ذلك مِن قولهم: / (وَمَا المُبَشِّرَاتُ؟).
          ويترتَّب عَلى هذا مِن الفقه التثبُّت في العلوم الشَّرعيَّة حتَّى يَعْلم(44) على تحقيق ويقين، وَالبحث عن(45) ذلك مع الرفيع والوضيع على حدٍّ سواءٍ بالأدب، لأنَّ ذلك هو الطَّريق اللَّائق بالعلم، وإلَّا فصاحبه يُدعى: زائغ عَن طريق العلم وسيرةِ السَّلف الصَّالح مِن الصَّحابة وأتباعهم(46)، جعلنا الله من المتَّبعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين بمنِّه(47).
          وفيه دليل على كثرة رحمة النبيِّ(48) صلعم بأمَّتِهِ. يُؤخذ ذلك مِن إدخاله ◙ ، السُّرورَ عليهم بتحقيق الرُّؤيا التي هي خيرٌ بوجه لا يبقى فيه شكٌّ _وَهو كونه ◙ جعلها مِن النبوَّة، فيدخل بذلك(49) المسرَّة عليهم إلى يوم القيامة_ ونَفَى عنهم ما يهتمُّون به(50)، ويتخوَّفون(51) مِن الحلم(52)، فجعله مِن الشيطان الذي ليس له مقدرة(53) غير التَّخويف والتهويل(54)، وعلَّمهم المخرجَ مِن ذلك حسب(55) مَا تقدَّم ذكره في الكتاب، وبحسب ما يذكر في الحديث بَعْدُ، وتركَ لهم الَّتي تدلُّ على الشَّرِّ وليست بحلم(56) مِن قبيل المحتمل، وما هو مِن قبيل المحتمل فليس يكون عندهم له(57) خطر.
          وإذا تتبَّعتَ النَّظر رأيتَ عظيم الرَّحمة مِن المولى الكريم الذي مَنَّ علينا بهذا النَّبيِّ الكريم بهذه الشَّفقة علينا، والرَّحمة لنا، وَقد شهد الحقُّ / ╡ لَه بذلك بقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ربَّنا تمِّمها(58) مِن نعمة علينا، واجعلنا لها مِن الشاكرين.
          ويترتَّب عليه مِن الفائدة أنَّ إدخال السرور على المؤمنين مِن السُّنَّة، ولأهل السُّلوك(59) في هذا أقوى دليل لأنَّهم بنوا طريقهم عَلى جبر القلوب وإدخال السرور عَلى المؤمنين عامَّة، وَفيما تقدَّم آنفاً مِن استشهادنا(60) بقوله صلعم : «يَرَاها الرَّجُل الصَّالحُ أو تُرى له» تنبيهٌ على أنَّ الخير في هذه المبشِّرات إنَّما هو للصَّالحين، وَكذلك في كلِّ وجوه الخير في الدارين هم المقصودون به، وقد قال تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ} [يونس:64](61).(62).
          فيا عبدَ شهوته وأخا غفلتِهِ، بِعتَ كلَّ خيرٍ بصفقة بخسٍ، فهلَّا حكَّمتَ حاكم العقل فحَلَّ لك عقدة بيعك البخس، قبلَ تصرُّف يدِ المنايا في جميع بضائع حسِّك ومعناك، فَلا تجد للحلِّ محلًّا ولا وقتاً.


[1] في (ب): ((عن أبي هريرة قال: سمعت النبي صلعم يقول: لم يبق من النبوة إلا المبشرات. قالوا: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة)).
[2] قوله: ((ظاهر الحديث)) ليس في (ج).
[3] قوله :((إلَّا المبشرات، وهي الرؤيا الصَّالحة. والكلام عليه من وجوه منها)) ليس في (م) والمثبت من النسخ الأخرى.
[4] زاد في (ج): ((منه)).
[5] في (ب): ((إلى معرفة)).
[6] زاد في (ج): ((كيف))، زاد في (ت) و(ب): ((كيف كان)).
[7] قوله: ((اعلمْ أنَّ العرب تأتي بالماضي)) ليس في (ج).
[8] في النسخ: ((لا يبقى))، والمثبت هو الصواب.
[9] قوله: ((شعيب)) ليس في (ج).
[10] في (ج): ((لكم)).
