بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث أبي هريرة: أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر

          172-قوله صلعم : (أوَّل زُمْرَةٍ تَلِجُ الجنَّة...) الحديث. [خ¦3254]
          ظاهر الحديث: الإخبار بحسن أوَّل زمرة يدخلون الجنَّة، وما لهم مِن النَّظافة وحسن أزواجهم، والزمرة: الجماعة، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها: لِمَ شبَّه ╕ صورهم بصورة القمر ليلة البدر؟ وذلك لأنَّه أجمل شيءٍ في هذه الدَّار، ولو كان شيءٌ في هذه الدَّار أتمَّ(1) جَمالًا منه، لشبَّههم(2) به.
          وفيه بحث: وهو لِمَ قال ╕: (صُورَتُهم) ولم يقل: (وجوههم)؟ / والجواب: أنَّه ╕ ما أراد تمثيل(3) صورتهم بصورة البدر أنَّهم مثله ليس إلَّا، وإنَّما القمر هو نور، وليلة البدر كمل نوره، فيكون معنى التشبيه أنَّهم نوريون في أتمِّ ما يكون مِن النور، بدليل قوله صلعم : «لو أنَّ رجلًا مِن أهل الجنة اطَّلع فبدا سواره لطمس ضوء(4) الشَّمس كما تطمس الشَّمس ضوء النجوم»، وقال ╕: «لو أنَّ امرأة مِن نساء أهل الجنة اطَّلعت إلى أهل الأرض لأضاءت الدنيا وما فيها ولملأت ما بينهما ريحًا، ولَنصِيفُها(5) _يعني: خمارها_ خير مِن الدنيا وما فيها(6)».
          فإذا كان سواره يطمس ضوء الشَّمس، فكيف يكون(7) وجهه مثل البدر؟ هذا مستحيل، فبان ما أشرنا إليه أنَّه ╕ ما أراد إلَّا تمامَ نورهم بحسب نور تلك الدَّار، فلذلك شبَّه ╕ بالصُّورة ولم يذكر الوجه ولا شيئًا مِن الحواس، كما مثَّل مولانا جلَّ جلاله فرشهم فقال: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [الرحمن:54] الذي هو أعلى ما في هذه الدَّار، ولم يخبرنا عن الوجوه، لأنَّه ليس في هذه الدَّار شيءٌ يشبهها.
          وفيه دليل: على أنَّ حُسْنَ الخِلْقة مِن جملة النِّعم، يؤخذ ذلك مِن قوله صلعم، ذَكَرَه بتعريض المنِّ عليهم في تفضيلهم على غيرهم، بقوله ◙ : (صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ)(8) وفيه أيضًا ما يقوِّي ما قلناه، لأنَّه إذا كانت زوجتاه(9) يُرَى مِن إحداهما مخُّ السَّاق / منها الذي هو داخل العظم مِن وراء الجلد ومِن وراء سبعين حُلَّة، فكيف يكون وجهها؟ فترى السَّاق(10) منها(11) أجمل مِن القمر هنا! فكيف الوجه؟
          وهنا بحث: لِمَ قال ╕: (زَوْجَتَان) وقد قال صلعم : «إنَّ أقلَّ أهل الجنَّة منزلة يكون له اثنان وسبعون زوجةً وثمَانون ألف خادم»، فإذا كان أقلُّهم منزلة باثنين(12) وسبعين، فكيف بأعلاهم؟
          والجواب والله أعلم: أنَّ حُسن هاتين الزَّوجتين هو أعلى حُسن الزَّوجات هناك، ومِن أجل ذلك فُضِّل هؤلاء بأن أعطوا منهن اثنتين(13)، ويكون ذلك مثل شراب(14) أهل الجنَّة المقرَّبون يشربون مِن عين التَّسْنيم، ويمزج به شراب الغَيْر(15)، كما أخبر الحقُّ جلَّ جلاله بقوله تعالى(16): {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ. عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين:27- 28] حتَّى يكون لهم التَّفضيل(17) في كلِّ شيءٍ في الجمال والأزواج والشَّراب، وكذلك الفواكه كما(18) أخبر تعالى بقوله(19): {وَفَاكِهَةٍ ممَّا يَتَخَيَّرُون} [الواقعة:20] وقد قال(20) تعالى في أصحاب اليمين:{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} [الواقعة:32] ففي مثل هذا يتنافس المتنافسون.
          وقد ذكر عن بعض المتعبِّدين أنَّه رآه(21) بعض إخوانه قد أجهد نفسه في العبادة، فأخذ يندبه إلى الرِّفق قليلًا، فقال له: لا أقدر، لأنَّي رأيت فيما يرى النَّائم حوريَّةً مِن حور العين لها / حسنٌ وجمالٌ، فقلت(22) لها: لمن أنتِ؟ فقالت: لكَ، وأنا أحبُّكَ، وأخاف أنْ تَفتُر في العبادة فأفوتَك، فعاهدتها على أنْ لا أفتُرَ حتَّى يجمعَ الله بيننا، فلا يمكنني نَكثُ العهد.
