بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: من صام يومًا في سبيل الله بعد الله وجهه عن النار..

          134- قوله(1): (سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلعم يَقُولُ: مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللهِ ╡ بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَن النَّارِ سَبْعِينَ(2) خَرِيفًا). [خ¦2840]
          ظاهر الحديث يدلُّ على أنَّ هذا الثواب المذكور فيه للصائم في جهاد العدو، وإن كان يحتمل أوجهًا(3) كثيرة، لكن هذا هو ظاهره بالنص والضمن(4)، لكن له معارض وهو قوله ╕: «فازَ المفطِرونَ اليوم(5) بالأجرِ» قال(6) ذلك في غزوة كان بعض الصحابة فيها صائمًا وبعضهم مفطِرًا(7)، فسار يومًا(8) فلم يقدر الصائم على التصرُّف حين الوصول، وأتى المفطرون عند النزول فضربوا الخيام واستقوا الماء وقاموا بضرورات إخوانهم، فقال ◙ عند ذلك: «فازَ الْمُفْطِرُونَ اليوم(9) بالأجْرِ» والجمع بينهما هو أنَّ مَن كان(10) فيه أهليَّة للصوم وتوفية ضروراته مع القدرة على ذبِّ العدو وقتاله دون نَصَب يلحقه حتَّى ينقصه عن هذا الحال فهو الفائز بالأجر على مقتضى الحديث(11)، ومَن لم يُطِق ذلك فليأخذ بالحديث الثاني فهو أفضل له، أعني: الفطر.
          وقد يحتمل أن يكون الحديث على العموم فيكون في سُبل(12) البرِّ كلِّها كما(13) ذهب إليه بعض الصحابة حين لقي أحد أصحابه(14) وهو عامد(15) إلى المسجد للصلاة(16)، وقد اغبرَّت قدماه بغبار الطريق، فقال له: شهدت على رسول / الله صلعم أنه قال: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا رجلٍ في سَبِيْلِ اللهِ إِلَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ(17) النَّارُ»، فقال له صاحبه: ذلك خاصٌّ بالقتال في سبيل الله؟ فقال: لا بل في(18) كل أفعال البر. والكلام على هذا(19) الحديث مِن وجهين:
          الأول: قوله ◙ : (بَعَّدَ(20) اللهُ وَجْهَهُ عَنْ(21) النَّارِ) الوجه هنا عبارة عن الذات، أي: بعَّد الله ذاته عن النار؛ لأنَّ العرب تقول: وجه الطريق، وهي تُريد عينَه وذاتَه، ولا يسوغُ فيه غير ذلك؛ لأنَّه لوكان الوجه هنا على ظاهره لم تحصل الراحة بذلك إذا كان البدن في النار والوجه مصروف(22) عنها، ومُحالٌ أن يخبر النَّبي صلعم بعدم(23) حصول الراحة على فعل مِن أفعال القرب(24).
          الوجه الثاني: قوله: (سَبْعِينَ خَرِيفًا) يحتمل ثلاثة أوجه:
          الأول: أن(25) يُحمَل على ظاهره وليس بالقوي، إذ إنَّه لو كان فاعل ذلك يبقى سبعين خريفًا ثم يعود إلى النار لم تحصل بذلك راحة(26)؛ لأنَّ الله ╡ يقول: {أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ. ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ. مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ} [الشعراء:205 - 207]، وكذلك هذا المذكور أن(27) لو كان ممن يبقى سبعين سنة ثم يعود إلى النار فكأنَّه لم يرَ خيرًا ولا نعيمًا(28) قط.
          الوجه(29) الثاني: هو أنهَّ قد يكون ◙ كَنَى عن كثرة الأجر بالبعد عن(30) النار توسعة، يشهد لهذا قوله ╕: «اتَّقُوا النَّارَ وَلَو بِشِقِّ تَمْرَة»، فإذا كان شِقُّ تمرة يقي مِن النار فكيف بهذه المجاهدة العظيمة؟ / فالحاصل مِن هذا أنَّه أخبر بعظم(31) أجره بكناية بعدِ النار عنه.
          الوجه الثالث: وهو الأظهر والله أعلم، أنَّه كَنَى بالسبعين على أنَّ فاعل ذلك لا يدخل النار أبدًا؛ لأنَّ العادة عند العرب أنَّها(32) تُطْلِق السبعين لكثرة العدد الذي لا يتناهى، ومنه قوله تعالى: {(33)إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ} [التوبة:80]، فقال(34) ◙ : «والله(35) لأزيدنَّ على السبعين ما لم(36) أُنْهَ»، فأخذ ◙ بظاهر اللفظ شفقةً مِنه ورحمة ولم ينظر إلى عادة العرب في ذلك، فأنزل الله ╡ : {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ(37) أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ(38)} [المنافقون:6] فأنزل الله ╡ : {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة:84](39) فعُلم بالبيان آخرًا أنَّ هذا كان المقصود أولًا.


[1] في (م): ((عن أبي سعيد قال)).
[2] في (م): ((من النار أربعين)).
[3] في (ج) و(م): ((وجوهاً))، و قوله بعدها: ((لكن)) ليس في (م).
[4] في (م): ((بالضمان)).
[5] قوله: ((اليوم)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[6] في (م): ((فإن)).
[7] في (ج) و(م): ((مفطر)).
[8] قوله: ((فسار يوما)) ليس في (ل).
[9] قوله: ((اليوم)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[10] قوله: ((كان)) ليس في (م).
[11] في (ل): ((مقتضى حكمة الحكيم)).
[12] في (ط) و(م): ((سبيل)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[13] قوله: ((كما)) ليس في (ج).
[14] قوله: ((حين لقي أحد أصحابه)) ليس في (ل).
[15] في (ج): ((عائد))، وفي (م): ((الصحابة وهو عائد)).
[16] في (ج): ((إلى الصلاة)).
[17] في (ج): ((على)).
[18] قوله: ((في)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[19] قوله: ((هذا)) زيادة من (م) على النسخ.
[20] في (ج): ((باعد)).
[21] في (م): ((من النار))، وفي (ل): ((بعد الله وجه هذا العبد من النار)).
[22] في (ج): ((مصروفا)).
[23] في (ج): ((بعد)).
[24] في (م): ((البر)).
[25] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[26] في (ج): ((الراحة)).
[27] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[28] في (ج): ((ونعيماً))، وقوله: ((قط)) ليس في (ج) و(م).
[29] قوله: ((الوجه)) ليس في (م).
[30] في (م): ((من)).
[31] في (ج) و(م) و (ل): ((بعظيم)).
[32] قوله: ((أنها)) ليس في (م).
[33] زاد في (م): ((إنْ تستغفر لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ)).
[34] في (م): ((وقال)).
[35] قوله: ((والله)) ليس في (ط) و (ل) والمثبت من النسخ الأخرى.
[36] في (ط) و (ل): ((إن لم)) والمثبت من النسخ الأخرى.
[37] قوله: ((عليهم)) ليس في (م).
[38] في (ل): ((فأنزل الله ╡ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ)).
[39] قوله: ((فأنزل الله ╡: وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا)) ليس في (ج) و(م).