[11] قوله: ((أي يصلح)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[12] في (ج): ((التسمية بينهما))، في (ت): ((النسبة بينهما)).
[13] في (ت): ((بينهما)).
[14] قوله :((ومِن أين يكون الجمع بينها وبين النبوة)) ليس في (م) و(ب)، والمثبت من (ج) و(ت).
[15] زاد في (ت): ((◙)).
[16] في (م): ((النبوة فلا))، وفي النسخ الأخرى: ((النبوة لا))، والمثبت من الصحيح.
[17] في (ج): ((ولوجه آخر)). وقوله بعدها: ((هو)) ليس في (ب).
[18] في (ج): ((وكما بدأ)).
[19] زاد في (ب): ((إنا كنا فاعلين)).
[20] في (ب): ((فتنقسم)).
[21] قوله :((ليس)) ليس في (م) و(ت) والمثبت من (ج) و(ب).
[22] في (ج): ((بحكم)).
[23] في (ج) و(ت): ((النسبة ومحتمل)). و في (ب): ((النسبة ويحتمل)).
[24] في (ج) و(ب): ((الأحلام)).
[25] في (م): ((تبشر))، وفي (ج) و(ت): ((تشعر))، والمثبت من (ب).
[26] في (ج) و(ب): (يبشر))، في (ت): ((فيُسَر)).
[27] في (ب): ((يحذر عنه، فإن بهذا أتت النبوة معلمة بطريق)).
[28] في (ت): ((ومحذورة)). و في (ب): ((ومبينة لطريق الشر ومحذرة)).
[29] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((حق)).
[30] في (ج): ((النفس)).
[31] في (ج): ((يؤيد)).
[32] في (ب): ((لرسول)).
[33] قوله: ((له)) ليس في (ب).
[34] في (ج): ((بشيء)).
[35] في (ب): ((وهذا ممنوع. هل المبشرات)).
[36] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((الأحكام)).
[37] في (ج): ((يتعلل)). وبعدها في (ب): ((بوجوده)).
[38] قوله: ((قد)) ليس في (ج).
[39] في (ت): ((واعلم)).
[40] في (ج): ((الإدراك لفوائد البديهة)). و في (ب): ((الفوائد البديهية)).
[41] في (ج): ((يراه)).
[42] قوله: ((يراها الرجل الصالح أو تُرى له، فلهذه النسبة ذكر ◙)) ليس في (م)، والمثبت من النسخ الأخرى.
[43] في (ج): ((أنها)).
[44] في (ب): ((حتى تعلم)).
[45] في (م) و(ت): ((مع))، والمثبت من (ج) و(ب).
[46] في (ت): ((الصحابة رضي الله عنهم وعن أتباعهم)).
[47] كذا في (ب)، وفي باقي النسخ: ((وأتباعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين. جعلنا الله من المتَّبعين لهم بمنِّه)).
[48] كذا في (م)، وفي باقي النسخ: ((رحمته)).
[49] في (ج): ((ذلك)).
[50] قوله: ((به)) ليس في (ت).
[51] في (م): ((ويتخوفون)) غير واضح.
[52] في (م) و(ج): ((الحكم))، والمثبت من النسخ الأخرى.
[53] في (ج) و(ب): ((قدرة)). و قوله بعدها: ((غير)) ليس في (ب).
[54] في (ت): ((والتأويل)).
[55] في (ب): ((بحسب)).
[56] في (ج): ((بحكم)).
[57] في (ب): ((عنده ذلك له)).
[58] في (ت): ((تمم)). و قوله بعدها: ((من)) ليس في (ب).
[59] في (ب): ((السنة)).
[60] في (ب): ((استشهاده)).
[61] زاد في المطبوع: ((فإذا كان الخيرُ كلُّه عاجلاً وآجلاً للصالحين، فيا ويحَ الطالحين، ويا خسارةَ الجاهلين، ويا قُبحَ المفرِّطين. اللهم اجعلنا مِن العاملين المتَّبعِين لسُنن المرسلين، بجاه سيِّد الأوَّلين والآخرين سيِّدنا محمِّدٍ المبعوث في الأُمِّيين. آمين)).
[62] قوله :((فإذا كان الخير كلُّه عاجلاً وآجلاً... سيّدنا محمّد المبعوث في الأميين. آمين)) ليس في النسخ و(ت)، والمثبت من المطبوع.