          وقوله ╕: (لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ(23)) إعلام منه ╕ بتنزيه(24) تلك الدَّار عن الفضلات المستقذرة، وعن النَّجاسات بخلاف هذه الدَّار.
          وفي ذلك دليلٌ: على عظيم قدرة الله تعالى، يؤخذ ذلك مِن كون أهل تلك الدَّار ليس لهم غائطٌ ولا بولٌ ولا فضلةٌ مستقذرةٌ مع كثرة أكلهم، لأنَّه قد أخبر صلعم (25): «أنَّه يُؤتى للمؤمن بغذائه في مائدةٍ،(26)عليها ألف زبديةٍ مِن الفضة في كلِّ زبدية لون لا يشبه غيره»، يعني في الطَّعم أو كما قال ╕: «يأكل مِن آخرها مثل ما يأكل مِن أوَّلها»، وهنا إذا أكل زيادةً يسيرةً تَخِمَت معدته وكثرت فضلاته، فهذا أدلُّ دليلٍ على عظيم القدرة، وأنَّ الأشياء هي بمقتضى الإرادة لا بالعادة ولا باللازم.
          وقوله ╕: (آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ) فيه إخبار بالتَّمتع هناك بالذَّهب، وهو هنا محرَّمٌ وقوله: (آنِيَتُهُمْ) يعني على اختلافها هي مِن الذهب، وقد قال ╕(27) في حقِّ الكفَّار: «هو لهم في الدُّنيا وهو لنا في الآخرة» يعني أواني الذهب، وفي إخباره ╕ بهذا دليلٌ / على سَعَةِ رحمة الله تعالى وغناه عن جميع خلقه، يؤخذ ذلك مِن كونه ╡ قد أعطى الكفَّار هنا(28) أنْ يستمتعوا بأواني الفضَّة والذَّهب مع كفرهم حتَّى لا يُحرموا منه(29) بالكُلِّيَّة، وكذلك(30) جعل ╡ لهم حَظًّا مِن النَّعيم(31) في هذه الدَّار.
          وفيه أيضًا دليلٌ: لأهل السُّنَّة(32) الذين يقولون: إنَّ أسماء الله ╡ كلُّها حقٌّ(33) لا بدَّ أنْ يظهر مِن كلِّ اسم أثر في العباد(34) يدلُّ عليه، فمِن أسمائه ╡ : (الرحمن) فأعطى مِن مدلول هذا الاسم نسبة للكفَّار في هذه الدَّار، ومن أسمائه ╡ : (المنتقم) فنال المؤمنون مِن مدلول هذا الاسم ما يلحقهم في هذه الدَّار مِن التَّشويشات(35) كلٌّ بحسب ما شاء الله تعالى وما قسم.
          وقوله صلعم : (أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) فذكره ◙ هنا مِن أمشاطهم أنَّها هنا مِن الفضَّة والذَّهب دلَّ على منع اتخاذها هنا وأنَّه لا يجوز(36).
          وهنا بحث: وهو أنْ يقال: ما حاجتهم لاتِّخاذ الأمشاط(37)، وهم ليس معهم قذَر ولا هوامٌّ ولا شيءٌ يؤذيهم(38)؟ فالجواب: أنَّه قد يكون(39) اتخاذها على جهة التَّنعم والتَّرفه، لأنَّها ممَّا يزيد بها الحسن، وإن لم يكن هناك قذرٌ ولا هوامٌّ يؤذي. وفيه دليلٌ: على كمال نعيم تلك الدَّار.
          وقوله ╕: (وَمَجَامِرُهُم الْأَلُوَّةُ)(40)دليلٌ / على فضل هذا العود الذي(41) منه مجامر أهل الجنَّة، وهذا أيضًا مثل ما تقدَّم في الأمشاط(42)، لأنَّ اتخاذهم المجامر لغير ضرورة، بل هي مِن جملة التَّرفُّه.
          وقوله ╕: (وَرَشْحُهُم الْمِسْكُ) الكلام عليه كالكلام(43) على صورتهم صورة البدر(44)، لأنَّه أجلُّ المشمومات في هذه الدَّار، وممّا(45) يبيِّن ذلك ما ذكرناه قبل مِن قوله ╕: (ولَملأَتْ مَا بَيْنَهُما رِيحًا)، فأين هذا مِن المسك؟ لكن يكون نسبة المثال، أنَّ عرقهم مِن أجلِّ طيب تلك الدَّار كما أنَّ المسك هنا مِن أجلِّ الطِّيب في هذه الدَّار.
