بهجة النفوس وتحليها بمعرفة ما عليها ولها

حديث: لعن الله الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة

          233- قوله صلعم : (لَعَنَ اللهُ الوَاصِلَة...) الحديث. [خ¦5933]
          ظَاهِرُ الحَدِيْثِ لعنُهُ ◙ لهذه الأربعة المذكورة فيه، والكلام عليه مِن وجوه:
          منها أن يقال: ما معنى تلك الأفعال التي لعن النَّبيُّ صلعم مَن فَعَل منها واحدة؟ وما معنى اللعنة فقد تقدَّم في الحديث قبلُ معناها؟
          وهل هذا النوع مِن الدُّعاء المَخُوف أوْ لا؟ وقد تقدَّم الكلام عليه أيضًا في الحديث قبل، وكذلك في التوبة منها قد تقدَّم الكلام عليه، وما معنى لعنته صلعم لِـمَن فعلَ واحدةً مِن هذه الأربعة؟
          فأمَّا قولنا: ما معناها؟ فإنَّ الواصِلة هي التي تَصِل شعرَها بشَعْرٍ آخَرَ ليس مِن شَعرها، و ألحق العلماءُ بها مَن وصَلَت(1) شعرَها بأي شيءٍ وصَلَته(2) مِن صوف / أو حرير أو غير ذلك، و المستوصِلة(3) هي التي تفعل ذلك بغيرها، والواشمة هي التي تَشِم شيئًا مِن جسدها، وكانت عادتهنَّ أن(4) يغرِزن الموضع الذي يُرِدن أن يَعملنه شامَةً بالحديد حتى يدمى الموضعُ ثم يُحشَى بالكُحل الأسود، فيبقى ذلك الأثر يشبه الشامة التي هي مخلوقة، والمستوشِمة هي التي تفعل ذلك بغيرها.
          ويترتب عليه مِن الفقه(5): أنَّ عامل المحرَّم و الذي يعينه على ذلك في الإثم سواء، يشهد لذلك قوله صلعم في شارب(6) الخمر: «لعنَ الله شارِبَها وحَامِلهَا وبائعَها وشَاهِدَها وعَاصِرهَا».
          وأما قولنا: ما معنى العِلَّة في ذلك؟ فقد اختلف العلماء فيها، فمنهم مَنْ قال: إنَّ ذلك لِمَا فيه مِن التدليس، و هذا ضعيف، لأنَّه يخصِّص(7) عموم اللفظ بغير دليل، ومنهم مَن قال: لتغيير خلق(8) الله تعالى، وهو الظاهر فإنَّه قد جاء في حديث غير هذا حين ذكر ◙ الفالجة والمتفلِّجة، قال فيه: «المغيِّرات لخَلق الله تعالى»، ويحمل على هذا النَّهْيِ(9) كل ما أشبه ذلك، ممَّا(10) يفعله النِّسوة مِن تغيير ديباجهنَّ(11) بالحُمرة وما في معناها.
          وقد جاء عن عمر ☺ أنَّه أنكر ما هو أقل مِنْ هذا، وهو أنَّه أمر في خطبته النسوة أنْ لا يخضبنَ أطراف أصابعهنَّ بالحناء دون باقي أيديهنَّ، وقال: مَن كانت خاضبةً فلْتَخْضِب إلى هنا وأشار إلى تحت الكوعين، فإذا كان نَهيُ عمر ☺ عن مثل هذا، فما بالك بالغير مِن أفعالهنَّ التي هي / أشدُّ مِن ذلك؟ وقد تعدَّدت حتى لا تكاد تحصى عِدَّةً(12).
          وبعض مَن ينسب إلى العلم في الوقت يجعل(13) ذلك مِن قبيل الزينة الجائزة شرعًا، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون على ذهاب العلم وأهله، و يحتجُّ بما ذكر عن الإمام مالك ☼ أنَّه أنكر أن يصحَّ عن عمر أن يجعل ما ذكرنا عنه من الوشم، و هذا لا حُجَّة فيه، لأن مالكًا ما أنكر على عمر مقالته(14)، و إنَّما أنكر أنْ يعتقد معتقد أنَّ ما نهى عنه عمر إلا أنَّه مِن الوشم الذي لعن رسول الله صلعم فاعله.
          ونهيُ عمر ☺ عن ذلك إنما هو لمعانٍ منها: أنَّهُ أشبه الوشم وما(15) أشبهه أعطاه حكمه، و ما حكم به فعلينا(16) اتباعه، لقوله صلعم : «عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء بعدي» وهو رضي الله عنه وعنهم أجمعين منهم(17).
          وطريق آخر: أنَّ ذلك لم يكن في زمان رسول الله صلعم، وإنَّما كان شأنهنَّ أن يخضبن إلى حيث أشار ☺، فنهاهنَّ مِن أجل مخالفة السُّنَّة، وقد يكون نهيه مِن أجلهما معًا إحداهما قاتلي فكيفَ إذا اجتمعا.
          وقد قيل: إنما أنكر مالك الرواية أنْ تصحَّ لا الحكم، لأنَّ الإمام مالكًا كان(18) أكثر النَّاس احترامًا لمن تقدَّمه مِن السلف فكيف بالخلفاء، ولو لم يكن لمالك شاهد على ذلك إلا مسألة البناء في الرُّعاف / لأنَّه قال: القياس والفقه يقتضي قطع الصلاة، و لكن اتِّباع السلف أولى، و بذلك ساد على غيره، وكذلك سنَّة الله تعالى بعده في خلقه: ما وقع مِن أحد احترام السَّلف والاقتداء بهم إلا رفع الله تعالى قدره على أبناء وقته وجنسه، جعلنا الله منهم بفضله ومنِّه(19).


[1] قوله: ((بشعر آخر ليس من شعرها وألحق العلماء بها من وصلت)) ليس في (ج) والمثبت من (م).
[2] في (ج): ((وصلت)) والمثبت من (م).
[3] في (ج): ((والمتوصلة)) والمثبت من (م).
[4] قوله: ((أن)) ليس في (م).
[5] في (م): ((ويترتب على ذلك من الفقه)).
[6] في (م): ((شاربي)).
[7] في (م): ((تخصيص)).
[8] في (ج): ((التغيير خلقة)) والمثبت من (م).
[9] زاد في (ج): ((عن)) والمثبت من (م).
[10] في (ج): ((ممن)) والمثبت من (م).
[11] العبارة في (م): ((من غير تغير ديباجتهن)).
[12] قوله: ((عدة)) ليس في (م).
[13] في (ج): ((فجعل)) والمثبت من (م).
[14] في (ج): ((لأن ما أنكر مالك على عمر مقال)) وبعدها بياض مقدار حرفين، والمثبت من (م).
[15] في (م): ((ولما)).
[16] في (م): ((علينا)).
[17] قوله: ((منهم)) ليس في (ج).
[18] في (م) و (ج): ((لا الحكم وأما الإمام مالك فكان)).
[19] في (م): ((بمنه وفضله)).