          وقوله ╕: (لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ...) إلى آخر الحديث، فيه مِن الفقه أنَّ مِن أكمل النَّعيم اتِّفاق العيال، لأنَّه مِن جملة(46) سرور النَّفس، ولذلك كان بعض السادة إذا رأى تغيُّرًا في خُلُق أهله قال: زَلَّة وقعت مني فيرجع(47) فينظر مخابي النفس حتى يجد تلك الغفلة التي وقعت منه(48) لأنَّه لا يكون مع الرضى والاستقامة تشويش.
          وفيه دليل: على توافق شهواتهم، يؤخذ ذلك مِن قوله ╕: (قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ).
          وفيه دليل: على أنَّ سبب الافتراق في هذه الدار ما في القلوب مِن التباغض والضغائن، فلمَّا طهرت هناك القلوب كما أخبر جلَّ جلاله في كتابه بقوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الأعراف:43] / جاء الود والسرور التام.
          وفيه دليل: على أنَّ حال أهل تلك الدار على حالتين: تسبيحٌ لله تعالى مرةً وتنعُّمٌ أخرى، يؤخذ ذلك مِن كونه ╕ أخبر عن(49) تسبيحهم في الزمان بقدر ما أخبر مولانا جلَّ جلاله عن قدره في أكلهم بقوله ╡ {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:62] وقد جاء أنَّهم يُلْهَمون التَّسبيح كما يُلْهَمون النفَس، فصحَّ لهم نعيم دائم مختلف الوجوه(50)، جعلنا الله منهم بفضله ومنِّه(51) وصلَّى الله على سيِّدنا ومولانا محمَّد الكريم وآله.


[1] في (ج): ((تم)).
[2] في (ج): ((يشبههم)).
[3] في (ج): ((من يمثل)) وفي (م): ((من تمثيل)).
[4] في (ج) تحتمل: ((يطمس ضوء أية)).
[5] صورتها في (م): ((ولنصها)).
[6] قوله: ((وما فيها)) ليس في (م).
[7] في (م): ((الشمس فيكون)).
[8] قوله: ((يؤخذ ذلك من قوله صلعم ذكره... صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ)) ليس في (ج) و (م).
[9] في النسخ: ((زوجاته)) والمثبت هو الصواب وهو مطابق للمطبوع.
[10] في (م): ((وجهها في الساق)).
[11] في (ج): ((فنرى النساء ومنها)).
[12] في (م): ((مائتين)).
[13] في (ج): ((اثنين)) وفي (م): ((ثنتين)).
[14] في (ج): ((ثواب)).
[15] في (م): ((العين)).
[16] في (ج): ((كما أخبر سبحانه فقال جل من قائل)).
[17] في (ج): ((التفضل)).
[18] قوله: ((كما)) ليس في (ج).
[19] في (ج): ((كما أخبر سبحانه فقال تعالى)).
[20] في (ج) و (م): ((وقال)).
[21] في (ج): ((رأى)).
[22] في (م): ((فقال)).
[23] قوله: ((ولا يتغوطون)) ليس في (ج) و (م).
[24] في (م): ((تنزيه)).
[25] في (ج): ((لأنه صلعم قد أخبر)).
[26] زاد في (ج) و (م): ((تكون)).
[27] العبارة في (م): ((وقوله ◙ آنيهم يعني على اختلافها من الذهب فيه إخبار بالتمتع هناك بالذهب وهو هنا محرم وقوله آنيتهم يعني على اختلافها هي من الذهب وقد قال ◙)).
[28] قوله: ((هنا)) ليس في (ج).
[29] قوله: ((منه)) ليس في (م).
[30] في (ج): ((ولذلك)).
[31] في (م): ((النعم)).
[32] في المطبوع: ((لأهل الصوفة)).
[33] قوله: ((حق)) ليس في (ج) و (م).
[34] في (ط) و(م): ((العبادة)) والمثبت من (ج).
[35] في (ج): ((الدار والتشويشات)).
[36] قوله: ((وقوله صلعم : (أَمْشَاطُهُمْ مِنْ الذَّهَبِ... اتخاذها هنا وأنَّه لا يجوز)) ليس في (ج) و (م).
[37] في (ج) صورتها: ((الاشتاط)).
[38] في (ج) صورتها: ((مودتهم)).
[39] قوله: ((قد يكون)) ليس في (ط) والمثبت من النسخ الأخرى.
[40] زاد في (ج) و (م): ((فيه)).
[41] في (ج) و (م): ((إذ)).
[42] في (ج): ((الامتشاط)).
[43] في (ج): ((مثل الكلام)) وفي (م): ((الكلام عليه مثل الكلام)).
[44] قوله: ((صورة البدر)) ليس في (ج).
[45] في (ط) و(ج): ((وما)).
[46] قوله: ((جملة)) ليس في (ج).
[47] قوله: ((فيرجع)) ليس في (م).
[48] قوله: ((فيرجع فينظر مخافي النفس حتى يجد تلك الغفلة التي وقعت منه)) ليس في (ج).
[49] في (ج): ((عنه)).
[50] في (ج): ((الوجود)).
[51] قوله: ((ومنه)) ليس في (ج).